متحف بيجي جوجنهايم في فينيسيا

متحف بيجي جوجنهايم  في فينيسيا

لا تكتمل زيارة البندقية مهما قصرت دون قضاء ساعات في هذا المتحف المتميز بمجموعته من الفن الحديث في مجالي التصوير والنحت. يلفت انتباهك المبنى الأبيض على الضفة الشرقية للقنال الأعظم، وهو الشريان الرئيسي الذي يتنقل فيه كل زوار المدينة من محطة القطار والحافلات الرئيسية جنوبًا إلى جزيرة ليدو شمالًا أو العكس. 

 

ويتميز المبنى بأنه من طابق واحد، من بين المباني التذكارية أو المدنية المتعددة الطبقات، وذلك لأهمية الموقع وارتقاع قيمته المالية والاقتصادية والرمزية. يعتبر فابوريتتو- وهو الباص المائي- الوسيلة العملية المثلى لانتقال الناس بين الأماكن الرئيسية في المدينة ومن ثم التوجه من محطاته على القنال إلى المقاصد الداخلية للمدينة بواسطة الجندول، وهي المركب الصغيرة التي تسير في الجداول المتوسطة والضيقة. ويمكن أيضا التنقل مشيًا على الأقدام، وهي تجربة تضيف لك دائمًا خبرات ممتعة بتنوع ما تشاهده من مبانٍ تاريخية بطرازها المتميز.  
ولدت بيجي جوجنهايم، صاحبة المجموعة الفنية ومؤسسة المتحف الذي يحمل اسمها، في نيويورك عام 1898م لعائلة ثرية كان والد جدها قد هاجر من الجزء الألماني من سويسرا. عملت العائلة في مجال استخراج المعادن وتصنيعها في كولورادو وألاسكا وتشيلي، وأصبحت في بداية الحرب العالمية الأولى تمتلك أكثر من 75 في المئة من الفضة والنحاس والرصاص في العالم. وبيجي هي سادس أبناء بنيامين الذي غرق في حادثة تيتانيك المشهورة عام 1912م.  
وصفت نفسها مرة بأنها «مدمنة فن» لتميزها عن عائلتها وأقاربها المنغمسين في دنيا المال والأعمال. قضت حياتها تجمع الأعمال الفنية وتدعم الفنانين المعاصرين لها. انغمست في مجتمع المثقفين الطليعيين منذ وصولها إلى باريس عام 1920م. دخلت حلقات مثل تلك التي حول مارسيل دوشامب، وتميزت بأسلوب عيش وذوق عال، وانعكس ذلك على كل ما قامت به سواء أكان في الاقتناء أو تأسيس القاعتين لعرض الفن المعاصر وتسويقه، أو إنشاء المتحف. تزوجت من الدادائي لورنس فيل ثم من السريالي ماكس آرنست، ولديها ابنة من الأول هي منظمة المعارض كارول فيل والكاتب الفنان جونا بارنز. لقد صورها الفوتوغرافي المعروف مان ريه، وارتدت أزياء من أعمال المصمم المعروف بول بويرييه. افتتحت جاليري للفن عام 1939م في لندن، وخططت لإقامة متحف فيها على نية أن يكون هربرت ريد مديرًا له، إلا أن اشتعال الحرب العالمية الثانية أوقف المشروع. وكان لديها 170 عملًا فنيًا للمتحف، وهي ضمن مجموعة المتحف الآن، وظهرت في أول كاتالوج لمقتنياتها عام 1942م، وقد كتب مقدمته بريتون الأب الروحي للسريالية. عادت إلى نيويورك وافتتحت جاليري فيها عام 1942 وسمته «فن القرن الحالي». قد تكون الترتيبات مع مؤسسة عمها جوجنهايم قد حدثت عام 1969، وذلك عندما عرضت بمتحف المؤسسة في نيويورك، مشترطة أن تبقي مجموعتها بقصرها في فينيسيا. وتوفيت في المدينة عام 1979 بعد إقامتها فيها ثلاثين عامًا، وعندها أصبحت مجموعة بيجي تحت إدارة مؤسسة سولومون جوجنهايم ورعايتها بالكامل، حيث اعتبر هذا المتحف من أهم المتاحف في الغرب التي تعنى بالفن الحديث.  لقد تضخم حجم المؤسسة حيث افتتحت فرعًا آخر في المدينة الإسبانية بلباو باسم جوجنهايم بلباو عام 1997، ودويتشه جوجنهايم برلين، وهيرميتاج جوجنهايم في لاس فيغاس، وفرعًا آخر في أبو ظبي ما زال قيد الإنشاء.
أما بخصوص مبنى المتحف فهو قصر فينير دي ليوني الذي له واجهة طويلة ومنخفضة بخطوط واضحة وجدران بيضاء ناصعة. بدأت أسرة فينير ذات الحضور القوي في المدينة التخطيط لبنائه عام 1749 ليكون من خمسة طوابق كمبنى تذكاري يقع بين الأكاديمية وبازيليكا ديلا سالوت تخليدا لاسم العائلة. بدأ العمل بعد سنتين على تنفيذه إلا أنه قد توقف بعد الطابق الأول، ويبدو أن الأساسات لم تكن كافية لإتمام إكمال بناء الطبقات فوقه. ويحتمل أن انخفاض قدرة الأسرة المالية وعدم وجود ورثة ذكور في الأسرة قد أنهيا فكرة المشروع. ويحتمل كذلك أن الأوضاع قد ارتبكت بسبب احتلال نابليون للمدينة. وقد انتقل القصر بين عدد من الملاك، وأصابه التلف نتيجة الإهمال عبر الزمن. وقد أتى إحياء هذا القصر على يد ثلاث سيدات منذ بداية القرن العشرين كانت آخرها بيجي. امتلكته في عام 1948 مع حديقته في الخلف وبدأت في زيادة مجموعتها الفنية الخاصة.
عملت بيجي تعديلات في التصميم الداخلي للقصر ليناسب عرض مقتنياتها من الأعمال الفنية. بدأت فتح القصر للعامة عام 1951، وجعلت الدخول مجانًا بعد ظهر ثلاثة أيام في الأسبوع في شهور الربيع والصيف، وبقي كذلك حتى اليوم. كانت قد أضافت مباني منخفضة في الحديقة تحوي الآن قاعات إضافية للعرض، وجعل بجانبها مقهى المتحف. تضاعفت مساحة المتحف اليوم لتصبح أربعة آلاف متر مربع. يدخل الزائر اليوم من الشارع الضيق خلف المتحف ويتجه إلى اليسار ليجد بعد الباب مباشرة الاستقبال ومركز بيع التذاكر وسوق المتحف، ثم يستمر في اتجاه المبنى الرئيسي بصعود عدة درجات، وبمكن الزائر أن يخرج من داخله إلى الشرفة المطلة على القنال.
افتنت بيجي أعمالًا غطت الحداثة من الدادا والسريالية وصولا إلى التعبيرية التجريدية. وجمعت أعمالًا للفنانين براك وبيكاسو، ومستقبلية لجياكومو بالا وجينو سفريتي وفن اللااستحضار الأوروبي لكاندنسكي وكازمير مالفيش وموندريان، والسريالية لدالي وماكس آرنست ورينيه ماجريت وتاتغاي، والتعبيرية التجريدية لبولوك وروثكو وماذرويل. وحوت المجموعة أحسن الأمثلة من فن النحت لأعظم  نحاتي القرن العشرين، حيث ضمت أعمال برانكوزي وكالدر وجياكوميتي. وكان مستشاروها في اقتناء الأعمال الفنية: دوشامب وألفريد بار، وهو أول مدير لمتحف الفن الحديث في نيويورك، وصموئيل بيكيت ومؤرخ الفن هربرت ريد. ويشمل المتحف المجموعة التي قدمتها أسرة شولهوف إلى المؤسسة، والتي تضم أعمالًا أوربية وأمريكية من بعد الحرب العالمية الثانية بلغت 117 عملًا، وتوجد في هذه المجموعة أعمال لبوري ودوبوفيه وكيلي وستيلا ووتومبلي وورهول. وهناك منحوتات الحديقة التي أتت من مجموعتي شولهوف وناشر لفنانين مثل شيليدا وهبورث وهولزر. 
ونستعرض بعض الأعمال مع الاعتراف بصعوبة الاختيار من بين هذا الكم الكبير من الأعمال الفنية كونها علامات بارزة في تطور الفن الحديث. نختار العمل «رجال في المدينة» لفرناند ليجيه عام 1919، والذي يقول بضياع فردية الإنسان في المدينة وذلك في أجواء ما بعد الحرب الأولى، وحاول فيها استحضار إيقاع الطاقة الإيجابية للحياة من خلال إيجاد معادلها التصويري. أما عمل جان آرب «حذاء أزرق مقلوب» عام 1925م الذي يتألف من قطع خشبية مدهونة، فيستحضر النمو الطبيعي من خلال التعامل مع الصدفة والتحكم فيها بوعي. لقد كان مع الدادائية ثم انتمى في العشرينات إلى السريالية واحتفل معها بالعفوية. يعود عمل بولوك «المرأة القمر» من عام 1942 إلى ما قبل تحقق أسلوبه الذي عرف به. تأثر بميرو وبيكاسو وبالسريالية، حيث اعتمد على اللاوعي ورسم الشخوص الأسطورية والطوطمية والطقوس البدائية. يشبه هذا العمل لوحة بيكاسو «فتاة أمام المرآة» عام 1932، حيث إنها فتاة واقفة بخطوط سوداء ثقيلة تحدد شكل الرأس من الأمام والجانب. إنها تمثل في ذلك وجهي الشخص العام والخاص متأثرًا بالشاعر الفرنسي بودليو كغيره في تلك الفترة بخصوص ضبابية الحضور. ونقدم أخيرًا عمل كارل أبل، وهو من جماعة كوبرا، «التمساح الباكي يحاول الإمساك بالشمس» من 1956، الذي يبدو فيه التأكيد على حضور مادة الألوان الزيتية وتطبيقها بحرية وبطريقة فطرية مقصودة. اتسم أسلوبه بتسطيح الأشكال المحددة بخطوط سوداء ثقيلة كرسوم الأطفال. وتتميز بإيقاع عنيف وحركة، ولقد وضع الألوان كعجينة بحرية، بحيث تترك ظلالها انطباعا بالتضاد اللوني العنيف. 
وأخيرا، لدى المتحف العديد من البرامج التثقيفية ذات الصلة بمقتنياته. يقدم محاضرات في موضوعات متنوعة مثل السريالية وسلسلة مواد دراسية يقوم بها مختصون عن بعد. وهناك دخول مجاني لمواطني المدينة والمولودين فيها وطلاب جامعاتها كل يوم ثلاثاء من شهر كانون أول، وتعقد ستة لقاءات مع الأطفال وأهاليهم للتعرف على الحرف والأعمال اليدوية في المدينة. وهناك برنامج للدمج الاجتماعي للمهاجرين عن طريق الجولات الثقافية، كما أنه لدى المتحف برنامج تدريبي دولي للشباب الذين ينوون العمل في مجالات الفنون، ويهيئ جولات خاصة في مجموعة المتحف مخصصة لفاقدي وضعاف البصر. ويقيم ورش عمل مجانية للمعلمين لتطوير قدراتهم في التدريس. إن متوسط عدد زوار المتحف السنوي يبلغ نحو 400 ألف زائر، أما الميزانية السنوية فتبلغ ستة ملايين دولار، ومع ذلك يحقق ربحًا متواضعًا.
صادفت زيارتي للمتحف وجود معرض بعنوان «السريالية والسحر: إثراء الحداثة» في قاعة العروض المتغيرة المطلة على الحديقة. إنه أول معرض إعارة دولي كبير، وشمل نحو ستين عملا من عدة متاحف ومن مجموعات خاصة. قدم المعرض تطور الحركة السريالية من إرهاصاتها البعيدة كما في لوحات ما وراء الواقع للفنان جورجيو دي شيركو إلى فترة النضوج كما في أعمال الفنان ماكس آرنست. اعتمد فنانو هذه الحركة على رمزية غامضة، مع تركيزهم على تصورات غريبة، حيث كانوا ينظرون إلى السحر كشعرية وممارسة فلسفية عميقة متصلة بقدرات الفنان وطاقاته الخلاقة. يمكنك أن تقضي عدة ساعات مليئة بالمتعة والبهجة والمعرفة، وما زال المتحف يترك داخلنا مشاعر حميمة كأنه لم يزل بيتًا شغفت صاحبته بالفن وسمحت لنا بزيارتها والاطلاع على ما لديها من فن ■