لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

لم يكن من اليسير انتخاب ثلاث قصص بين مجموعة جيِّدة تشفُّ عن مواهب حقيقية لمؤلفيها، يجدر العناية بهم كما يتعين عليهم من جهتهم أيضًا المثابرة لتطوير أدواتهم الفنية وثروتهم اللغوية، كذلك فن القصة القصيرة يتطلب التركيز والاعتناء بعوامل أساسيّة عدة تُبنى من خلالها القواعد التي يمكن أن نفاضل من خلالها بين واحدة وأخرى، فقد وجدت في بعض القصص لغة عالية جدًا ورصينة، لكنها مسرفة في الاستعراض اللغوي الذي يمكن أن يتناسب مع النص الشعري، كإضافة بعض النعوت والمفردات المتكلفة التي لا تؤدي غرضها في قصة قصيرة، وتعتبر نوعًا من الحشو الذي ينحو بالقارئ إلى مجانبة الفكرة أو القضية الرئيسة، وفي مواقع أخرى يتم توجيه القصة توجيهًا مباشرًا للتعبير عن رأي يرد على لسان إحدى شخصياتها ، وهو من العيوب الجلية في الفنون السردية الإبداعية، وفي اتجاه معاكس نرى مبالغة في الإبهام وغموض المعنى أو الهدف المرجو من القصة، والذي بدوره قد ينتزع حالة المتعة التي تحيط بالقارئ لحظة التلقي. 
يجدر بنا الإقرار بأن القصة القصيرة فنّ صعب يواجه الكاتب والمتلقي على حد سواء، إذ يعتمد بشكل كبير على الاقتصاد في الكلمات، لأن كل ما يفيض عن حاجة النص سواء في الوصف أو الحدث يعتبر عيبًا يستوجب تشذيبه، فيحق لكاتب القصة القصيرة أن يتخلى عن عناصر الزمان والمكان والشخوص والبيئة من دون أن يضر ببنية النص، ويحكي قصته فقط من خلال الحدث الواقع سرده في حينها.


المرتبة الأولى: «مدد يا بني غازي مدد» لمحمد كمال أبو العينين/ مصر
أجاد الكاتب استخدام الضمير المتكلم في سرد حكايته التي جاءت غاية في العفوية والصدق، الأمر الذي منح السارد شخصية متينة حقيقية متفاعلة، مثل زميل عمل أو صديق تعرفه عن قرب، وهذا الانطباع يتلقاه القارئ بشكل متدرج مع مضي الأحداث حتى النهاية. احتوت القصة على حوارات ومشاهد حيّة وبضعة تأملات عابرة مثل انزعاجه من أسلوب موظف الاستقبال، أو شكه في نيّة لطفي جاره الذي عرض عليه خدمة إيصاله إلى وجهته. مجريات القصة على بساطتها تعكس حالة من الكوميديا السوداء التي تسخر من حاجة البحث عن وظيفة كريمة، والتي تصل إلى مرحلة من عدم الثقة واليقين حيال صحة إعلان توافر فرص عمل في (بنغازي) حتى بعد التأكد من وجود شركة حقيقية لها كيان وموظفون أجروا له الاختبار اللازم للظفر بإحدى الوظائف الشاغرة، وهذا يعكس مدى الشعور العام بالإحباط واليأس الذي تناوله الكاتب بروح الدعابة التي تبدو مثل نوع من أنواع محاولة التعايش مع الواقع، وبأسلوب غير متكلف نهائيًا أدى غرضه في فن القصة القصيرة.   

المرتبة الثانية: «فقد» لعاتقة القضيب/ السعودية
تخوض الكاتبة قصتها في لغة جميلة وسرد متماسك، وتصاعد متدرج للكشف عن الشيء الضائع الذي يتم تناوله عبر مجموعة تساؤلات سريالية آخذة في التصاعد المبني بناءً جيدًا، خصوصًا بعد التصريح عن «قلبها» المفقود. الجيِّد هو إصرار القصة، حتى آخر كلمة فيها، على ألا يتحوّل الفقد إلى حالة رمزية مباشرة، حين أخذت تتحدث عن الأثر التشريحي والفسيولوجي الذي يتركه اختفاء القلب بأسلوب مقنع أو مقتنع بذاته على الأقل والمشاعر المصاحبة له، بينما يفطن القارئ عند نهايتها إلى أن المعنى المبيت من الشرح له علاقة مباشرة بالأثر النفسي والعاطفي. واستمرت في إلقاء جلِّ تركيزها على الحدث الآني، وشخصياتها التي ظهر بعضها بشكل جانبيّ لكنه متصل بالحدث الأساسي ويخدمه ويحشد له، حتى نصل إلى نهاية مقبولة تعطي المعنى والأصالة لكل ما ورد من تساؤلات وأحاسيس ومخاوف. 

المرتبة الثالثة: «خريف العمر» لمحمد علي عبيد/ مصر
تعتمد القصة بشكل ما على ترادف الصور والحالات مثلما يحدث في مطلعها حينما ترى الشخصية المحورية نفسها في شجرة. يختلط هذا التأمل مع تداعي الذكريات حين يجد صعوبة في قطع درجات السلم نحو شقته، خصوصًا بعد سؤال أحد أبناء الجيران عن سبب توقفه فجأة، والذي كان بغية التقاط أنفاسه. 
يتناول الكاتب في أحداث متوالية تأملات مضي العمر ومشاعر كبار السن الذي يرثُون شبابهم بالذكرى، حتى الأمل الذي تمثّل بـ (يسرية) جارتهم التي عادت من هجرتها، والذي ظنها ما زالت تحتفظ بشبابها وتألقها حين رآها أول مرة، حتى اتضح أنها ابنتها ليلى، مشيرًا في نتيجة ذلك إلى الإحباط والانكسار، ورغم أن الأحداث تحمل حالة من اليأس والاستسلام فإنها قد تستنطق مشاعر مكبوتة تتوالد لدى الإنسان كلما أدرك أنه لم يعد في صدارة المشهد، وأنه بات يفقد عنفوانه وشبابه.