«القروي» شاعرُ الحنين إلى مرابع الصبا وعِشْق الحريّة

«القروي» شاعرُ الحنين إلى مرابع الصبا وعِشْق الحريّة

يزخر أدبنا العربي الحديث والمعاصر بنماذج وشخصيات، قد لا يكرّرها التاريخ إلا في ظروف ومنعطفات استثنائية، بالنظر إلى خط التزامهم بقضايا الإنسان العربي، والدفاع عن تطلعاته وآماله القريبة والبعيدة، ولو كانت رسالة الالتزام هذه على حساب حياتهم الشخصية، وشؤون أسرهم وأهاليهم وأقربائهم، لأنهم آمنوا إيمانًا راسخًا برسالة الكلمة ودورها في التغيير والارتقاء بالإنسان العربي والمجتمع الذي يعيش بين جنباته إلى مستويات مرغوبة فاضلة... ومن بين تلك النماذج المضيئة الأديب الشاعر اللبناني رشيد سليم الخوري، الذي اشتهر في الأوساط الأدبية باسم «الشاعر القروي». وهذا المقال يسلّط بعض الأضواء على جوانب من شخصيته وأدبه ونضاله في الحياة التي عاشها في سبيل تحقيق المبادئ والقيم التي آمن بها ورسّخها باقتدار وكفاءة واضحة في فنه وأدبه.

 

الاسم الحقيقي للشاعر القروي هو رشيد سليم الخوري، ولد بقرية صغيرة تُدعى «البربارة»، تقع على ربوة محلها بين مدينتي جبيل والبترون في جنوب لبنان، كان مولده في يوم الخامس من أبريل عام 1887م ، يبدو أنه ورث جانبين لا يمكن تجاهلهما، الأول هو العلم أو المعرفة بمفهومها الواسع، وهذا الجانب ورثه عن جده لأبيه الذي يُدعى «طنّوس»، الذي كان يمارس الطب والمعارف الصحية وفق الطرائق العربية التقليدية وكان له اهتمام وإفادة واضحة من كتب ابن سينا خاصة كتاب «القانون في الطب»، أما الثاني فهو التجارة، الذي ورثه عن جده لأمه الذي كان يُدعى «أسعد بشارة الرحباني»، الذي نزح من جبل لبنان وتحديدًا من قرية «الشوير» إلى قرية البربارة وزاول فيها عدة حرف، أبرزها مهنتا الحدادة والسباكة.
   وسوف نلاحظ أنّ هذين الجانبين الموروثين قد انعكسا انعكاسًا بيّنًا واضحًا على مسار حياته وشعره وأدبه، وإنْ كان والده أيضًا «سليم بن طنوس بن حنا الخوري» قد جمع بينهما في حياته، أي: التعليم أو العلم من ناحية والتجارة من ناحية أخرى، وكأنّ الأسرة برمتها قد جمعتْ بين هاتين الخاصيتين، لذلك فإن أول عمل للشاعر القروي تمثل في التعليم، حيث مارسه مدة سبع سنوات في قريته الصغيرة «البربارة».

سبب التسمية أو «الهجاء المحبّب»
أما عن سبب ذيوع تسمية هذا الشاعر الأديب بلقب «القروي»، فكما صرّح الشاعر في سيرته الذاتية التي تصدى بنفسه لتطريسها وبسطها لقرّائه ومتابعي أدبه وفنه، فإن ذلك يعود إلى ظهور ديوانه الأول، أي ديوان «الرشيديات»، حيث طالعه أحد النقاد هو الأستاذ نجيب قسطنطين الحداد صاحب مجلة «المؤدب»، فكتب معلقًا على مضمون أشعار هذا الديوان قائلًا: «من هذا القرويّ شاعر جُرن الكُبّة؟»، وهو كما يظهر هجاء واستصغار للشاعر وانتقاص من القيمة الفنية لشعره، بيد أن رشيد سليم الخوري، راق له هذا الوصف، بل اعتبره مدحًا لا ذمًّا أو هجاءً، فطفق يوقّع به كلَّ ما ينشره من قصائد ومقطوعات وخواطر في بعض المجلات التي كان يتعامل معها حينئذ، مثل مجلة «الشرق» ومجلة «السمير» ومجلة «العُصبة» ومجلة «العرفان»؛ والعجيب أنّ هذا الوصف أصبح مع مرور الزمن عَلَمًا عليه، فلا يُذكر اسم رشيد سليم الخوري إلاّ مقرونًا بوصف «الشاعر القروي». إلى درجة أن الديوان الثاني صدر للشاعر بعنوان «ديوان القرويات». وقد وصف الشاعر القروي حالته الشعورية عند تلقيه لهذا النعت أو الوصف للمرة الأولى بقوله: «وقد عَرَتْني هزّة، ثم طِرْتُ إلى أقرب حديقة ونظمتُ قصيدتي: لعينيك يا لبنان، وهي أول قصيدة حملتْ توقيع الشاعر القروي».
أما عبارة «جُرن الكُبّة» فليست عبارة أو جملة من العامية اللبنانية، بل هي من العربية الفصحى، فالجُرْنُ: جمعه أجرانٌ، يعني الموضع أو الوعاء الذي يُداسُ فيه البُرُّ والثمار والحبوب لغرض إعداد طعام ما، ثمّ أصبح يُستغل في بعض البلاد العربية لفرم اللحم. أما الكُبّة فهي أُكلة عربية شرقية أصيلة بلاد الشام، عبارة عن مزيج من اللحم المفروم مع البرغل واللوز والجوز والصنوبر... إلخ، ويبدو أنّ الناقد نجيب قسطنطين الحداد كان يقصد بهذه العبارة كون القصائد الأولى التي طالعها للشاعر رشيد سليم الخوري عبارة عن خليط مفروم من الألفاظ والمعاني والأفكار غير المنسجمة، فكأنها تشبه خليط جُرن الكُبّة!!
سافر القروي رفقة شقيقه «قيصر» إلى البرازيل بناءً على دعوة وصلته من عمه الذي كان مسؤولًا في البحرية البرازيلية، وذلك سنة 1913م، ويبدو أنّ الدافع الذي شجّعه على الهجرة يتمثل في التطلّع إلى تحسين المدخول المادي والارتقاء بمستوى العيش؛ وفي مهجره جمع القروي بين النشاطين الثقافي والتجاري، حيث رأس تحرير مجلة «الرابطة» لمدة تزيد على ثلاث سنوات، ثم أشرف على رئاسة تحرير مجلة «العصبة الأندلسية» بعد رئيسها الأول ميشال معلوف. والعصبة الأندلسية هي الرابطة الأدبية لأدباء المهجر الجنوبي خاصة البرازيل والأرجنتين، تأسست سنة 1933م بالبرازيل، أما رابطة أدباء المهجر الشمالي فهي «الرابطة القلمية» التي تأسست سنة 1920م في نيويورك، وكان جبران خليل جبران أول رئيس لها.
 رجع الشاعر القروي إلى موطنه سنة 1958م، بعد هجرة وغياب طويلين داما خمسة وأربعين عامًا، حيث تمّ الاحتفاء به، والترويج لشعره وأدبه، كما كُرّم عديد المرات اعترافًا بمواهبه الأدبية ومواقفه المشرّفة في الدفاع عن قضايا الوطن العربي والدعوة إلى وحدته وتحرّره من هيمنة المستعمِرين الناهبين لثرواته وخيراته، ومن بينها تكريمه من قِبل الرئيس جمال عبدالناصر في قصر الضيافة في دمشق خلال فترة قيام الجمهورية العربية المتحدة، التي اعتبرها الشاعر القروي تمهيدًا حسنًا للوحدة العربية الشاملة، كما كرّمه أيضًا الرئيس فؤاد شهاب في 29 يوليو سنة1959 م وقلّده وسام الأَرز الفاخر. وكانت وفاته بقريته البربارة فجر يوم 27 من شهر أغسطس سنة 1984م، ثمّ تمّ دفنه يوم 29 من أغسطس بحديقة بيته بحضور كثيف من أهل الأدب والثقافة والسياسة من داخل لبنان ومن خارجه؛ وقد ترك الشاعر وصية كتبها سنة 1977م، تفيد بأن يصلي على جثمانه شيخ مسلم ومطران نصراني، وبأن يُنصب على قبره شاهد خشبي يُدوّن عليه هلال وصليب وهما متعانقان وأنْ تُكتب عليه سورة الفاتحة وآية من الإنجيل. وذلك في تقديره رمز مهم لوحدة الأمة العربية بكلّ أطياف مكوّناتها العرقية والدينية والمذهبية. ترك الشاعر القروي ثروة أدبية وشعرية معتبرة تمثلت في الدواوين والكتب التي أصدرها، أهمها: «البواكير»، «الرشيديات»، «القرويات»، «الأعاصير»، «الزمازم»، «الأزاهير»، «زوايا الشباب»، «موجات قصيرة».

استعلاء وأنفة وشموخ
من بين مزايا وصفات الشاعر القروي الاستعلاء على حطام الدنيا الزائل، والتشبث بقيم المروءة وشمائل الأنفة، ومن ذلك ما حكاه الدكتور عبداللطيف شرارة، من أنّ بعض عارفي فضل القروي ومقدّري قيمة شعره وأدبه وفنه فكّروا في اقتناء منزل فخم في مدينة ساو باولو البرازيلية وإهدائه له، وعندما تناهى هذا الخبر إلى سمعه رفض هذا الصنيع بشدة، ولاذ في موقفه برفيق دربه الأستاذ «جورج صيدح»، قائلًا له: «ألا ترى أن المكافأة المادية تُنزل الشاعر عن عرش إبائه وتَحدُّ من حرية قلمه، وتُخفتُ صوته، وتُفقده سحره وتأثيره؟ فأنا أشعر أني أخسر بهذه الحملة أكثر مما أربح، ولو شيّدوا لي القصور. إنّ أمنيتي بعد هذه السن التي بلغتها هي قبر في وطني لا قصر في غربتي، فالكفاف يكفيني، والغِنى لا يُغنيني» (عبداللطيف شرارة: الشاعر القروي، ص56 ــ57).
كان القروي يحاول دائمًا التغلّب على الفاقة والاحتياج، وفي سبيل بلوغ أمنياته تشبّه بوالده وأجداده في الجمع بين طلب العلم والثقافة والاشتغال بالتعليم ممارسة بعض الأنشطة التجارية المتواضعة، ولذلك اشتغل في مهجره بالبرازيل بائعًا متجولًا، كما اشتغل معلمًا للموسيقى والعزف على العود، ولفترة قصيرة اشتغل بالتعليم في إحدى المدارس العربية اسمها «مدرسة زهرة الإحسان»، وهي مدرسة تابعة للمهاجرين العرب أغلبهم من لبنان وسورية، ثم فتح له متجرًا لبيع أربطة العنق. وقد شهد له صديقه الأستاذ جورج صيدح بهذه الروح الوثابة إلى طلب المعالي، والاكتفاء من متاع الدنيا بما يحفظ عليه كرامته الإنسانية، وذلك بقوله: «عاش القروي بالكفاف، وغالب الحرمان بالقناعة، وآسى نفسه بمثالية الرسالة التي يؤديها بشعره إلى أبناء قومه».

القروي والحنين إلى الوطن
من أهمّ وأوضح الأغراض في أدب وشعر الشاعر القروي، غرض الحنين إلى وطنه وأهله ومرابعه الأولى التي نشأ بين أحضانها في صباه الباكر، وهذا أمر طبيعي فطري، فكلّ إنسان عاقل سوي العاطفة نلقاه متيّمًا بحبّ وطنه وحبّ أهله وعشيرته، بيد أن منسوب هذه العاطفة قد يتضاعف إلى حدّ التورّم إذا أجّجته نار الغربة، لا سيما إذا طالت حتى تجاوزت الحدود الزمنية المعقولة، وهذه القضية تتجلى بارزة جدًا في أدب القروي النثري والشعري على السواء، وفي ذلك يقول:
أنا في غربة عن الأهل، لكن
    عنكَ يا ربُّ يستحيلُ اغترابُ
أنا طفلٌ وأنتَ تحرسُ مهدي
    فلتكشّر عن النيوب الذئابُ
فالشاعر يستجير بخالقه، أملًا في تخفيف وطأة الاغتراب عن روحه ونفسه، إلى حد أنه يتخيل نفسه طفلًا لا يزال في مهده تحت العناية الربانية، وهو هنا يستدعي طاقة الصمود أمام مصاعب الحياة وهموم العيش التي كدّرت عليه صفو ما يتطلع إليه من أمل تحقيق جودة الحياة ورغد العيش.
وفي مقطوعة أخرى تتجلى أيضًا هذه العاطفة لدى الشاعر فتضطرّه مكرَهًا إلى التصريح بالدوافع التي أرغمته على هذه الغربة وهجر أرض وسماء وطنه الحبيب، وفي مقدمة هذه الدوافع الفقر ومشكلة الاحتياج فيقول:
أرومُ إلى رُبى لبنانَ عَودًا
    ويُمسكني عن العود افتقارُ
ولو خُيّرتُ لم أهجر بلادي
    ولكن ليس في العيش اختيارُ
وفي قصيدة تطفح ألمًا وحزنًا، يتذكّر القروي أيام شبابه، وكيف أنّ المهجر لم يحقق له ما كان يصبو إليه، ولا ريب أنّ الربط بين هذين الطرفين المتقابلين في حياة الإنسان يُعمّق جراح الألم بعنفوان شديد قد يستعصي على الوصف والتصوير، فيقول:
جلستُ وحدي حزينًا
    أبكي زمانَ صِبايا
و ما كَبِرْتُ ولكن
    أبْلتْ شبابي البَلايا
ليتَ المشيبَ دهاني
    وما دَهَتني الرزايا
سعيتُ أطلبُ رزقي
    على طريق المنايا
فضاع بالسعي عُمري
    وما بلغتُ مُنايا

قضايا الوطن العربي في شعره
أما حضور هموم وقضايا وتطلعات الوطن العربي في شعر القروي فتحتاج إلى بحث مطوّل وإلى تتبّع دقيق في أعماله الكاملة، خاصة القضايا المتعلقة بمطلب التحرّر زمن الاحتلال الاستعماري الغربي لمعظم أقطار الوطن العربي، فهو أديب ثائر ملتزم بتطلعات أمته وأشواقها إلى الحرية والتقدم والنهوض والنسج على منوال الأمم التي توقّلت في مدارج الحضارة والمدنية، وبناء الإنسان ورعايته من شتى الجوانب التي تحقق إنسانيته الكاملة، وفي هذه الأبيات نجد القروي يتصدى للاستعمار منكرًا عليه جريرة استعباد الشعوب وسلب حريتها وكرامتها، داعيًا في الآن نفسه إلى الثورة على هذا المستعمِر البغيض الذي نسي دروس التاريخ التي لقنها لأسلافه القدماء البطل المسلم العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فيقول في نبرة شعرية موسيقية حزينة:
مُستَعْبِدُ الإنسانِ عَبْدٌ للأذَى
    ما أجدرَ الأحرارَ أنْ يَتَحَرّروا
بمكارمِ الأخلاقِ قَبلَ العِلمِ سُدْ
    يا أيُّها المتقــدّمُ المتأخّـــرُ
يَدْعوكَ شعبُكَ يا صلاح الدين قُمْ 
    تأبى المروءَةُ أنْ تنامَ ويَسْهروا
نَسيَ الصليبيونَ ما علّمتَهُمْ
    قبلَ الرّحيلِ فَعُدْ إليهم يَذكُروا
تتغيّرُ الأجرامُ في أفلاكها
    وصِفاتُنا الغرّاءُ لا تتغيَّرُ
فإذا أناخَ بنا الزّمانُ فإنّما
    عَرَضٌ أُزيلَ ولمْ يُمسَّ الجوهَرُ
إنّ الشاعر القروي ينفخ في إرادة الشعوب الرازحة تحت نير الاستعمار وقهريته الباطشة، مذكّرًا بأصالة هذه الأمة وبقيمها الإنسانية الثابتة، فهي لا تتغير حتى مع حدوث ما يبدو مستحيلًا، وأنّ ما أحلّ بها من نوائب وخطوب أخّرتها عن القيام ببعض أدوارها التي عُرفت بها في تاريخ البشرية، لا تعدو أن تكون عَرَضًا عابرًا لا يمكنه أن يؤثر في طبيعتها وجوهرها الأخلاقي والفكري والإنساني.
و في قصيدة له بعنوان «يا أمة الشرق» يواصل الشاعر القروي بث روح اليقظة بين أبناء أمته منبهًا إلى تداعيات مخاطر أعداء الحرية، وأنّ الحل يكمن في التآزر والتعاون والوحدة ضمن نطاق معمار الأمة الواحدة المتكافلة، فيقول:
رفقًا بني وطني بأنفسكمْ ألا
    يكفيكُمُ خطرُ العدوّ الأعجمي؟
ما الحرب حربُ تعصّبٍ للدين بل
    هي جولَةُ اليَقظانِ بين النُوَّمِ
هي جثة الرئبالِ ينهشُها البِلى
    ليسـتْ مسيـحيًا يكيدُ لمُسلِمِ

 إن الشاعر القروي في هذه الأبيات الشعرية يتصور أن كيان هذه الأمة هو كيان الرئبال أي الأسد (الرئبال يُطلق على الذئب أيضًا)، وأنّ هذا الكيان استحال جثة تنهشه النوائب وعوادي الزمن من كلّ لون، بيد أن اليقظة الصحيحة والنأي عن روح التآمر والكيد بين مكوّنات الأمة وطوائفها كفيلان بعودة الروح والقوة لهذا الكيان مرة أخرى؛ وهذه حقيقة تؤكدها حركة التاريخ وتثبتها صيرورة وقائع وتجارب الكثير من الأمم القوية الشامخة بتآلفها وانسجامها ووحدة أهدافها.
وبعد، فهذه لمحة ومراجعة سريعة لجوانب من حياة وأدب شاعر عربي كبير، هَدَفْنا من خلالها إلى التذكير بصفحة مشرقة من صفحات أدبنا الحديث والمعاصر، نأمل أن تتأسى أجيالنا الجديدة بما تتضمنه من مواقف نبيلة، وأن تستلهم ما تنطوي عليه من قيم ومبادئ خالدة سامية ■