قسطنطين هانسن «مجموعة فنانين دنماركيين في روما»

قسطنطين هانسن «مجموعة فنانين دنماركيين في روما»

يبدأ الحديث عن هذه اللوحة بالإشارة إلى مرحلتها التاريخية المذهلة. فمنذ أواخر القرن الثامن عشر، عرفت الدنمارك سلسلة من الكوارث استمرت لنحو عشرين سنة، بدأت عام 1794م، بحريقين التهما جزءًا كبيرًا من كوبنهاغن بما في ذلك القصر الملكي. ومن ثم بهجوم الأسطول الإنجليزي عليها وتدمير جزء آخر من المدينة في عام 1801م، وتكرر الهجوم مرة أخرى في عام 1807م. وبسبب العجز عن تحمّل تكاليف الحرب، أعلنت الحكومة إفلاسها في عام 1813م، وفي العام التالي سُلخت عنها النرويج وأُلحقت بالسويد. المفارقة أنه وسط هذه الكوارث والحاجة إلى إعادة الإعمار، ظهرت في هذه المملكة الصغيرة لأول مرة نخبة من المعماريين والفنانين شكلوا فيها أول نهضة ثقافية منذ القرون الوسطى، حتى أن الفترة الواقعة ما بين بداية القرن التاسع عشر ومنتصفه صارت تُعرف رسميًا باسم «العصر الذهبي للفن الدنماركي» ومن أعلام هذا العصر، الرسام قسطنطين هانسن.
وُلد هانسن عام 1804م، لأب كان رسام صور شخصية ويعمل في روما. وقبل أن يبلغ السنة الأولى من عمره كانت أسرته قد عادت به إلى كوبنهاغن، حيث تلقى تربيته، وقبل أن يتم الثانية عشرة من عمره، بدأ بدراسة الهندسة المعمارية في الأكاديمية الملكية للفنون، ولكنه غيّر مجرى دراسته إلى الرسم عندما أصبح في الحادية والعشرين.
في عام 1835م، تلقى هانسن منحة لترقية دراسته بالسفر إلى روما، فسافر وبقي في إيطاليا لثماني سنوات صادق خلالها عددًا كبيرًا من الفنانين الدنماركيين الذين كانوا في إيطاليا، ورسم مواضيع متنوعة، ومن بينها هذه اللوحة بناء على طلب من «اتحاد فناني كوبنهاغن»، وهي أشهر لوحاته على الإطلاق.
نرى في هذه اللوحة مجموعة من أعلام الفن الدنماركي في تلك الفترة، وهم الرسام نفسه في أقصى اليسار، ومن ثم المعماري بيندسبول بطربوشه الأحمر يفترش الأرض، والرسامون فيلهلم مارستراند، كوشلر، ديتليف بلانك، ويورغن سونه. والكل مجتمعون داخل غرفة في أحد فنادق روما، هي حتمًا غرفة المعماري بيندسبول، بدليل الرسم الهندسي الظاهر فوق الطاولة إلى اليمين.
أولى هانسن أهمية قصوى للعمل على هذه اللوحة، فقد رسم عدة دراسات بالألوان الزيتية لكل من هؤلاء الفنانين على حدة، وطلب من الرسام ألبرت كوشلر أن يرسم دراسة لوجهه هو. وجمع في وقت لاحق كل هذه الشخصيات على لوحة واحدة في تركيب واقعي، يتسم بالبساطة والعفوية القصوى التي تكاد تكون فوضوية. وكان الدنماركيون قد سمعوا آنذاك بأن الحياة في إيطاليا تتسم بالعفوية والبعد عن الشكليات الرسمية.
ورغم وجود الكلب في أقصى يمين اللوحة كرمز عبّر فيه الرسام عن الصداقة التي تجمع كل هؤلاء الفنانين، ووفائهم لبعضهم، فإن اجتماعهم في هذه الغرفة ليس للترحيب بوصول واحد جديد وصل إلى روما، كما كانت عادتهم، بل لنقاش ثقافي. فهم هنا يستمعون لحديث المعماري بيندسبول الجالس أرضًا يروي لهم مشاهداته وانطباعاته عن اليونان التي كانت شبه مجهولة تمامًا في أوربا بسبب بقائها طويلًا تحت الاحتلال العثماني. ويدلّ على رحلته تلك الطربوش الأحمر الذي كان اعتماره شائعًا في ذلك الوقت في السلطنة ومستعمراتها أيضًا. 
اهتمام الفنانين بالاستماع إلى المعماري متفاوت بين الواحد والآخر، وأقصاه يبدو على وجه هانسن نفسه، وأقله عند كوشلر الواقف على الشرفة يتطلع إلى ما تحتها. وهذا ما يؤكد شغف هانسن وبراعته في ما كان يُعرف آنذاك باسم «الواقعية المعاصرة»، أي عدم نقل الواقع عندما يتعذّر ذلك، بل جمع مكوّنات عديدة من هنا وهناك بشكل يجعلها تبدو واقعية. كما هي الحال هنا في الأثاث المتواضع لغرفة الفندق هذه. ويتعزز هذا الميل بالمشهد الذي نراه من النافذة، وهو مجرد سطوح مغطاة بالقرميد في ناحية ما لا دلالة لها من روما.
أما الشخصية الجمالية «الدنماركية» الخاصة، فتتمثل هنا بالضوء الذي رسم به هانسن داخل هذه الغرفة، الذي رغم قوته، بقي أقرب إلى الضوء الأصفر الشاحب في البلدان الشمالية منه إلى الضوء الأبيض القوي في منطقة المتوسط. وهذا، إضافة إلى أسماء الشخصيات الظاهرة فيها، ما أسبغ عليها طابعًا وطنيًا محليًا في الدنمارك، فصنّفها النقاد على أنها أبرز لوحة في الفن الدنماركي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر ■