محاكم تفتيش للنوافذ نصف المُشرَعة

محاكم تفتيش للنوافذ  نصف المُشرَعة

إذا كانت نهاراتنا منطقية، فليس هناك ما يجبرنا أبدًا أن نسمح لليالينا أن تكون كذلك، فمهما بلغت درجة انشغالي أحرص دائمًا أن أكرّس عشرين دقيقة لقراءة قصة ما قبل النوم لأطفالي الصغار. وقت القصة هو وقت الخَلق الخيالي، وكأي صانعٍ متمرّس، لدي طقوس خَلقٍ لا أتنازل عنها مطلقًا حتى أنجح في خلق هالة اللاواقع خاصتي. أختار الكتب الأسطورية دائمًا، أخفّف من الإضاءة، أخفت من صوتي، أقرأ ببطء، أشير ببعض الإيماءات المسرحية، وأشدِّد على لحظات الإشراق ومقاطع التنوير، تلك الفقرات الذهبية التي تجعل حدقات الأعين تُـشرِع على اتساعها. رسالتي لأطفالي دائمًا هي أن أبطال الأساطير، كل أبطال الأساطير، أحياءٌ يرزقون؛ كل ما علينا هو أن نفتح أعيننا واسعة وأن نبحث عنهم.

 

   على خلفيةٍ من كل ذلك، أدع نافذة الغرفة نصف مفتوحة دائمًا وقت القصة، مهما كانت حالة الطقس. إذا كان حظنا جيدًا، ربما سمعنا دويّ برقٍ هنا أو صفير رياحٍ هناك، ثم من يدري؟ لعل إحدى الجنيات الطيبات تشعر بالوحدة في تلك الليلة، فتقرر أن تدخل لتنضم إلينا، أو قد يكون بابا نويل جائعًا ويرغب في تناول بعض الحليب والبسكويت؟ أو ربما كان علاء الدين قريبًا منا بالجوار، وودَّ الدخول وإلقاء التحية قبل إكمال رحلته حول العالم على بساطه السحريّ الملوّن؟ أهلًا وسهلًا، فنافذة بيتنا نصف مشرعةٌ دائمًا للترحيب بأصدقائنا الأسطوريين.
لكنني لا أتعلـّم أبدًا. كل بضع سنوات، ومع جميع أطفالي، أمرُّ باستمرارٍ بذات دورة العذاب المازوشية من طرفي، والساديّة من طرف مجتمعي. هناك باستمرار يومٌ حزينٌ ما يقع دائمًا في السنة السابعة من أعمار أطفالي، يكون بمنزلة طقس عبور لهم (initiation ritual) فيمثل عتبة انتقالهم من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج، لا حياها الله من مرحلة. هذا طقسٌ يبدأ وينتهي دائمًا بكشفٍ من عبارة إجرامية واحدة: 
إمّا من عـمٍ براغماتي عَجول: «أي بابا نويل هذا الذي سوف تنتظره الليلة؟ هل أنت جاد؟ إنها والدتك، هي التي ستضع لك الهدايا تحت السرير! دع عندك ذلك وغيّر ملابسك حتى آخذك معي إلى الشاليه».
وإما صديقةٍ بعقليةٍ علميةٍ باردة: «يا حبيبي، لا يوجد شيء اسمه الجنية عرّابة الأسنان. من يضع لك الدينار تحت وسادتك في الليلة التي يسقط فيها ضرسك هي ماما؛ إنها تفعل ذلك عندما تكون نائمًا. عندما تسقط أسناننا، فالأفضل أن ندفنها في الحديقة حتى تتحلّل فتصبح مواد عضويةً مفيدة للزروع».
أو أخٌ أكبرٌ حكيمٌ يدرس في الصف الثاني الابتدائي: «هيه، مالك؟ هل ستظل طفلًا إلى الأبد؟ لم يكن الأقزام السبعة هم من جاؤوا خلسةً بالليل ليكملوا تلوين رسمتك السخيفة أثناء نومك، لقد كانت ماما أيها الغبي»!
بعدها، وعندما ينسكب عليّ سيل نظرات الملامة التي بت أحفظها جيدًا باعتباري خدعت هذا الطفل المسكين طوال تلك السنوات السبع العجاف، أستسلم فورًا ودونما مقاومة لعتاب أفراد كتيبة المنطق هؤلاء، ولفقرة محاكمةٍ تكون قسوة المرافعات فيها أقرب ما تكون إلى قسوة محاكم التفتيش المسيحية في القرون الوسطى، عندها أسقط فورًا من علياء المهندس الماهر لكاتدرائية الخيال الأسطوري العتيدة، لأنحدر بسرعة البرق إلى درك الساحر الشرير والمهرطق المضّلــل. يا لقسوة قضاتي. بمفارقةٍ ما، كان توركيمادا Tourqemada - المفتش الإسباني الأعظم في محاكم التفتيش - أكثر منهم رحمةً، فقد كان الرجل يحارب المنطق العلمي دفاعًا عن الخرافة الأسطورية، أما هؤلاء فيحاسبونني بدعاوى إهدار منطقهم الصلد، والسعي بقوةٍ نحو تأجيل وصول أطفالي إلى محطته الباردة.
بعد حوارٍ كاشفٍ دار اليوم بين طفلي وبين قريبٍ لنا منطقيٌ آخر - ممن يقومون، سامحهم الله، بنقل الأبناء من دفء خيالات أمهاتهم إلى برودة واقع دنياهم - التفتَ إليّ الصغير بكامل جسده مستغربًا، وبنظرةٍ رعبٍ دامعةٍ مليئةٍ بكوكتيلٍ مسمومٍ من الألم، الخيانة وخيبة الأمل معًا، همس لي: «... ماااماااااااا...؟؟؟».
عندما التقت عيناي بعينيّ طفلي رأيت في نظرته تلك خبوًا تدريجيًا متسارعًا لوميض نار الدهشة المقدّسة التي جهدتُ أن أشعلها بداخله منذ تكوّن وعيه، والتي قضيت السنوات السبع الماضية وأنا أذكي في شعلتها. بفضل منطقيي عائلتي هؤلاء، ها هي تعويذة الخيال الأسطوري التي كانت تحمي بيتنا بسياجٍ من البراءة قد زالت بركاتها عنا إلى الأبد. لقد كان هذا أصغر أطفالي، مما يعني أن نافذتنا نصف المشرعة لن تستقبل أيّا من أصدقائنا الأثيرين بعد اليوم. صار على جوّابي الليالي هؤلاء أن يبحثوا لهم عن نافذةٍ أخرى نصف مشرعة، وعن طفلٍ آخرٍ غير محاطٍ بسياجٍ معدنيٍ عازلٍ من الأقارب المنطقيّين، وعن أمٍ أخرى تجاهد جهاد الشهداء لتأجيل اللقاء الحتمي بين وعي طفلها والمنطق الخالص الذي لا يترك أي هامشٍ للخيال. ولكن لا بأس؛ هناك، في بلدٍ ما، في زمنٍ ما، ستوجد تلك الأم التي قررت أن تعيش هي وأطفالها - ولعشرين دقيقة يوميًا فقط - على تلك المنطقة الحدودية الرائعة الكائنة بين الواقع والأسطورة. لا بد أن صديقتي التي لا أعرفها تلك قد تركت نافذتها نصف مشرعة.
مشهد النهاية الدوري المتكرر: على خلفيةٍ من قهقهاتٍ ختامية عالية يسمعها جميع المنطقيين من عداي، وفي ضوء التماع شظايا بلّورة البراءة الطفولية التي لم يشهد تحطّمها سواي، أنكمش في مقعدي، وأحزن. 
بعد حياةٍ كاملةٍ من المنطق، كان كل ما طلبته هو سبع سنواتٍ من الخيال، سبع سنواتٍ فقط. أنا أم، هل هذا عليّ كثير؟ ■