المخطط الوراثي كيف يجعلنا الـ DNA مَن نكون؟

المخطط الوراثي كيف يجعلنا الـ DNA مَن نكون؟

في عام 1866 بين مندل كيفية عمل الوراثة وظيفيًا، واستنتج أن هناك عنصرين للوراثة في كل فرد يتلقاهما من والديه. حتى خمسينيات القرن العشرين ظلت ماهية هذين العنصرين أحجية إلى أن تم وصف بنية الحلزون المشهور في الـ DNA فهو يتكون من ضفيرتين تلتفت إحداهما حول الأخرى، ترتبطان معًا ارتباطًا ضعيفًا بدرجات تتكون من الروابط الكيميائية بين أربعة جزيئات تسمى النيوكليوتيدات. يوجد ثلاثة مليارات درجة في الحلزون المزدوج للـ DNA، وهو ما يسمى بالجينوم، الذي ينقسم إلى 23 جزءًا، أو كروموسوما، تتباين من حيث الطول بين 50 مليونًا و250 مليون درجة.  في الواقع يمتلك الإنسان ستة مليارات درجة نيوكليوتيدية لأن مخططه الوراثي يتكون من جينومين، أحدهما من الوالد والثاني من الوالدة؛ أي 23 زوجًا من الكروموسومات التي يأتي أحدها من النطفة والثاني من البويضة، وهاتان الخليتان هما الوحيدتان اللتان تحتويان على كروموسوم واحد من كل زوج، وعندما تمتزجان فإنهما يشكلان البويضة الملقحة التي تنقسم إلى خليتين، تنقسم كل واحدة منهما إلى خليتين، وهكذا مرة بعد مرة حتى تنتج في النهاية تريليونات الخلايا التي تحتوي كل منها على تتابع الـDNA نفسه.

 

وهكذا يكون تشابه الأشقاء وراثيًا بنسبة 50 في المئة بينما يكون لدى التوائم المتطابقة 100 في المئة. نحو 99 في المئة من الثلاثة مليارات درجة الموجودة في تتابع الـDNA متطابقة بين البشر، وهذا ما يجعلنا متشابهين، لكن تبقى 30 مليون درجة مختلفة هي التي تجعلنا مختلفين فيما بيننا، وتمنح كل واحد فردانيته.
تم إجراء أول تتابع للجينوم البشري في عام 2004 بعد أن جرى تحديد كل واحدة من الدرجات النيوكليوتيدية.

الطبيعة والتنشئة
طوال الجزء الأكبر من القرن العشرين كان يفترض أن السمات النفسية تسببها عوامل بيئية، لأنه منذ فرويد فصاعدًا كان يعتقد أن أصولها تكمن في البيئة الأسرية، بيد أن الجينات تنتقل في الأسر من جيل إلى جيل، ومن ثم فإن سبب انتقال السمات النفسية في الأسر قد يعود إلى الطبيعة (الوراثة) إضافة إلى التنشئة (البيئة) وقد اعتمدت الأبحاث الوراثية في فك الارتباط بينهما على منهجين هما: التبني والتوائم، وقد خلصت الدراسات عليهما إلى أهمية الأثر الوراثي في السمات النفسية. كما وجدت الدراسات الوراثية للإجراءات البيئية درجة كبيرة من التوريث في معظم إجراءات البيئة مثل الأبوة والأمومة، ومجموعة الأتراب، والدعم الاجتماعي، وحتى الوقت الذي يقضيه الأطفال في مشاهدة التلفاز. والوراثة مسؤولة عادة عن نحو نصف التلازم بين الإجراءات البيئية والسمات النفسية. ويؤكد المؤلف أن الوراثة ليست محرّكًا للدمى يشد خيوطها ويرخيها، فالآثار الوراثية هي ميول احتمالية، وليست نوعًا من البرمجة المحتمة سلفًا.
إن نشوء الإخوة في بيئة أسرية مشتركة لا يجعلهم متشابهين جسديًا ونفسيا بدرجة أكبر مما يسمح به الشبه العائد إلى أسباب وراثية. وفي حين أن أثر البيئة المشتركة يتراجع خلال المراهقة فإن التوريث يزداد بصورة مستمرة.  حتى تأثيرات البيئة غير المشتركة أظهرت الأبحاث الوراثية أنها غير منتظمة وغير مستقرة.
الآثار الوراثية تصبح أكثر أهمية عندما نصبح أكبر سنًا؛ فما من سمة نفسية تظهر أثرًا وراثيًا أقل مع التقدم في العمر، لكن المجال الذي يزداد في التوريث بصورة أكثر دراماتيكية خلال التطور يتمثل في القدرة المعرفية؛ فالذكاء يبلغ وسطي توريثه في الحياة بأكملها 50 في المئة لكنه يزداد بصورة كبيرة من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب.

غير الطبيعي طبيعي
تشخص المشكلات النفسية كأنها أمراض، إما أنك مصاب أو غير مصاب بها، أما المؤلف فيرى أن ما نسميها اضطرابات هي مجرد الحالات القصوى للجينات نفسها التي تعمل في جميع أجزاء التوزيع الطبيعي.  والأسباب الوراثية لما نسميه الاضطرابات مختلفة كميًا، لا نوعيًا. المسألة مسألة أكثر أو أقل، وليس إما أو، وهذا يعني أنه لا توجد اضطرابات، بل حالات متطرّفة للأبعاد الكمية، وبالتالي فالاضطرابات غير الطبيعية ليست سوى الحدود القصوى للأبعاد الطبيعية. ويرى المؤلف أن ثمة حاجة إلى تغيير المفردات التي نستخدمها بحيث نتحدث عن أبعاد وليس عن اضطرابات، وهذا ما بدأ يحدث في الطب النفسي فعلا، فالفصام بات يسمى الآن طيف الفصام، والتوحد طيف التوحد. وما ينتج عن ذلك أننا لا نستطيع شفاء اضطراب لأنه ليس هناك اضطراب، ويجب أن ينظر إلى نجاح المعالجة بصورة كمية باعتبارها درجة تخفيف المشكلة.  يمتلك الجنس البشري آلاف الاضطرابات المرتبطة بجين واحد، لكنها نادرة، مثل مرض هانتنغتون.  وعلى العكس من ذلك، فإن الاضطرابات الشائعة، بما في ذلك جميع الاضطرابات النفسية، لا يسببها جين واحد.
  
الجينات العامة
يقدم علم الوراثة أساسًا سببيًا للتنبؤ بالاضطرابات بدلًا من الانتظار حتى ظهور الأعراض ومن ثم محاولة استخدام هذه الأعراض، بدلًا من الأسباب، لتشخيص الاضطرابات. فاختلافات  الـ DNA الموروثة تسهم بصورة كبيرة في خطر أن تعاني من القلق أو الاكتئاب لكنها لا تحدد ما إذا كنت ستشخص بالقلق أو الاكتئاب، لأن ذلك يعود إلى عوامل بيئية، فالمخاطر الوراثية عامة في جميع الاضطرابات، أما المخاطر البيئية فهي محددة باضطراب معين. الأثر الوراثي تسببه الآلاف من اختلافات الـ DNA ذات حجم الأثر الصغير، وكل اختلاف منها يؤثر في عدة سمات.
                 
التنبؤ
التوريث تسببه آلاف الارتباطات ذات الآثار الصغيرة جدًا، إذ لا وجود لارتباطات مسؤولة عن أكثر من 1 في المئة من الاختلافات بين الأفراد، وجمع هذه الارتباطات في درجات متعددة الجينات يجعل من الممكن التنبؤ بسمات جسدية ونفسية.  وأكثر الدرجات متعددة الجينات قدرة على التنبؤ حتى الآن هي الطول، وتفسر 17 في المئة من التباين في طول البالغين، وقوتها التنبؤية أكبر من أي متنبئات أخرى بما فيها طول الوالدين.
حتى الآن، لا يمكن استخدام الدرجات متعددة الجينات بحد ذاتها لتشخيص الاضطرابات، على الرغم من أنها أفضل المتنبئات بالنسبة إلى الفصام، وكذلك لمدى نجاح الأطفال في المدارس. ومن المتوقع أن تتضاعف قوتها التنبؤية في السنوات القادمة.
ومن خصائص هذه الدرجات أن التنبؤات التي تستند إليها بالسمات النفسية سببية، كما أنها تتنبأ منذ الولادة بالدقة نفسها التي تتنبأ بها في فترة لاحقة من الحياة، كما أنها تستطيع أن تتنبأ بالاختلافات بين أفراد الأسرة. وهذه الخصائص ستغير علم النفس السريري بصورة لن يعود من الممكن التعرف عليها بسبب الدرجات متعددة الجينات، التي تركز على الأسباب بدلًا من الأعراض، والأبعاد بدلًا من التشخيصات، وعلى العلاجات المفصلة طبقًا لاحتياجات الأشخاص بدلًا من استخدام «حجم واحد يناسب الجميع»، وعلى الوقاية بدلًا من العلاج، وعلى التركيز الإيجابي على الصحة بدلًا من التركيز على المرض.
ويخلص المؤلف إلى القول إن ذلك لا يعني أن الجينات قدر، بل يعني أنه من المنطقي أكثر، عندما يكون ذلك ممكنًا، أن نسير في الاتجاه الذي تدفعنا فيه جيناتنا بدلًا من محاولة السباحة عكس تيارها ■