ورحل الكابلي زمرة مبدعين في فنان

ورحل الكابلي زمرة مبدعين في فنان

 كثيرون هم المطربون السودانيون المبرزون الذين ساهموا في إثراء حركة الغناء في السودان، ووضعوا اللبنات الأولى لنهضة فنية غنائية معاصرة حديثة، إلا أن الفنان المطرب عبدالكريم الكابلي الذي كان أحدهم ورحل في 3 ديسمبر    2021 بأمريكا اختلف عنهم وبزّهم جميعًا بعلو كعبه في التغني بالعربية الفصحى، وسعة الماعون الثقافي والفني الذي يستوعب الماضي والحاضر والمستقبل، والدأب في البحث في التراثين القومي السوداني والعربي على مختلف العصور، علاوة على كونه شاعرًا، ملحنًا، وموسيقيًا وإعلاميًا يقدم البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ويحاضر في الندوات الأدبية والفنية، باللغتين العربية والإنجليزية.

 

 أكاد أجزم بأننا كلنا ندرك أن المطرب السوداني عبدالكريم الكابلي استهل مشواره الفني قادرًا على المضي والدفع بمسيرة الغناء السوداني نحو التقدم والرقي، وكذلك وضع بصمة سحرية للأغنية التي يتذوقها ويتمحور حولها الجميع، بقدراته المرهفة والنادرة على استنباط المفردات القوية الحية والألحان التي تلامس مشاعر الناس عامة وأصحاب الذوق الرفيع، ولنا في ترنمه أو تغنيه بـ«شذى زهر»، «الغد»، «صداح يا ملك الكنار»، «جال ماء الشباب»، «غريب»، «مشاعر»، و«كل الجمال» وغيرها من الروائع، كرائعة الشاعر إدريس جماع «شاعر الوجدان والأشجان»، مثالًا حيًا:
هيِّنٌ تستخفُّــــه بسمة الطفـ
    ــــلِ قــويٌّ يصارعُ الأجــيالا
حاسرُ الرأسِ عـند كل جمـال
    مستـشفٌ من كل شيء جمالا

نضال جمالي
 عندما يغني الكابلي أيًا من أغانيه يتمنى عشاق الفن ألا يتوقف، لأن الغناء عنده لا يكشف عن جماليات الطرب وكفى، بل يجلي مساحات واسعة من الثقافة، ودراية عالية باللغة، وتوثب مدهش في الخيال، مع قوة ونداوة الصوت ورقّة الألحان، فلا يترك للمتلقي سوى أن يمتلئ بالصفاء والراحة. هذه السمات وما فيها من الإغراء اللازم هو ما يجعل المرء يرغب في العودة والإنصات إليه بشغف المرة تلو الأخرى...
حبيبة قلبي وهل كان ذنبي 
    إذا كنت يومًا نسيت الحذر؟
ففي ذات يوم رقيق النسيم 
    كثير الغيوم قصير العمــر
ذكــرت مكانًا عــزيزًا عليَّ 
    أنـــتِ به وأنـا والأُخـــــــر

 من المؤكد أن المنحى الذي نحاه منذ البداية جاء عبر نضال جمالي صادق صفي، ونجح فيه بتفوق ليقدم أعمالًا قيمية يرسي بها مداميك مهمة وثابتة للأغنية السودانية، إذ قدم كمًا هائلًا من الأعمال الغنائية التراثية والحديثة - كما حدثنا الموسيقار الدكتور الماحي سليمان - أستاذ الموسيقى بكلية الموسيقى والدراما - جامعة السودان - وأسهم في ترقية الذوق الفني من خلال كمال التكوين والترتيب ودقة التنفيذ والبناء الموسيقي الرصين، ونقل بذلك فن الغناء من المستوى التقليدي التراكمي إلى مدارج الفن الرفيع الذي يواكب حركة المجتمعات الحديثة بالدعم المعنوي، والتوازن النفسي، والطاقة الإيجابية والتفاعل المجتمعي.
 وإذا حاولنا أن نختزل الكابلي في جملة قصيرة فلا أرى غير أنه كولاج (خليط) أو بالأحرى زمرة مبدعين في فنان، لمواهبه وتوجهاته الإبداعية المتعددة، إذ مارس تأثيرًا كبيرًا على الحياة الثقافية والفنية شاعرًا، ملحنًا، مطربًا، ومنشدًا، وباحثًا في التراثين القومي السوداني والعربي، وكاتبًا ومترجمًا، وبرامجيًا، ليكشف للكثيرين أهمية الفن ودوره في صياغة الحياة الإنسانية، وكونه عاملًا مهمًا من عوامل تقدم ورقي الشعوب، فضلًا عن دوره في الروزنامة التاريخية الذي يدلل عليه بأغانيه الوجدانية والرسالية العميقة، ولعل هذا التوجه حدا بصندوق الأمم المتحدة للسكان أن يختاره في عام 2004 سفيرًا للنوايا الحسنة، وفي البال نشيد «التعــاون» للشاعر صديق مدثر مثالًا:
لن يصيــب المجــد كـفٌّ واحــدٌ
    نبلــغ المجــد إذا ضمت كفـوف
سـوف يحــــدونا إخــاءٌ خالــــدٌ
    وتقويـنا على الدرب الألـــــوف
وكذلك «فتاة اليوم والغد» التي صاغها شعرًا ولحنًا وغناها (كوراليًا) بضمير المرأة أوائل الستينيات: (أنا نصف قد حوى كل المعاني/ من يدانيني أنا؟... / أنا أم الغد أسباب الهناء).

سليل الأفغــان
الكابلي الذي استوعب الواقع السوداني وثقافاته المتعددة منذ البواكير الأولى هو سليل أسرة أفغانية عريقة استوطنت مدينة سواكن التاريخية إبان فترة ازدهارها في القرن التاسع عشر، حيث قال في حوار نشرته صحيفة «صوت برؤوت»: «ولنا في سواكن سرايا بناها جد أبي عبدالكريم الكابلي، ذلك الرجل الذي قدِم من بلاد الأفغان - ومن هنا جاء اسم الكابلي نسبة إلى كابول - وتزوج ابنة محمد من أهلنا في البحر الأحمر».
وعبدالكريم عبدالعزيز محمد عبدالكريم ولد عام 1932، وأن مدينة بورتسودان هي أول أرض مس جسمي ترابها ونشأت فيها، لكن منطقة شرق السودان عمومًا هي مرتع صباي، وتمتد من سواكن إلى كسلا، والقضارف، ودوكة، والقلابات.
في بورتسودان التحق بالكُتاب ثم الوسطى في الأميرية الحكومية، وهي المرحلة التي أنعم الله فيها عليه بنبوغ مبكر، فأجاد العزف على آلة الصفارة بصورة رائعة، وفي الصف الرابع تعلم العزف على آلة العود، وعندما التحق بكلية التجارة الصغرى بأم درمان، واتته الفرصة لإتقان العزف عليه مقلدًا كبار المطربين.
 
عبقرية المكان
في مطلع خمسينيات القرن العشرين تخرج الكابلي في الكلية واشتغل بالسلك الكتابي في المصلحة القضائية، وما لبث أن تم نقله للعمل بمدينة مروي في شمال السودان، وحينئذٍ تجلت عبقرية المكان في أبهى صورها، فبرزت قدراته مثمرة عن إبداع متميز (وفيها كتبت ولحنت أولى أغنياتي «أمير»، ثم لحنت قصيدة «يا حليلكم» للشاعر مهدي محمد فرح، ووضعت كلمات وألحان أغنيات «سامريني يا غرامي»، - و«أنا مالي»، وأوبريت «مروي» (فيك يا مروي شفت كل جديد/ فيك شفت عيون لعبو بيّ شديد)، ويقول: كل ما كتبته ولحنته تغنى به المطرب الناشئ عمر الشريف، وهذا لم يمنعني من التغني به للأصدقاء).
وفي نهاية الخمسينيات رجع منقولًا إلى العاصمة، وفيها التصق بكثير من الأدباء والشعراء وأهل الثقافة والعلم من خلال الندوات والصالونات الأدبية التي كانت تعمر فضاء الخرطوم، وكان من أهم الندوات التي يؤمها ويعرض فيها إبداعه «الندوة الأدبية» بمنزل الأديب عبدالله حامد الأمين في أم درمان، وتجمع لفيف من أهل الفكر والأدب أمثال المفكر محمود محمد طه والبروفيسور عبدالله الطيب والشعراء: محمد المهدي المجذوب، د. حسن عباس صبحي، مهدي محمد سعيد، الحسين الحسن، والقاص عثمان علي نور وغيرهم. وكان من الطبيعي أن يتعرف عن كثب على حياة الطبقات المتعلمة والمثقفة الراقية في السودان، والذين دفعتهم حياتهم الناهضة إلى الاهتمام بفنه، بينما ازدادت صلته بأهل الفن، وهو يغني لمن سبقوه من رواد الغناء بجانب أغانيه الخاصة، ومنها أغنيتاه «زاهية» و«عني مين قول لي حاجبك» اللتين أهداهما للمطربين عبدالعزيز داود وإبراهيم عوض.

في حضرة الزعيم
بينما كان الكابلي ينشط في كتابة الشعر وصياغة الألحان لسنوات تقارب العشر، وليس في نيته التغني بها في محفل عام، فإذا به يلتقط في من «الندوة الأدبية» أنشودة «آسيا وإفريقيا» للشاعر تاج السر الحسن، إثر قيام حركة عدم الانحياز في 1955م ومؤتمر باندونغ في إندونيسيا، ويصوغ لها لحنًا فريدًا، تمهيدًا ليغنيها المطرب الشريف، لكن بعد ضغط وإلحاح شديدين من بعض القائمين على الأمر في وزارة الإرشاد - آنذاك - وزارة الثقافة والإعلام حاليًا، وافقت على تقديمها من خلال المسرح القومي أمام الرئيسين إبراهيم عبود والزعيم جمال عبدالناصر في 18 نوفمبر 1960م، وكانت هذه هي بداية ظهوري العلني للجماهير.
على ذكر هذا الإنجاز غير المسبوق لمطرب سوداني، لما سألته عن لحظات مخاض التجربة الأولى أجاب: أذكر عندما بدأت أغني... عندما أعزف «يا قلبي الأناشيد القديمة»... شعرت لحظتئذ بأن الصوت لم يخرج من فمي... لكن حاسبت نفسي سريعًا جدًا، وقلت في دواخلي... «إما النجاح... إما الفشل». وبقوة دفع غريبة، أعدت الكَرَة فانطلق صوتي.
مصر يا أخت بلادي يا شقيقةْ
يا رياضًا عذبة النبع وريقة... يا حقيقة...
مصر يا أم جمال... أم صابر
ملء روحي أنت يا أخت بلادي
كان ذاك إحساسًا رهيبًا لأبعد الحدود لا يمكن وصفه بكل المقاييس، لكن الحق يقال كانت تلك فارقة كبيرة جدًا في مسـاري الفني خاصة أنني كنت على قناعة تامة بأنني لا أود الظهور للناس. 

تناسل المواهب
أحدث ظهور الكابلي وتغنيه بهذه الأنشودة ضجة واسعة في الأوساط الثقافية والفنية والسياسية، وحاز على شهرة واسعة، واستطاع في وقت وجيز أن يتخطى حدود بلاده، ويكون معروفًا في كثير من البلدان العربية.
ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت مواهبه في التناسل واحدة إثر أخرى، وأخذ يطل على الناس من أكثر من كوة، مرة مقدمًا لبرامج تراثية وفنية في الإذاعة وأخرى في التلفزيون، وتارة كاتبًا في الصحف السودانية، وأخرى محاضرًا أو مشاركًا في الندوات الثقافية والأدبية، وهذا ليس داخل السودان فقط، وإنما بكثير من بلدان العالم تعريفًا بالتراث والغناء السوداني، وكانت هذه الإبداعات سببًا آخر من أسباب ازدياد ثقافته، واتساع صيته، وعمق ارتباطه بالثقافة والجماهير.
ومع مرور الزمن أكدت الشواهد بسطوع بالغ حدة الذهن الثقافية لديه حين عزم على أهمية خلق فن جديد يلبي طموحات الطبقات المثقفة والمستنيرة، ويكون متاحًا ومؤثرًا في بقية الآذان والمشاعر، فقدم في أزمان مختلفة أغنيات عدة من نظمه وألحانه وأخرى لشعراء مختلفي المشارب، منها «سكر... سكر»، و«يا جار»، «ما بنخاصمك»، «مشاعر»، و«لو تصدق». 
ومن تجلياته التي تمثل نقطة تحول بارعة انماز بها على رصفائه المبدعين شغفه بالبحث في كنوز التراثين القومي السوداني والعربي معًا، وإكثاره التغني بالعربية الفصحى. 
يا بنـت عشـرين والأيـام مقبلـة
    ماذا تريدين مــن موعود خمسين
قد كان لـي قــبل هـذا اليوم فــيك 
    هــوى أطيعــه وحديـــث ذو أفانـيـن

وكان الأهم والأكثر ربطًا لآصرة الحداثة بالتراث، حيث كشف عما غفل عنه الكثيرون مذ بدأ يحاضر في التراث السوداني... يقول في حوار أجراه معه بالكويت الصحفي عبدالناصر حسين لصحيفة الشرق الأوسط - العدد (8949) - 30 مايو 2003م: أولى المحاضرات التي قدمتها في التراث الشعبي عام 1960م، ومنذ ذلك الوقت بدأت تكبر قناعاتي بأمر الفن الشعبي وأهميته، وتكبر مع مرور الزمن من خلال التأمل ومتابعة مسارات الحياة لا في السودان وحده وإنما في العالم كله. لكونه مخزونًا وجدانيًا، يعمل على تأكيد الهوية، ويساعد على رتق الفتوق التي تعتور النسيج الاجتماعي، وها هو يتحدث للصحيفة كمن يرى بعين التي ترى شجرًا يسير في بلد كالسودان حيث التعددية والتنوع لا يصبح الاهتمام بالتراث من الأمور اللازمة بل من الأمور الواجبة، وإذا كان ينبغي علينا في السودان أن نلم بأطراف من التراث، وإذا كان ينبغي على المواطن العادي أن يتعرف على تراثه فإنه يتوجب على صانع القرار وعلى الحاكم أن يلم بالتراث، حتى لا يصدر قراره من فراغ وعدم معرفة، لأن بلدًا كالسودان بزخمه وتنوعه إذا لم يتوافر فيه الإحساس بالانتماء فسوف تفرز العصبيات، كعصبية اللون، واللغة، والقبيلة والدين، لذلك يتخذ التراث أهميته من هذه التعددية.

جرأة متناهية
كان الكابلي على يقين بأن الإفادة من الغناء لا تتحقق إلا بالرجوع إلى الموروث الشعبي، وأن الأصالة تكمن في هذا الضرب من الإبداع، لذا انغمس فيه ولم يعجب كثيرين، بل واجه انتقادات من البعض على زعم أنه لا يتفق مع المكانة التي تبوأها، لكن رغم ذلك خرج به وأدهش جمهوره لابتداعه طرائق جديدة في معالجة التراث الشعبي والغنائي جوهريًا لتخدم أهدافها كوثائق ودلائل إبداعية ذات قيم عظيمة لأمم خلت، فقد استطاع - كما يقول د.سليمان - أن يزاوج بين الفلكلور والموسيقى الفنية الحديثة في ربط محكم بين التقليدية والحداثة، وجاء منتوج هذا التزاوج فنًا راقيًا يمكن أن نعرفه بأنه تقويم مكتمل الأركان لغناء سوداني أصيل يجد القبول عند جميع الإثنيات السودانية وبكل فروعها الثقافية، فقد غنى بأسلوب الدوبيت السردي المشابه لفن الموال العربي، وغنى بأسلوب الغناء الشعبي التراثي، كما غنى بأسلوب الموشحات الأندلسية، وكان مهتمًا بأغنية الفصحى بالقدر نفسه الذي قدم به الأساليب الغنائية التقليدية، بما فيها أسلوب أداء أغنيات الحقيبة. فيما أحاط الناس بمبدعي أغنيات التراث من المغنين والمغنيات وبمناسباتها، وأحيا من خلالها كثيرًا من المفردات والذخائر اللغوية، وألفاظ اللغة غير المألوفة، والتي كادت أن تندثر، يقول في حواره لـ«صوت برؤوت»: «عندما تعرفت على الفن أو الغناء الشعبي في المناطق والبيئات التي تجولت فيها، وجدت الأخيلة والاستعارات، والقيم الجمالية والبلاغية بصورة لا تقل عن الشعر العربي الفصيح، ومن ثمّ قدمته بجرأة متناهية، وعندما بدأت أتغني بالأغنيات الشعبية «الحماسة والدلوكة» مثل «الخالد مالك تنين» و«خال فاطمة» كان أساتذتنا المبدعون الكبار يتهيبون مثل هذا الغناء لأنهم كانوا يعتبرونه غناء - الشكارات -، لكنني كنت أدرك قيمة هذا الغناء وأنه يحمل رسائل تربوية وإنسانية، وأغنية «حجر الظلط» مثالًا:
بوصيكم على البيت الكبير ابنوه
بوصيكم على ضيف الهجوع عشوه
وبوصيكم على الجار إن وقع شيلوه
وحقيقة أنا استفدت من معرفتي لهذه اللونيات، حيث انعكست بشكل جليّ على ما قدمته وأقدمه من ناحية الإيقاع، ومن ناحية الألحان، وهكذا». 

الوفاء للفصحى
بموازاة البحث في التراث الشعبي السوداني، كان من أكثر التحديات إثارة في العالم الإبداعي للكابلي النبش في التراث العربي، فراح يستقي الشعر من ينابيعه الأصلية، ويطلع على القيم الجمالية الكامنة فيه، وتغنى بأغنيات كثيرة لشعراء من مختلف عصور ما بعد الإسلام:
أصفيك أقصى الـود غـير مقـلل
    إن كان أقصى الـود عندك ينفع
وأراك أحسـن مـن أراه وإن بدأ
    منك الصدود وبان وصلك أجمع

 تحدث لـ «العربي» الأديب محيي الدين الفاتح الذي أعد كتاب «عبقرية الكابلي أيقونة الإبداع الدائم» يقول: «اختار الدكتور عبدالكريم الكابلي من الشعر العربي عيونه فأدى بالفصيح -55- عملًا، منها -21- توزعت عبر العصور لشعراء عرب بلغ عددهم -14-، بدءًا بيزيد بن معاوية بن أبى سفيان ثاني خلفاء الدولة الأموية (وأمطرت لؤلؤًا)... انتهاءً بالشاعر البحريني علي شريحة في العصر الحديث (أغلى من لؤلؤة بضة) مرورًا بالبحتري، وأبي نواس، وابن الرومي، والمتنبي، وأبو فراس الحمداني في العصرين العباسي الأول والثاني، وابن سناء الملك، وابن النبيه المصري في العهد الأيوبي ثم أحمد شوقي، والعقاد وصولاً إلى علي محمود طه المهندس، وإبراهيم ناجي ومصطفى عبدالرحمن»... ويضيف قائلًا: (وقدم -27- أغنية بالفصحى لشعراء سودانيين بلغ عددهم -21-، كما صاغ ولحن وغنى من الفصيح 7 أعمال). 
 لم يأتِ شغف الكابلي بالشعر الفصيح مصادفة وإنما شعور تنامى منذ البدايات الأولى، ولعل عشقه ووفاءه لشعر الفصحى دفعه إلى تكوين تنظيم يعنى به، يقول أحد أعضائه الشاعر صديق مدثر «أخوان الصفاء تنظيم لأصدقاء... الفكرة جاءت من عبدالكريم الكابلي،  وفيه من الشعراء عبدالمجيد حاج الأمين، محمد عثمان الجرتلي، الحسين الحسن، وعبدالواحد عبدالله وآخرون قلة، لهم الأثر الكبير في تغنيه بالفصحى، وهو يراه أمرًا ضروريًا ومهمًا رغم ما فيه من مخاطرة جماهيرية، لكن ما كان له آنئذٍ أن يخشى على رصيده الجماهيري بقدر ما يحرص على الأغنية التي تهدف إلى تربية وترقية الذوق العام:
تمور الدموع بمقلتيك فمـا 
       أن تفيــض ولا تنضـــب
فيا لك من رائع في الدموع 
       ويا لجمـالك إذ تغضـب

واللافت أن الكابلي كان يختبر النص الشعري اختبارًا حقيقيًا صعبًا، ويعمل غاية ما في وسعه على استخلاص كل ما يتفق مع مقدراته وصوته، مظهرًا ملكة واعية فريدة في تحويل المكتوب إلى نشيد، أو موال، أو أغنية على السلم الخماسي يتلقفها الناس على اختلاف ألسنتهم وأمزجتهم ويستمتعون بها، ظهرت في أوضح صورها حينما تغنى بأبيات من «إني أعتذر» للحسين الحسن، وأخرى من التراث العربي مجتزأ من «أراك عصي الدمع» لأبي فراس الحمداني، وقد مثلتا نقطة تحول كبيرة في مساره الفني:
وحاربتُ قوي في هـواك وإنهم
وإياي لولا حبك المـاءُ والخمـرُ
وفيتُ وفي بعض الوفــاءِ مذلةٌ
لإنسانةٍ في الحي شيمتُها الغدرُ
تسائلني من أنتَ؟ وهي عليمـةٌ
وهل بفتًى مثلي على حالهِ نُكُر

وهنا لا يفوتنا أن نبيّن أن الموهبة العالية مكنته من أن يحيل الكثير من القصائد الصعبة إلى أغنيات عذبة يتذوقها وينسجم معها الجمهور، فيما ساعدته شاعريته في الاختيار الدقيق والقدرة على التصرف، وحذف بعض أبيات المطولات أو دمج قصيدتين في أغنية، حتى لكأن المتلقي لا يشعر باختلال أو نشاز أو أبيات محذوفة، ولنتأمل في قصيدتي «أغنية الجندول»، و«ليالي كليوباترا» للشاعر المصري علي محمود طه المهندس اللتين شملهما في أغنية «الجندول»: 
آه لو كنت معي نختال عبرة
    بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبرة
    حلم ليل من ليالي كليوباترا
ليواصل في القصيدة الثانية:
أي حلم من لياليك الحسان
    طاف بالموج وغنى وتغنى الشاطئان

الصوفي الزاهد
من الأعمال المهمة التي تعد نقطة تحول أخرى فارقة في مساره الفني، وتؤكد مدى إمكانياته في تجسيد القيم الفنية المهمة والموضوعية في الأعمال الإبداعية، تصويره الحياة الدينية في قصيدة «المولد» حيث أبدى مقدرة فائقة في رسم صورة - موسيقية - حية لـما يدور في «ليالي المولد النبوي الشريف» كثيرًا ما وقفت الأجيال حيالها، وستظل ما بقيت المناسبة قائمة، لكونها لوحة ولفتة إنسانية أخاذة، تعبر بصدق عن رسالة الفنان... (عندما قدمت في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي قصيدة «ليلة المولد» لشاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب - رحمه الله - أفدت من تجربتي مع الطريقة القادرية وإيقاع النوبة، لأنني كنت مع هذه الطريقة وصلت فيها مرتبة المقدم، وهنا انعكست في هذا العمل).
رب سبحانك مختارًا قديرًا
أنت هيأت القدر
ثم أرسلت نذيرًا... للبشر
آية منك ونورا
هو عين الله لولا ضوءه
لم نر العالم في شتى الصور

والملاحظ أن الكابلي ميز نفسه أيضًا في هذا الميدان بأسلوبه الخاص وطابعه الذي لا تخطئه أذن ولا يجاريه مجارٍ، وفي أذهاننا قصيدة المتنبي:
ما لـنا كلــنا جوٍ يا رســولُ 
    أنا أهــوى وقلـبك المتبولُ

وغيرها من الأماديح السودانية مثل أنشودة (قالوا الحجيج قطع)، للشيخ أبو كساوي، و(جدد وضوءك) للشيخ البرعي، و(يا رب العباد) من كلماته وألحانه، كما لا يفوتنا أن نذكر ابتهالاته العميقة (في الذات الإلهية)، وهو يقف موقف الصوفي الزاهد متوسلًا: 
(أشتاق لقاءك يا ربي/ في لهفة صوفي نشوان/ روحي لسمائك تسبقني/ أما قيدي والجسم الفاني/ سيعود زهورًا وورودًا/في تربك مرسمك الألوان).

فكر تحرري
المتتبع للمسار الفني لدى الكابلي يجده تغنى بأصناف شعرية متنوعة عديدة، ما يكشف طبيعة دواخله وتوجهاته الوجدانية والإنسانية وثقافته الواسعة في شتى الفنون، الشيء الذي جعله يؤثر في المناخ الاجتماعي والثقافي والأدبي في الحقب التي عاشها والأمزجة السائدة. وعلى الرغم من أنه لم يخلق لتعاطي السياسة إلا أنه كان على دراية كافية ووعي لما يدور حوله، ذا نزعة وطنية خالصة، وفكر تحرري وإيمان عميق بحق الإنسان في الحياة والعيش الكريم، وصدى للذين يعانون من جور السلطة، فما كان غريبًا أن يصدح للإنسان وبه أينما وجد، وللوطن وللأحداث التي غمرته. ولما كان أول أهم حدث صادفه ثورة أكتوبر 1964م كتب ولحن وغنى أنشودة «غضبة ثائر»:
أيها السادر في وهمك تحلم
    أهي الغفلة أم إنك تعلم
إن قتل النفس في الدين محرم
    إن من يقتل بالباطل أجرم

كما ارتفع صوته بنشيد «هبت الخرطوم في جنح الدجى» للشاعر حاج الأمين ولحن عبدالله عربي. ولما كانت تلك الفترة تشهد أيضًا نضالًا متصاعدًا لحركات التحرر الإفريقية والعربية، أظهر تعاطفًا متعاظمًا مع حركة التحرير الجزائرية بتغنيه للشاعر شريحة: (كصدى الأجراس المحزونة/ كلهاة الطفل بقلب سرير/ لم تبلغ سن العشرين/ واختارت جيش التحرير)، وهذا ما ساق الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة للاحتفاظ بحقه وتكريمه بوسام التقدير.
ويحدثنا التاريخ أنه عبر عن انحيازه للقومية العربية والفكر الناصري وحب رائده عبدالناصر، يوم لحن وغنى «أقبل الصباح مشرقًا وزاهر»، للشاعر حاج الأمين، وأغنية «جمال العربي» للشاعر أبو آمنة حامد، ترحيبًا بمقدمه للخرطوم عقب نكسة 1967م:
والتقت نهضتنا بالعربي
    يوم صافحنا جمال العربي
أنت يا ناصر في أرضي هنا
    لست بالضيف ولا المغترب

وإيمانًا منه بالتضامن العربي سجل لإذاعة ركن السودان بالقاهرة عام 1969م، من كلمات الشاعر مصطفى عبدالرحمن وألحان الموسيقار علي إسماعيل المصريين بكورال مصري على السلم السباعي أنشودة (أخــي إنا سنحـيا العمر أحـبابًا وخلانا)، وغنى مع الشاعر السوداني عزيز التوم مؤازرًا الشعب الفلسطيني: (بدمى سأكتب فوق أرضك يا فلسطين اسلمي).
 وينبغي أن نذكر هنا بأن الأغنية عند الكابلي لم تعد مجرد قصيدة ملحنة ومموسقة تصدر عن مطرب بقدر ما أصبحت وسيلة تعبيرية تحمل في ثناياها ومظاهرها الجمالية مختلف الرسائل التي تعبر عن الواقع المأزوم، فعندما اندلعت انتفاضة رجب /أبريل 1985م، في السودان كتب ولحن متغنيًا بقصيدتي «لماذا»، و«ليس في الأمر عجب»:
قد كرهـنا صولـة الغافـل إن الجهـل يردي
      ليســت الثـورة تهلـيلا وتطبـيلا لفـرد
إنمـــا الثورة أيـدٍ فـوق أيـدٍ فــوق أيــدٍ
      إنما الثـورة جهـد بعـد جهـد بعـد جهـــــد

ارتباط محكم
إذا كانت فترة الستينيات هي فترة البناء والتأسيس للعمارة الفنية التي شيدها الكابلي، فقد جاءت حقبة السبعينيات وما تلاها، تؤكد أنه ملك عنان موهبته تمامًا، وقبض كل الخيوط الحريرية التي تجذب الأفكار والمشاعر، واستمر نجمه في السطوع بقوة إلى جانب المطرب الكبير محمد وردي الذي كان يتسيد الساحة، وأخذا يأتلقان، بقدر أهميتهما التاريخية والفنية وعظمتهما، وبقدر اختلافهما في الأسلوب والأداء وتميز أعمالهما كل عن الآخر، وبقدر اتفاق الجمهور حولهما وإعجابه بهما، وفي كل مرة تظهر الفروق واضحة بينه وبين من حوله من المبدعين، حتى إذا استخدم الموسيقى أو آلة العود منفردًا بإدهاش، وهو يعكس الجدية الجمالية، والجدية الذوقية، والجدية النصية، نلمسها في «ضنين الوعد» للشاعر صديق مدثر:
ومضة عشت على إشراقها 
وانقضت عجلى وما أصغت إليَّ
كلمة خبأتها في خافقيّ
 وترفقت بها برًا حفيا
من دمي غذيتها 
حتى غدت ذات جرس يأسر الأذن شجيا

وقدم في أوقات متفاوتة عشرات الأغنيات التي توقن بخصوبة خياله ومقدرته الفذة على خلق الألحان، مثل، «معزوفة لدرويش متجول»، للفيتوري، و«كيف يهون» لعوض أحمد خليفة، و«جنة العشاق» لتوفيق صالح جبريل، إلى جانب أغنيات عديدة صاغ كلماتها وألحانها، وارتبط من خلالها بالجمهور ارتباطًا محكمًا، وهو يغني من كلماته:
«لو قالوا ليك أوصف جمالك / تفتكر تقدر تقول كل الحقيقة؟/ دي الحديقة جمالها يا زين دون جمالك».
في عقد السبعينيات تفرغ الكابلي للفن تمامًا، لكن لم تمر عليه سنوات قلائل حتى هاجر إلى المملكة العربية السعودية استجابة لرغبة داخلية وحاجة نفسية ليعمل مترجمًا بإحدى المصالح عام 1977م، بينما ظلت مشاعره وروحه معلقة بوطنه، انعكست بوضوح في تغنيه بقصائد تصور مرارة الغربة «غريب والغربة أقسى نضال»، والحنين لأرض الوطن:
أدور حولك بإحساسي ربيع بغازل النوار
وأشيلك جوه أنفاسي عشان أطفئ اشتياقي الحار

ولما عاد إلى السودان في 1980 عاد وهو يحمل اهتمامه المتصاعد لتقديم النموذج الذي ارتبط به، والذي يرقى لمخاطبة الفكر والعاطفة على السواء، يغني للشعراء الدكتور محيي الدين صابر، الحسين الحسن، خليل فرح، اسحق الحلنقي، سيد عبدالعزيز، أبو صلاح، الدكتور صبحي، ابراهيم عوض بشير، الشريف زين العابدين الهندي (أوبريت)، عبدالعزيز سيد أحمد، عمر الدوش، التيجاني الحاج موسى.
لو حاولت تتذكر تعيد الماضي من أول...
تلقى الزمن غيَّر ملامحنا... ونحن بقينا ما نحن
وأنا الصابر على المحنة...
وكان طبيعيًا أن يخرج في كل مرة بعمل جديد، ولعل قصيدة «أصل الداء» أو «التفاحة» التي كتبها مطلع الألفية الثانية من (106) تكشف بجلاء عن رؤاه الفكرية والفلسفية:
يا كاتمة السـر الأخفى يا أم الخلق بلا استثناء
ما انفك اللغـز يحـيرنا قولـي وأبيني يا حــواء
هل كانت فاكهــة حقًا أم إن الأمـر يتيه خفــاء؟

غير هذا أن الكابلي انشغل وهو في قمة عطائه بترديد أغاني كبار المطربين السودانيين على طريقته، تقديرًا وعرفانًا لجهودهم، وتعميقًا للصلة بينهم وبين الأجيال الحاضرة واللاحقة، وهو الذي أهدى بعض الأغنيات لعدد من المطربين منهم أبوعركي البخيت وكمال سليمان «ترباس»، ويحمد له أنه غنى لعدد من المدن السودانية، ولبعض الدول العربية والأفريقية، وتقديرًا لكل ذلك الإرث منحته جامعة نيالا عام 2002 درجة الدكتوراة الفخرية، وكان آخر ما تغنى به قبل هجرته لأمريكا في 2011 أغنية «أغلى من نفسي» للشاعر عبدالوهاب هلاوي وألحان الملحنة أسماء حمزة (أهو دا الزمن دوّار/لا موجة بترسّي ولا برحم التيار).

في ديار الغربة
أمضى الكابلي بقية حياته في الولايات المتحدة الأمريكية ينقب ويكتب ويؤلف ويحاضر ويقدم الندوات بالعربية والإنجليزية والحفلات الغنائية في مكتبة الكونغرس وفي الولايات الأخرى، كما انتهى من تأليف كتابين باللغة العربية: الأول بعنوان «فنون وتأمل» يتناول فيه تاريخ الموسيقي والغناء السوداني ودور أهل الفن في الحركتين الثقافية والفنية، والثاني باللغة الإنجليزية، ويتحدث فيه عن إنسان السودان وثقافته، وكان آخر أعماله الغنائية (قلية بن) مجتزأ من قصيدة نظمها بأكثر من (100) بيت، تغنى بها الفنان عمر أدروب، كما لحن «جراح المسيح» وهي قصيدة استغفارية للشاعر عزيز التوم، ليصل جملة ما تغنى به نحو (200) أغنية.
هذا قليل من كثير جدًا في مسيرة الفنان الشامل عبدالكريم الكابلي، الذي شكل حالة استثنائية في تاريخ الغناء السوداني، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن كل تلك المواهب لم تجتمع في مطرب كما اجتمعت فيه، يقينًا بأنه لم يكن إلا راهبًا في محراب التراث والفصحى والأرض التي خرج من رحمها، وظل طوال عمره المديد لا يشغله شاغل إلا التفاني والإخلاص لها ■