المنهج الثقافي ونظرية الكشف وعلاقتهما بحركة الحداثة

المنهج الثقافي ونظرية الكشف وعلاقتهما بحركة الحداثة

عرفت الحياة الثقافية العامة في أوربا خلال القرن العشرين ثورتين متزامنتين: الثورة النقدية الأدبية التي قام بها الشكليون الروس، والثورة اللغوية التي تجلت في محاضرات العالم السويسري «فرديناند دي سوسير». وما يميز هاتين الثورتين طابعهما العلمي المرتبط بتمركز الثقافة الغربية يومذاك حول العقل، تلك الثقافة التي أنتجت ما عرف بالحداثة على صعيد الحياة العامة، وبالحداثة الأدبية على صعيد الأدب.

 

الحداثة في صيغتها الغربية أو العربية، ممثلة في حركات التجديد عبر الزمن شعارها هو الثورة والتمرد على السائد والمألوف، والآلية التي تئد الإبداع، وتعود المتلقي على ذائقة فنية واحدة، رتيبة، ومتوارثة. إنها ثورة تتصف بتدميرها للأشكال الثابتة التي تحول دون تطور الفن والمشاعر والأفكار والعمل والعادات والسلوك، وبالتالي فهي تسمح بذلك التبرم المبدئي إزاء ما هو موجود، ولا تسلم أبدًا بقدسية أي شيء أو نهائيته، إنها ثورة تبتغي الحركة التي لا نهاية لها ولا قرار، تبتغي التجديد والتجاوز، لا لأي سبب سوى لتطوير الأدب والمضي به قدمًا، ليساير الحياة في تطورها عن طريق التساؤل، والمغامرة، والتجريب والكشف والخروج عن التقليد والنمطية. إنها كما عبر عنها الشاعر الفرنسي المعاصر رينيه شار: «الكشف عن عالم يظل أبدًا في حاجة إلى الكشف».
والحداثة حركة تنويرية عقلانية تؤمن بسيادة مرجعية العقل العلمي، وليس العقل بالمطلق. العقل منذ أرسطو كان حاضرًا، وكانت له سلطته، أما سلطته في مرحلة الحداثة الغربية فهي قائمة على التصاقه بكلمة العلمية، أو العلمي، العقل العلمي الذي تجد فيه السلطة المخولة لتمييز الصواب من الخطأ، العقل العلمي الذي يقدم لنا حقائق علمية يقينية وليس وجهة نظر، حقائق ملموسة بالإصبع، أو مرئية بالعين، أو بأي حاسة من الحواس، وهذا ما يميز مرحلة الحداثة عما قبلها.
ومع حركة الحداثة حقق الحقل المعرفي الخاص بالمنهج العلمي في تلك المرحلة اختراقًا قويًا للحقول المعرفية الأخرى وساد عليها، وساهم في أن تصبح الدراسات في الغرب دراسات علمية، فقد كانت هناك دراسات تاريخية قبل مرحلة الحداثة ومع مرحلة الحداثة أصبحنا مع علم التاريخ، يعني أن العقل العلمي هو الذي يقول رأيه الأول والأخير في مسألة التاريخ. وتحولت الدراسات الاجتماعية التي بدأت مع ابن خلدون إلى علم الاجتماع، والدراسات النفسية إلى علم النفس، والدراسات اللغوية إلى علم اللغة، والدراسات الأدبية إلى علم الأدب، أي أن كلمة علم هي المسألة المحورية بأي كلام يطلق في مرحلة الحداثة. وهذا التحول استطاع أن يخترق الفلسفة، فالفلسفة التي هي مستقلة كل الاستقلال باتت مع مرحلة الحداثة علمًا، والماركسية تعتز بأنها فلسفة علمية، يعني أن السيادة باتت لما هو علمي في مرحلة الحداثة. 
وقد حكمت مسـيرة الدراسات الأدبية في الغرب خلال مرحلة الحداثة نظريتان هما: نظرية الانعكاس، ونظرية الانكسار، ويجب التنويه بأن مصطلحي الانعكاس والانكسار كليهما قد جيء بهما من الفيزياء. وفي ذلك تأكيد للهم العلمي الذي حكم مرحلة الحداثة.
أولًا: نظرية الانعكاس
 هذه النظرية جاءت بها الماركسية الساعية نحو الانفتاح في علاقتها الجدلية بالواقع الاجتماعي والثقافي والإبداعي، والتي وجدت أن الخلاص من جمود وفهم الواقعية الاشتراكية يكمن في هذه النظرية التي رأت أن العمل الأدبي، كما كانت تسميه، هو انعكاس للعالم المرجعي كما يراه عامة الناس، بتفاوت مستوياتهم الثقافية والفكرية، وهو ليس وليد عوامل فردية، وإنما وليد عوامل اجتماعية، كما أنه صورة لهذه العوامل على نحو أو آخر.
وكان «جيورجي لوكاتش»، فيلسوف الواقعية في النصف الأول من القرن العشرين من الذين تبنوا نظرية الانعكاس في صياغتها الأكثر اكتمالًا، من حيث محاكاة الأدب، أو تصويره العالم الخارجي، أو الواقع الاجتماعي، على نحو حرفي، بحيث يمكن التضحية فيه بالقيمة الجمالية من أجل قيمة المحاكاة التي تم تشبيهها بالمرآة؛ ما يعني أن الأدب مرآة تعكس الواقع الاجتماعي، والأدب ابن بيئته. وبقدر صفاء المرآة العاكسة، وأمانتها المطلقة في نقل دقة الصور التي ترى على صفحتها، يتحدد معيار القيمة في الحكم على الأعمال الأدبية والإبداعية من حيث علاقتها بالواقع الذي تعكسه، أو تحاكيه، أو تقوم بتصويره ونقله كما هو عليه.
وهذه النظرية فيها قصور، لأنه إذا كان العمل الأدبي مرآةً للواقع، فهذا يعني أنه يعكس بعدًا واحدًا من أبعاد العالم المرجعي، كما تتساوى نظرة الأديب إلى الواقع مع نظرة العامة، فتغيب رؤيته الخاصة التي تشكل بصمته وفرادته، فما يمكن أن ما تراه عين الكاتب من هذا الجانب أو ذاك من جوانب العالم ذو خصوصية لا تتكرر عند أي راءٍ آخر. فالعالم غير أحادي، هو متعدد يتكشف عن بعد جديد مع كل رؤية جديدة. وبغياب الرؤية الخاصة يرتكز العمل الأدبي فيها على عاملين فقط هما: العالم المرجعي، واللغة التي هي مادة الأدب.
ثانيًا: نظرية الانكسار
جاءت حركة الشكليين الروس المعروفة بحركة الأوبوياز، والتي كانت الأساس في إنتاج البنيوية لترفض نظرية الانعكاس وتستبدل بها نظرية الانكسار. هذه الحركة التي سعت بفعل انتمائها إلى الحداثة المؤسسة على العلمية تأسيسًا راسخًا وعنيدًا، إلى تخليص الأدب من جميع الاختراقات التي قامت بها الحقول المعرفية الأخرى، بحجة أن فهمها الأدب كان مجرد إسقاطات لا علاقة لها بطبيعته، وهي إلى ذلك مجافية للفهم العلمي إلى حد كبير. وتوصلت في آخر ما توصلت إليه، إلى فكرة «أدبية الأدب» عبر توجهها نحو إيجاد علم للنقد متوازٍ مع سائر العلوم: (النفس، الاجتماع، اللغة، الفلسفة...)، ومستقل عنها. فصارت الأدبية تعني النظر إلى الأدب بوصفه حقلًا مستقلًا قائمًا بذاته ذا خصوصية هي المنطلق لاكتشاف علم الأدب بمعزل عن اختراق الحقول المعرفية له، وادعائها السلطة عليه. وقد رأت هذه النظرية أن العالم المرجعي حين يدخل النص الأدبي، كما كانت تسميه هذه النظرية، يخضع للانكسـار.
فإذا نظرنا إلى وجهنا من خلال سماكة الماء، ندرك أن هذا هو وجهنا لكنه معدل، وحركة الأوبوياز التي قالت بنظرية الانكسار قالت إن العالم المرجعي أو الواقع زمنًا كان أم مكانًا، أم إنسانًا، أم حدثًا، ينتقل بملامحه الأساسية إلى الأدب لكنها معدلة. إذًا نظرية الانكسار قالت بالتعديل فقط. العالم المرجعي موجود في النص معدلًا، لأن هذا التعديل قائم على تقنيات يمكن أن يجيدها من يتمرس بها.
وفي هذه النظرية قصور أيضًا، فهي تغيب الرؤية الخاصة بالأديب، فيرى الواقع كما يراه غيره ويقدمه ببعد واحد.
لقد حكمت نظرية الانكسار مسيرة الدراسات الأدبية في الغرب، مرافقة مسيرة الحداثة بعقلها العلمي، وأطل الغرب على مرحلة ثقافية جديدة عبر المدرسة الدريدية، على مرحلة ما بعد الحداثة التي رأت أن العقل ليس مرجعًا صالحًا لتمييز الخطأ من الصواب، وأن الحقيقة وجهة نظر. ولا تعني هذه الإطلالة سيادة التفكيكية على الحياة الثقافية الغربية. ظلت الحداثة، بعقلها العلمي، تقاسمها الساحة بقوة، وإن استفردت ما بعد الحداثة بالحياة السياسية الغربية في علاقتها بالآخر الشرقي. وإذا جاز لمن لديه وجهة نظر مخالفة للتفـكيكية، أن يرفض ما جاءت به، فله أن يتجاوز نظرية الانكسار الحداثية التي أدخلت النقد الأدبي دائرة التقنيات حين ألغت المســـافة بين المنهج والتقنية بسـبب الإيمان العميق بالعلمية المجردة. حدت بهم العلمية لكي يفهموا الأدبية اشتغالًا داخل دائرة الأسلوبية. والأسلوبية تقنيات إذا تم تناولها بشــكل مستقل عن الثقافة. فهل يعني ذلك أن ما جاءت به حركة الأبوياز، وصولا إلى البنيوية، كان تراجعًا في مسيرة الدراسات الأدبية؛ لأن منطلق أي منهج نقدي هو فهم محدد للأدب؟
للعقل العلمي كما للعقل الفلسفي، أو غيرهما، أن يفهم الأدب بناء على منطلقاته وأساسياته، وأن يبنى على هذا الفهم المنهج الملائم؛ لكن هذه المسلمة لا تسمح بأن تكون البنيوية نهاية المناهج، بسبب علميتها، وإن كانت قادرة على أن تظـل حاضرة في الحياة النقدية عامة، وفي حياة أي منهج على وجه الخصوص، فاللغــة هي مادة الأدب التي تعطيه كيانه. ولا يمكن لغير العقل العلمي أن يفهم نظامـها وكيفية اشتغاله. وهذا الفهم ضروري لا يمكن للأدب والأدبية أن يشتغلا مستقلين عنه، وهذا ما يعطي الأسلوبية ومن ورائها البنيوية حضورهما المستمر في أي عمل نقدي مؤسس على أي منهج منتم إلى الحداثة، ولا يعطي هذا الحضور كـلًا منهما حق الادعاء أنهما نهاية المناهج، ولا يحررهما من بعدهمــا التقـني إلا باللجوء إلى المنهج الثقافي المستند إلى رؤية المبدع، فقوام المنهج الثقافي ثلاثية متكاملة متضامنة، لا توجد أية زاوية من زواياها من دون الزاويتين الأخريين. وهذه الثلاثية هي: الرؤية، والعالم المرجعي، واللغة.
أ‌- الرؤية:
لكل منا رؤيته الخاصة به، هذه الرؤية قائمة على مجموعة من المقومات، فهي مرتبطة بالثقافة والقناعات والهموم، والاهتمامات، ويتدخل الانفعال لتكوين هذه المكونات الأربعة، لكن السلطة في هذه المكونات التي تقوم عليها الرؤية هي للثقافة، ومن هنا جاء المنهج الثقافي، يعني أن القناعات لا تمتلك حرية نفسها، الثقافة هي التي تحدد مسارها وتمسك بتلابيبها، وأيضًا الهموم والاهتمامات، يعني أن الثقافة هي السلطة التي تقوم عليها رؤيتنا الى العالم. هذه الرؤية هي العين الناظرة الكاشفة، هي البصمة التي تجعل مما يكتبه الشاعر شعرًا خاصًا به، ومما يكتبه الأديب أدبًا خاصًا به، هي سر فرادته، وبقدر ما تكون هذه الرؤية قائمة على خصوصية لا تشبهها أي خصوصية أخرى، تكون شعريته أو أدبيته فريدة. والفرادة لا تكون فرادة حقيقية إلا إذا تملك الشاعر أو الأديب ثقافة عصره وواجهها بأسئلة تحرجها وتقلقها، لأن الحراجة سر الأدبية وسر النقدية الأدبية، وألم بخصوصية المبدع الثقافية ما يسهل عليه الدخول إلى أدبية المبدع، ويمكنه من إنتاج نص نقدي، وخصوصية تثير متعة المتلقي فالرؤية شبيهة ببصمة الإبهام وفرادته، ولكل رؤية قدرتها الخاصة في سبر عمق خاص بها داخل العالم المرجعي، وما تراه من أحد جوانب العالم هو تجل فريد ومختلف عما لا يعد ولا يحصى من إمكانات تجليه عبر رؤى غير متناهية العدد، وهذا التجلي هو مكمن العملية الإبداعية، أو ما يسمى بالجمالية الأدبية المثيرة للمتعة، على اعتبار أن الأديب مثقف كبير، وما يراه متصل بالحقائق الإنسانية الكبرى، مدهش، يشرِك القارئ في عملية الكشف. ولأن الرؤية كشفية، فالنظرية البديلة لنظريتي الانعكاس والانكسار هي نظرية الكشف.
ب‌- العالم المرجعي:
 نقصد بالعالم المرجعي الزمان بتاريخه، والمكان بامتداده، والإنسان بكل قضاياه، والأحداث بكل مضامينها. والعالم المرجعي، في أي جانب من جوانبه المتعدد الأعماق بما لا يمكن عده أو إحصاؤه ، هو المادة التي وجدت الرؤية لتعاينها وتكشف أعماقها.
ج- اللغة:
اللغة آلة الكشف التي لا قيمة لكل من الرؤية والعالم المرجعي من دونها، ذلك أن إنسانية الإنسان لا تكون إلا باللغة. والمكتشف بوساطة اللغة هو بصمة لا تعادلها بصمة أخرى، هو الطريق المثير لمتعة المتلقي، هو الجمالية التي تشكل مرجعية تصل رؤية أي ناقد من النقاد يعاينها إلى عمق من أعماقها تعطي النقد الأدبي طرافته وجماليته.
أخيرًا ، يمكننا القول إن تتبع رحلة النقد الأدبي المنتمي إلى الحداثة، حداثة العقل العلمي، قدمت لنا تراثًا مهمًا يمكن الاستناد إليه من منهج البنيوية إلى الأسلوبية إلى السيمائية وصولًا إلى المنهج الثقافي وما تميز به عنها بمقولة «الكشف» التي تجاوزت مقولتي «الانعكاس»، و«الانكسار» ■