كتاب «محاورة التراث والحوار مع الآخر» محاولة لتفكيك عقدة التراث العربي

كتاب «محاورة التراث والحوار مع الآخر»  محاولة لتفكيك عقدة التراث العربي

يعالج كتاب «محاورة التراث والحوار مع الآخر»، للدكتور صالح هويدي، الكثير من قضايا التراث العربي، مُسلطًا الضوء على المسكوت عنه من تلك القضايا الملحة، التي يرى المؤلف أنها تحتاج لإعادة النظر فيها عبر إعادة قراءة التراث بمنطلقات معرفية، والنظر له بوصفـه «وقـائـع الأمـس وأحداثه ومنتجاته التـي أنتجهـا أهلهـا»، وبمعنى آخر، أن نقرأه قراءة موضوعية بمنهـج الـعلـم الـذي لا يجعلنـا مشـاركين فيهـا أو مسـؤولين عنهـا.

 

يطرح الكتاب الصادر عن معهد الشارقة للتراث، والذي جاء في خمسة فصول، إضافة إلى المقدمة والمدخل، بعض التساؤلات المهمة ذات الصلة بالتراث وقضاياه، ساعيا إلى إيجاد إجابات لها.
ومن بين الأسئلة التي يطرحها الكتاب: لماذا فشل العرب في تقديم تراثهم للأجيال الناشئة على نحو منسجم وواضح؟ ولِمَ لَمْ ننجح نحن العرب أن نفكر في تراثنا العربي بعيدًا عن كونه عقدة سرعان ما يؤدي فتحها إلى تفجر شظايا لا حصر لها، لتفرقنا بعضنا عن بعض من جهة، ولتوزعنا في مظاهر فرقة أخرى إزاء الآخر (الغربي) من جهة أخرى؟
الكتاب يفتح أيضًا باب النقاش واسعًا حول «أفق الحوار مع الآخر في فكرنا المعاصر»، ويطرح بعضًا من الأسئلة حول ذلك الملف المهم مثل: هل من سبيل للحوار مع الآخر؟ ولمَ التحاور؟ ويقدم مقاربة لموقع الحوار في العقيدة، والمسوغات الفلسفية للحوار، والثمرات الإيجابية له، وآليات نشر ثقافة الحوار.
ولعل في ذلك دعوة إلى إعادة النظر لظاهرة الاستشراق، والبحث فيها من منطلق أنها ظاهرة ترتبط بدراسة الآخر لعلوم العرب والمسلمين.

ماضٍ منقطع أم تاريخ موصول؟
وفي موضوعات الكتاب نقرأ: «نصوص من التراث»، و«ماضٍ منقطع أم تاريخ موصول»، و«تأليف العلماء المسلمين في علم الموسيقى»، و«تأثير الموسيقى العربية في الثقافة الأوربية»، والفلسفة الإسلامية، ونشأتها، وخصوصيتها، وموقف المستشرقين من الفلسفة الإسلامية، وأثر الفلاسفة المسلمين في الثقافة الغربية، وموقع الفن في الحضارة الإسلامية، وفن العمارة، وجماليات بناء المساجد الإسلامية، وفن عمارة المدن، وأثر العمارة الإسلامية في العمارة الأوربية، والموسيقى والغناء، وازدهار الفنون في العصر العباسي، وغير ذلك من الموضوعات المتعلقة بالتراث والحوار مع الآخر.
ويؤكد الدكتور صالح هويدي عبر صفحات كتابه، على أننا «هـا نـحـن اليـوم كـمـا بالأمـس مختلفـون حـول تراثنـا، مثلمـا نحـن مختلفـون حـول الآخـر... ولاءً وعداء، رفضًا وقبولًا، وذلك على الرغم مما أنتجه الواقـع الفـكـري العربي الحديث مـن قـامـات فـكريـة وأسماء غير قليلة قاربت هذه الإشكاليات بمنطلقات معرفية وطرائق علمية تفخر بها صفحات الثقافة العربية، من دون أن يلتقطها صنّاع القرار، أو تُعنى بها حكوماتنا ودولنا».
ويُحذر المؤلف من أنه لو استمر الأمـر عـلى هـذا النحـو مـن النسـق غير المسـؤول؛ فـإن المفاجآت التـي قـذف بـهـا الـواقـع العربـي مـن البنـى الفكريـة المتطرفـة الظلاميـة التـي سعت إلى إيجاد روابط زائفة بالعقيدة الإسلامية، ستستمر في التوالـد والتخريب بمظاهـر وأشكال مختلفة، في وقت لا يتوقـف فـيـه قـطـار الزمـن المتسرب عندنا، لكنه المحسـوب حـسـابًا دقيقًا لـدى الشـعـوب المتقدمـة، تلك الشعوب التي نجحـت في التصالـح مـع تراثهـا وهضـم مـا أنتجتـه، ووجدت له موضعـًا بنيويـًا ضمـن منظومتهـا المعرفية، ليصبـح منطلقًا نحو المستقبل، لا عنـصـر شـد وتراجـع إلى الوراء.
وتؤكد فصول الكتاب على حقيقة أن الإنسـان أينمـا كان، ينبغي أن يتخـذ مـن واقعـه المعيـش الـذي يحيـا في لحظتــه الحـاضرة، ومـا يرتبـط بـه مـن مصالـح وضرورات واشتراطات، منطلقـه ومعيـاره للحكـم عـلى المـاضي، وليـس اتخـاذ المـاضي مهما بلـغ مـن الـرقـي - معيـارًا لفرض سلطته علينـا أو مقاييسـه وقيمـه ورؤاه، وأنه بهـذا نحـول دون بـروز مظاهـر التطـرف وألـوان التعصـب والتكلـس الـتـي تفـت في عضـد بنائنـا الثقـافي ووحدتنـا الاجتماعيـة وعقيدتنـا الروحيـة.

واقع الثقافة العربية
وتُشدد فصول الكتاب على أن اتخاذنـا مـن واقـع الثقافـة العربيـة وتلاحـم القـوميـات ضمن إطارهـا الاجتماعي والثقـافي منـذ قـرون ومـن مصالحهـا ورؤاهـا المستقبلية وطموحاتهـا المشروعـة، كمعيـار وأولوية في أي مقاربة مـع الآخـر، تنشـد التفاعل الإيجابي معـه والإفـادة مـن تقدمـه، فذلـك السبيل الوحيـد الـذي مـن شـأنه أن يحـول دون ظهور صراعات قومية أو إثنية أو دينية أو مذهبيـة أو طائفية، لتغليـب هـويـات خارجيـة أو نزعـات للتنصل من الوشـائج، أو تحقير للهويـة وتغليب للآخر، أو انسحاق للذات، واستمراء للذوبان فيه والمتابعة لخطاه متابعة الظل للأصل.

تنظير وتفسير وتأويل
وذهب هويدي في كتابه هذا إلى القول بأن المسلم لم يعد يميز بين ما هو ديـن حـقـًا، ومـا هـو فـكـر ديـنـي فـيـه ألـوان مـن التنظير والتفسير والتأويـل، وأمـا الإساءة الثانيـة فـهـي مـا غـدا الآخـر يـرى ديننا فيها مـن خـلال مـا تبلور لـه مـن صـور شـكلّها لـه بعض المتطرفين، من صور فيها من التطرف والتعصب المقيت والسادية وكراهيـة الآخـر ووصف شعوبه بشـتى الصنـوف وأبشـع الصفـات، وإزهاق أرواح الأبرياء منهم.
أما الرسالة التي ينشدها مؤلف الكتاب، فيمكننا أن نلخصها في ضرورة وضع حد لدوراننا في حلقة مفرغة... نتنازع ونتقاتـل ونتـوزع شـيعًا ومذاهـب عـلى أمـور ليـس لنـا يـد فيهـا، ومـن أجـل وقائـع لا نعـرف عنهـا إلا مـا نقله المؤرخـون لـنـا في سردياتهـم الصادرة عن شخصياتهم البشريـة المعرضـة لـكـل مـا نتعـرض نـحـن إليـه مـن ظـروف تاريخية وسيكولوجية وثقافيـة وسياسية، وهـي في الأغلب دونت في حـقـب وآمـاد زمنيـة بعيـدة عـن ملابسـات تلك الأحداث والوقائع.
كذلك ضرورة أن نمتلك ناصيـة العلـم التـي امتلكهـا أجدادنـا مـن قبـل، وقادوا العالم في هـدي نـورهـا ومعطياتها، بعد أن تفاعلـوا مـع حضارات الأمس وإمبراطورياتـه وأفـادوا منها: مـن فـرس وإغريق وهنـود وصينيين، وأن نكـف عـن مطاردة الإنسان والبحث عن نياته، والتفتيش في ضميره وفرض معتقداتنـا عليـه، والتفرغ للبناء الفكري والإصلاح السياسي، الذي يبعد عن خلط الدين بالسياسة، ليحفظ له مكانته، ويبعد الأفّاقين عن الاصطياد في المياه العكرة، مع منح الإنسان حريته وحقه في الاعتقاد والتعبير، وذلك وفقًا لصفحات الكتاب وفصوله.

تجاوز تعريفات التراث السائدة
فصول الكتاب ربما تسعى لتجاوز تعريفات التراث السائدة، وتسعى للتأسيس لقراءة جديدة لذلك التراث، بمفاهيمه وتعريفاته المتعددة، والنظر إليه برؤية مختلفة، باعتباره يحمل كل ما له قيمة باقية من تراث الأمة، وما خلّفه السابقون سواء كان ذلك آثارًا علمية أو أدبية وفنية، وحتى تلك الآثار المادية والتي تتمثّلُ في المعالم والمقتنيات الأثرية، والكتب والمخطوطات وغيرها.
وختامًا فإن محتويات الكتاب هي بمنزلة محاولة لإشاعة جـو مـن الحـوار الساعي إلى إحداث فعل التنوير الذي لا يكتمـل مـن دون تعدد الأصوات وتنوع الرؤى والاجتهادات لقراءة تراثنا العربي، الذي انطوى على فيوضات عقلية وأنواع من التلاوين التي أخذت طريقها إلى العالم، واعترفت حضارة الغرب باستثمارها لمنطلقاته المدهشة؛ ودعوة لخدمة تراثنا واستثمار حاضرنا للحاق بركب المجتمعات التي سبقتنا إلى توفير مستلزمات الحياة الرشيدة للإنسان خليفة الله في أرضه، وهدف الديانات السماوية ومحورها جميعًا.
يُذكر أن الدكتور صالح هويدي، كان قد نال شهادة الماجستير في البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن، من جامعة القاهرة، ونال شهادة الدكتوراه في الأدب الحديث ونقده، من جامعة بغداد، ويشغل منصب مدير تحرير مجلة «المورث»، المجلة البحثية المحكمة التي يصدرها معهد الشارقة للتراث بالشارقة منذ العام 2016، وله عشرات المشاركات البحثية بالمؤتمرات والدوريات المختلفة، كما عمل في العديد من الجامعات، وانضم لعضوية العديد من المجلات الثقافية، بجانب إصداره لقرابة 25 كتابًا تدور في فلك التراث والأدب والثقافة ■