شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

قاهرة المعز.. وضع أساسها غراب..!

كان أبوالمسك كافور العبد الحبشي قد ادّعى لنفسه حكم مصر بعد موت آخر ملوك آل الإخشيد، فأطلق على نفسه اسم كافور الإخشيدي بعـد أن نسـب نفسه إليهم، وأقرّه الخليفة العباسي في بغداد على الحكم.

ولأنه كان عبداً رقيقاً، فقد كان مصاباً بعقدة النقص لوضاعة أهله، فصرف عنايته واهتمامه إلى محاولة شراء الذمم وتجميع الناس حوله وبخاصة الشعراء ليحـاولـوا مدحه بشعر ما أكذبـه، ووجّه كل اهتمامه للهو والبـذخ من أموال خزانة مصر وخراجها، ولما مات ترك البلاد وقد اختلت أحوالها واضطرب فيها ميزان الأمور وانتشـرت الفوضى وباتت المجاعة تأكل الناس دون أن تهتم الخلافة العباسية بما يجري.

ولكن كان هناك من الجواسيس والعيون مَن يمهدون للخلافة الفاطمية في القيروان بالمغرب، وسمع المعز لدين الله الخليفة الفاطمي في عاصمته بما يجري في مصر التي كان يضعها نصب عينيه لتكون مقرّاً لخلافته في قلب العالم الإسلامي يمد منها نفوذه شرقـاً وغرباً. فما أسرع ما أمر قائده جوهر الصقلي بالتحرك بجيش قوامه مائة ألف رجل لفتح مصر وإرساء قواعد الخلافة الفاطمية فـي أرضهـا الطيبة وفتح أبوابها لحكـم ودولة جديدين.

وتم لجوهر الفتح المنشود الـذي كـان يحـلـم بـه الفاطميون دون قتال ولا مقاومة تذكر، إذ كان الشـعـب الذي ضاق بالفوضى وسوء الأحوال يرجو على أيـدي الفاتحـين من آل البيت الفاطمي استقراراً هو في أشد الحاجة إليه وبخاصة مع طول ما عاناه من حكـم ذلك الخـصي الحبشي على مدى 24 عاماً.

كان وصول جوهر الصقلي إلى أرض مصر يـوم 6 يوليو عام 969 م حيث عبر بقواته مدينة الجيزة الواقعة على الضفة الغربية لنهر النيل في مواجهة العواصم الإسلامية الثلاث التي أنشئت من قبل على الضفة الشرقية للنهر.

الغراب يدق الأجراس

كان مما دعا الشعب إلى الترحيب بالفاتح صـاحـب الجيش أنه لم يرهب الناس ولم يفرض عـلى الأهالـي قوانـين استثنائية، ولم يقيد لهم حريـة. بل أذاع فـيهـم مرسوم أمان أصبح المصريون بمقتضاه آمنين على أموالهم وأنفسهم ودياناتهم وكل ما يملكون.

في مساء اليوم نفسه، السادس من يوليو عسـكـرت الجيوش في الأرض الفضاء الواسعة التي يشرف عليـهـا تل المقطم من الشرق، ويحـدّها من الغرب مجرى مائي متفرع من النيل اسمه الخليـج المـصـري. وأمر جـوهـر الصقلي بأن تختط لمصر عاصمة جديدة تليق بخـلفـاء الدولة الفاطمية الذين خططوا ليحكموا العالم الإسلامي بأسره باعتبارهم خلفاء الرسول وأولـى وأحـق الـنـاس بحكم المسلمين. ولم يضيع جوهر الوقـت ولـو حـتـى انتظارا لضوء النهار التالي.

ورغم غروب الشمس وحلول الظلام، جمع القائد الحشود من الجنود والعمال بمعاولهم ورصهم على أضلاع المربع الذي حدده على الأرض بـواسطة قـوائـم من الخشب، وأوصل أعلى هذه القوائم بحبال مدلى منـها أجراس. وأوقف المنجمين المغربـيـين عـلـى اسـتـعـداد يتفحصون أدواتهم وطوالهم الفلكية، حتى إذا اطمأنوا إلى دخول الوقت المبشّر بالخير، حرّكوا الحبال لتمر عبرها الحركة - كتليفون بدائي - فتدق الأجراس إيذاناً بالعمل ليبدأ الجميع في رمي ما بأيديهم من طين وحجارة، ويشرع الحفارون في حفر أساسات القصور والأسوار.

ويبدو أن غراباً من غربان الليل كان يشاهد من مكمنه تلك الحركات الغريبة التي لم تحدث في ليالي ذلك المكـان من قبل. وربما اندهش الغراب من رؤية ذلك الحشد الهائل من الجنود الذين كانوا يستعدون لعملية إنشـاء المـدينـة الجديدة، لذلك فقد طار ليشاهد هذا التـجمع الغفير مـن الناس من زاوية أخرى، وحط عشوائياً على أحد الحبـال الممتدة بين الأعـمدة، فـتحـركـت على الـفور جـميـع الأجراس، وفي لمح البصر، بدأ الجميع في عملية البناء، اعتقادا منهم أن المنجمين قد وجدوا الطابع ذا الفأل الحسن وقرعوا الأجراس كـعلامة لبدء البناء، عندئذ صاح المنجمون بعد أن أخذتهم هذه المفاجأة غير المقصودة وقالوا "القاهر في الطالع " والقاهر هو كوكـب "المريخ" الذي يسمّيه العرب "قاهر الفلك"، ومن هنا جاء اسم "القاهرة"!

الدخول بتصريح..!

لم تكن القاهرة في أول عهدها مدينة يسكنها الناس، بل كانت عبارة عن معقل حصـين، يسكنه الخليفة الفاطمي وحريمه وأسرته وجنده وخواصه من المسئولـين ورجـال الدولة. ولا تضم المدينة من المباني سوى "القصريـن " القصر الكبير والقصر الصغير- وبعض قصور صغـيرة أخرى يسكنها الأمراء وقادة الجيوش وبعض المنشآت التي تتضمن معسكرات القبائل التي تؤلـف فـرق الجـيش بالإضافة إلى بعض الدور المخصصة لدواوين الحكـومـة المركزية وخزائن المال والسلام، ثم مبنى الجامع الأزهر الذي لم يكن بالاتساع الذي هو عليه الآن. وكان يـحـد المدينة من جوانبها الأربعة سور يحيط بها، مبني بالطوب اللبن، في كل ضلع من أضلاعه أقيم بابان كـبيران مبنيان من الحجر.

ولعل من أكثر الأمور غرابة أن الشعب المصري مـن سكان مصر القديمة (الفسطاط) والمدن والأقاليم المصرية الأخرى، لم يكن مسموحاً له بدخول مدينة القاهرة، فقد كانت مدينة ملكية عسكرية يسكنها الفاطميون، أما أبناء الشعب فلا يمكنهم الدخول إليها إلا بعد الحصول عـلى إذن أو تصريح خاص لا يصدر إلا بعد التحري الدقـيـق لمعرفة السبب في الدخول ثم دفع الرسوم المقررة، ولـم يكن مسموحـاً أيضـاً للسفراء والمفوضين الأجانـب بـأن يدخلوا القاهرة راكبـين خيولهم، بـل كـان عـلـيهـم أن يترجلوا ويتركوا خيولهم عند أحد الأبواب ويـدخـلوا المدينة سائرين على أقدامهم وتحت رقابة الحراس.

غير أن الشعب المصري لم يعدم وسيلة لمجابهة هـذا الوضع الغريب الشاذ، فازدادت حركة العمران فجـأة، وزحف الناس بمساكنهم تجاه المدينة الجديدة من كل جانب خارج أسوارها، وأحاطوها بالخطط الجديدة والبـيوت والشوارع والدروب والحواري، بل وحفروا قبورهم أيضاً بالقرب من أسوارها وأبوابها.

وهكذا لم يمض وقت طويل حتى تلاشت حـدود المدينة التي بناها المعز لدين الله، وسـط حـركـة الـبـنـاء المستمرة التي لا ينتهي زحفها نحو المدينة، وبمرور الأيام وازدياد حركة العمران، زالت جميع الأسوار التي بناهـا جوهر الصقلي ليحمي بها عاصمة الفاطميين واختفت معالمها تمامـاً. ولم يقم للقاهرة أسوار بعد ذلك إلا عـام 1079 بمعرفة بدر الجمالي، وكانـت أيـضـاً من الطوب اللبن، لذلك اندثرت مع مرور الزمن ولم يعد باقيـاً منها الآن أثر يذكر.

 

سليمان مظهر

 
  




قاهرة المعز.. وضع أساسها غراب