الفلسفة في عصر ما بعد الحداثة

الفلسفة في عصر  ما بعد الحداثة

يؤكد أوليفر ليمان صاحب كتاب «مستقبل الفلسفة في القرن الحادي والعشرين»، أننا قد نكون على أعتاب مجتمع ما بعد الحداثة، إلا أننا بالتأكيد لسنا على أعتاب مجتمع ما بعد الفلسفة، وذلك لأن الفلسفة تعرف عودة وحضورًا متميزين بعد كل ما قيل عن النهايات، من نهاية التاريخ إلى نهاية الإنسان، وأن إنسان الألفية الثالثة يطرح أسئلة جديدة تستدعي عودة التفكير الفلسفي، ذلك التفكير الذي يحكمه تصور للمستقبل لا يقوم على فهم خطي ومستقيم للتاريخ، وإنما على تصور منحنى يغير دائمًا من اتجاهه حسب تحديد الفيلسوف النمساوي الأصل لودفيج فتجشتين.

 

وسيحاول هذا المقال عبر السطور الآتية عرض أبرز التحولات التي شهدها ميدان الفلسفة، والتوجه نحو ربط الفلسفة بالواقع، ومتطلبات القيام بذلك الدور ومجالاته المتعددة. 

تطور الفلسفة عبر التاريخ البشري:
هنالك نظرة سائدة عن الفلسفة، وهي أنها نوعٌ من السفسطة اللفظية التي لا يوجد ما يقابلها في الواقع، وأن الفلاسفة يعيشون في أبراج عاجية ويرون الواقع من أعلى ولا يعيشون فيه مثلما يعيشه الآخرون، ويفكرون في الكثير من الأحيان، بطرق مختلفة تمامًا عمّا هو سائد في مجتمعاتهم، ومن ثم يفقدون صلتهم بالواقع والناس، ولا شك أن مثل هذا الادعاء له ما يبرره خصوصًا في الفلسفات التقليدية والقديمة، لكن لا ينطبق على كل الفلسفة أو الفلاسفة، فإذا نظرنا أولًا إلى طبيعة الكثير من الموضوعات الفلسفية التقليدية فسنجد أن طابعها يفتقر إلى الواقعية، فالفلسفة ضرب من التفكير العقلي المجرد المرتكز على الجوانب العقلية والذي يتعامل مع الأفكار الكلية، أو الكليات الذهنية، المفارقة لعالم الجزيئات الواقعي، فضلًا عن تناولها الموضوعات الميتافيزيقية مثل القيم ومعنى الحياة والتصورات الذهنية والمفاهيم مثل الحرية والإرادة... إلخ، وهذه الموضوعات غير ملموسة ولا يمكن إدراكها عن طريق الحواس. 
كان للطبيعة الخاصة لتلك الموضوعات الأثر الأكبر على طابع التفكير الفلسفي الذي تناولها واتسم بالتجريد العقلي، وقد نتجت عن ذلك مجموعة من الأمور التي دفعت إلى عزلة الفلسفة والفلاسفة إلى حد كبير عن الواقع، فقد صارت الفلسفة حقلًا معرفيًا للنخبة المتمرسة بالتفكير العقلي والمنطقي، والمتميزة عن الآخرين بقدرتها على استيعاب الموضوعات المجردة، واستخدام مناهج ومنطق وطرق تفكير معينة ذهنية الطابع لتحليل الوجود والمعرفة وموضوعاتهما الميتافيزيقية المعروفة، كما الحال في الفلسفات التقليدية. والتعمق في التصورات والمفاهيم والمصطلحات المجردة عبر استخدام مفردات لغوية ذات طابع خاص تختلف عن المفردات اللغوية الدارجة، ويحيط ببعضها الغموض، والاختلاف في تحديدها وتعريفها بشكل دقيق نتيجة تعريفات الفلاسفة المختلفة لها.
استمرت الفلسفة في معظم تاريخها على هذا المنوال على الرغم من ظهور بعض الفلاسفة أو الاتجاهات الفلسفية، حاول القائمون عليها الاقتراب من الواقع وقضاياه، وإشراك الإنسان صاحب الاهتمامات العامة بالشأن الفلسفي، لكن التطورات التي حدثت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شجعت عددًا من الفلاسفة بالتدريج على محاولة ربط الفلسفة بواقع الإنسان وقضاياه المعيشية.
كما حدثت تحولات كبرى في ميدان الفلسفة مع نشأة أفكار ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين كرد فعل على ادعاءات المعرفة القديمة المنتهية والمرتبطة بحداثة عصر النهضة، ولإنهاء الافتراضات المزعوم وجودها في الأفكار الفلسفية الحداثية المتعلقة بالأفكار والثقافة، والهوية، والتاريخ، وتحطيم السرديات الكبرى، وأحادية الوجود واليقين المعرفي، والبحث في أهمية علاقات القوة، والشخصنة أو إضفاء الطابع الشخصي، والخطاب داخل بنية الحقيقة والرؤى الشمولية، والبحث عن خيارات جديدة تشمل الأهداف المشتركة لنقد ما بعد الحداثة والأفكار العالمية للواقع الموضوعي، والأخلاق، والحقيقة، والطبيعة البشرية، والعقل، والعلم، واللغة والتقدم الاجتماعي. وفقًا لذلك، يتميز الفكر ما بعد الحداثي على نطاق واسع بالميل إلى الوعي الذاتي، والإحالة الذاتية، والنسبية المعرفية والأخلاقية، والتعددية وعدم الاحترام.
وفي عالم ما بعد الحداثة، هناك الكثير من الشك في العلوم ذاتها، ويبدو أن فرصة الفلسفة ستكون أكبر في تأكيد مدى اختلافها عن العلوم، فهناك أعداد متزايدة من البشر يرون أن زيادة المكون المادي في الحياة لا تحل كثيرًا من القضايا ذات الإجابات المتنوعة، وهنا يبدو دور الفلسفة مطلوبًا وضروريًا، هذا معناه أن على الفلسفة أن تخاطب الإنسان العادي مباشرة، وأن تتفاعل مع الواقع الاجتماعي.

الفلسفة والواقع: العوامل والمتطلبات
هناك أسباب وعوامل دفعت باتجاه ربط الأفكار الفلسفية بالواقع، والتي تتمثل في: 
1- التطور العلمي، وما أدى إليه من تحولات في الفكر والثقافة الإنسانية، فقد حوّل تفكير الإنسان من طابعه الخيالي والأسطوري والغائي إلى تفكير واقعي فأصبح يبحث عن حلول مشاكله في الواقع مستندًا إلى قدراته العلمية التي أثبتت نجاحاتها بشكل كبير. 
2- التطورات التي حدثت في الفلسفة نفسها لها دور مهم في الاقتراب من الإنسان وواقعه: إذ شهدت نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين التخلي عن المذاهب الفلسفية ذات الطابع الشمولي والتخلي أيضًا عن جوانب عديدة من التجريد، وظهور ما يعرف بـ«الواقعية الجديدة» وأصبح اهتمام الكثير من الفلاسفة منصبًا على الإنسان سواء بالتركيز على الفعل أو الموجود الإنساني أو الحدس أو اللغة وغيرها، وتراجع الاهتمام بشكل كبير بالتحليلات الأنطولوجية، مقابل تزايد التركيز على تحليل الواقع وجزيئاته على حساب الكليات. وقد مهد ذلك الطريق لظهور عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين تجاوزوا أروقة المؤسسات الأكاديمية، وعملوا على ربط الفلسفة بالمجتمع، وإبراز الدور الذي تلعبه الفلسفة في واقع الحياة اليومية. يشير الفيلسوف لودفيج فتجشتين (1889-1951)، إلى أن مهمة الفلاسفة هي إنزال اللغة الفلسفية من استخداماتها الميتافيزيقية إلى الواقع.  وهؤلاء يرون أن المشكلات الفلسفية مصدرها الأساسي واقع الإنسان بكل ما فيه من تفاصيل وأزمات وطموحات وغيرها.
3- التحولات التي جرت خلال العقدين الأخيرين على المستوى العالمي:  فبعد انتهاء الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وسقوط آخر معاقل الأيديولوجيات والمذاهب الفلسفية الشمولية، وأدى ذلك إلى تراجع الفكر والمفكرين وتغلب الجوانب العملية على النظرية، فلم يعد للأفكار النظرية صدى كبير لدى الكثيرين، وهذا يتطلب من القائمين على الفلسفة تلمس مشاكل الإنسان اليومية والعمل على تحليل طرق التفكير السائدة ومعالجة القضايا التي أثارتها التحولات الأخيرة وآثارها على مسيرة الثقافة والحضارة الإنسانية، وجعل من الواقع العملي حقلًا أساسيًا للنشاط الفلسفي.
ومن مواضيع اهتمامات الفلسفة اليوم مفهوم حقوق الإنسان، صدام الحضارات وحرب الثقافات، ظاهرة الإرهاب، نهاية التاريخ، والتواصل بين المجتمعات، الحاسوب والإنترنت، والفضاء العمومي للنقاش، ونظرية العدالة، والدول المارقة، والبيئة المعاصرة، والعدالة المناخية، وقضايا الفضاء الرقمي، وعصر الذكاء الاصطناعي، والخصوصية وغيرها. ومن السهل الادعاء بضرورة ربط الفلسفة بواقع حياة الإنسان اليومي، لكن لا بد من توافر المتطلبات الآتية:
1- قرار ذاتي ورغبة حقيقية من الفيلسوف في إحداث تحول جذري بالاهتمامات الفلسفية: وتحديد وجهتها والخوض في مغامرة تحتاج إلى الجرأة.
2- توافر قدرات معينة لا توجد عند كل مشتغل في حقل الفلسفة: لأن التعامل مع الواقع العملي بحراكه المستمر وتقلباته، يحتاج إلى سرعة بديهة ومهارة تحليلية نقدية تتناسب مع طبيعة الموضوعات المطروحة وحركتها الدائمة.
3- المتابعة المستمرة للشأن العام: ومعرفة النظريات السياسية والاقتصادية والإلمام بموضوعاتهما الأساسية؛ لكونها المحرك الأساسي لأي مجتمع، والمسؤولة عن التحولات النوعية التي تجري فيه، وفهمها يعني معرفة الأسس التي تقوم عليها حركة الواقع. 
4- الجمع بين الفلسفة والثقافة، ومحاولة دفع التفكير الفلسفي باتجاه الثقافة: فلا بد لمن يريد ربط الفلسفة بالواقع أن يكون مثقفًا ومتفلسفًا في الوقت نفسه، ومعرفة الموضوعات المختلفة التي تشكل أوجه الثقافة والفكر السائد في المجتمع الذي يعيشه والوجهة العامة للثقافة والفكر الإنساني، ولابد أن يكون مثقفًا موسوعيًا ومتابعًا لكل ما هو جديد ومؤثر على مستقبل الفكر والبشرية. 
5- استخدام لغة فلسفية واضحة ومبسطة ومباشرة: فاللغة الواضحة والمبسطة والمباشرة والخالية من الإبهام والغموض هي الوسيلة التي يمكن التعبير من خلالها عن القضايا الفلسفية وإيصالها إلى العامة ومناقشة أفكارهم ونقدها بطريقة يستطيع الإنسان العادي فهمها وتقبلها.

فوائد ارتباط الفلسفة بالواقع
في عالم اليوم يجب على الفلاسفة ألا ينعزلوا عن الواقع، بل لا بد من الانخراط في الواقع والنجاح في مخاطبة العامة والالتصاق بقضاياهم فلسفيًا، ما سيغير الصورة السائدة عن الفلسفة ويفتح لها آفاقًا جديدة لم تطرق من قبل، خصوصًا في المجتمعات التي لا يلعب العلم فيها دورًا أساسيًا وتنتشر فيها الخرافة وبقايا التفكير الأسطوري وسيادة التفكير الغائي، وغياب التفكير العلمي، فلا شك أن نشر التفكير العقلاني المتجرد بين العامة سيسهم في التغلب على العديد من المشكلات والتعامل مع الواقع ومستجداته بشكل فعال.
ويتميز الواقع بكونه يتسم بالحركة المستمرة وعدم الثبات، فما يحدث في لحظة ما لا يتكرر مرة أخرى بالتفاصيل نفسها، وما يدور اليوم من أحداث لن يعاد في الغد وهكذا، فواقع الحياة، مثلما قال هيروقليطس، كالنهر الذي إذا وضع الإنسان قدمه فيه مرتين لن تكون الثانية كالأولى، وهذا يعني أن الأفكار التي يتعامل بها الفيلسوف أو المتفلسف لن تكون أفكارًا نظرية جامدة أو ثابتة، بل عليه أن يتفهم طبيعة الأحداث وكيفية النظر إليها من زاوية عقلانية بطريقة فيها من المرونة والتكيف مع طبيعة الحدث الشيء الكثير وفهم أسبابه وأبعاده، وذلك يعني عدم النظر إلى الأحداث وتفسيرها أو تحليلها بأفكار مسبقة أو حلول جاهزة، واستخدام المفردات أو المصطلحات نفسها وتكرارها على الأحداث المختلفة، فالواقع هو المحك الحقيقي لصحة الأفكار وإمكانية تطبيقها، وعلى الفيلسوف ألا يهمل الإنسان ودوره في الحياة، كما أنه لا بد من التعامل مع كل حدث بخصوصيته وأسبابه الفعلية التي تقف وراءه، أي بطريقة مستقلة، أو تنطوي على هامش كبير من الاستقلالية. ومسألة استقلالية الأحداث تعني استقلالية الإنسان، وحرية إرادته في القيام بما يراه مناسبًا من أفعال أو عدمه،  فإرادة الإنسان الحرة لا تنتج عنها تصرفات بطريقة آلية أو حتمية تتكرر مع كل فرد في الأحداث المختلفة وإلا سيعيدنا ذلك إلى الأيديولوجيا وتفسيرات المذاهب الشمولية للواقع والإنسان التي صادرت حريته وجعلته أسير تطورات مادية أو ذهنية مجردة.
إننا اليوم في حاجة إلى الفلسفة أكثر من أي وقت مضى، لكن ذلك لا يعني انفصال الفلسفة عن الواقع، بل يعني توجه الفلسفة نحو معالجة القضايا الإنسانية الراهنة وتساؤلات الإنسان المعاصر، ولا يعني أيضًا ذلك إهمال أو تجاهل التراث الفلسفي النظري العميق والمتراكم عبر العصور، والناتج عن تطور الواقع الحضاري والثقافي للحضارة الإنسانية التي مرت بمراحل متعددة للتطور، وبالتالي فلا محل للقول بموت الفلسفة مثلما ادعى بعض المفكرين المعاصرين، لكن على العكس ستزداد الحاجة إليها لمواجهة قضايا الإنسان الراهنة والمعاصرة، ومن المتوقع أن تنشأ تحولات نوعية في مناهجها وأساليبها، وأفكارها، ولغتها، وهذا ما بدأت ملامحه تظهر ونشهدها يومًا بعد يوم ■