الفنّان التشكيلي د. صالح أبو شندي: دور الفنان الحقيقي تخليص التراث من شوائب التجديد العشوائي

الفنّان التشكيلي د. صالح أبو شندي:  دور الفنان الحقيقي تخليص التراث  من شوائب التجديد العشوائي

عبر خمسة عقود، استطاع صالح أبو شندي، في مغامرته الإبداعية، تسجيل مسيرة فنية مؤثرة ولافتة وغنيّة، أثرى بها الحركة التشكيلية المحلية والعربية، على امتداد آسيو-أفريقي بدءًا من موطنيه: الأردن وفلسطين، مرورًا بليبيا وانتهاءً بالهند، والتي استمدَّ منها علومه الجامعية والرُّوحُ الفلكلوريّة.
د. أبو شندي هو عرّاف الخطّ والكتلة، إذ راحَ يرسُمها ويوزّعها بأداءٍ موسيقي يناغي أعماق المتذوق، فَينطقُ العملَ نيابةً عن المتلقي، وقد عمد إلى التجريد فشكل من الأسلاك... ثم الألوان أعمالًا تشهد بحنكته وحكمته، ثم تحوّلَ إلى رسمِ الأماكنِ، مُستلهمًا جمالياتها، ومُحرّرًا إيّاها عن التشوّهات، فرسمها كما يجب أن تكون للمشاهد المهتم في أروع صورها، وكذلك برعَ في رسم البورتريه، مشكلًا بهذه الخطوط والألوان بصمةً مميزة شكلت إرثًا للمشهدَين المحلي والعربي.

 

لقد شغلَ الفنان أبو شندي جانبًا مهمًا من المشهد التشكيلي، رسمًا وتدريسًا، تذوقًا واختيارًا، إذ تخرّج من تحت يديه عشراتُ الفنانين والدارسين، مشكلًا بذلك رافدًا تشكيليًا استطاع ترسيخ المشهد الفني العربي وجلاءه بوضوح وتميّز، ففي محاورته أخيرًا كشفَ عن رؤية مفهوم العالم العربي للفن الحديث، في مغايرةٍ تستدعي التوقفَ والاحترام، ومن هنا كان لا بد من لقاء معه يُنصفه ويبدد عنه تواضعه الذي يفرضه على قامة جاوزت الثمانين، مشكلة رافدًا من روافد التأسيس للحركة التشكيلية العربية على امتداد ساحتها منذ عقود.
● عرفت بـ «فنان المكان والقناع البورتريه»، لماذا برأيك؟
- المكان عندي كائن حيّ يكلّمني وأكلّمه، يبثّني أسرَارهُ، فأَبثّهُ حبّي وتقديري بحميمية تُفعّله، فتزيلُ عنه ما طرأ عليه من امتداد يد التدجين والطمس بجماليته المرجوة وشموخه العمراني الذي ينبغي له أمام غيره.
إن موروثنا المعماري المحلي الأردني خاصة والعربي عامّة يحمل بصمات هويتنا الثقافية المنصرة من عقيدتنا السمحة، وجماليتنا الطاغية المتجلية في عيوننا والنابعة من صميم قلوبنا، فهنيئًا لنا بهذه المشهدية!
إن حبيّ للمكان ينطق بمدى إحساسي بمعايشته عبر عقود العمر المتتالية منذ أن وعيت ودرجت على تربه فتفيأت ظلاله، وشربت من مائه وأكلت من عيشه وتعلمت في أحضانه، أفلا يكون منيّ أن أجعل المكان وشمًا على ذاكرتي وأفقًا لبصري وبصيرتي؟!
ولعل هذه العيّنةُ من عشرات الرسومات لمدنِ أردننا الحبيب هي التي تترجم ما أشرتُ إليه هنا... وهي بالتالي ما يتذاوت متماهيًا مع روحي المستقرّة على ثرى هذا الوطن الشامخ وفي ذراه وعليائه!
إن رسوماتي للمدن الأردنية أهازيج فرحٍ تنساب من روحٍ مُحّبةٍ منتميةٍ تسوحُ بالمجان بلا جواز سفر أو مرور... وتفوح أنفاسًا معطرة بلا حدود!
المكان عندي كائن حيّ يكلمني مستنجدًا أن أرفع عنه يدَ التخريب العمرانية الحديثة، التي تؤمن بهدمِ التراث، ولا تتعاطفُ مع روح المكان وقدسية التاريخ الإنساني لمن سكنوا هذا المكان وأحيوا فيه تراث الأجداد الذي يجب أن يحافظ عليه الأحفاد، ومن هنا نرى أن دور الفنان الحقيقي هو تخليص المشهد التراثي من شوائب التجديد العشوائي الذي هدفه مع الأسف ماديّ بحت، ولا يعترف بتراث الأمجاد الأوائل أصلًا.
ولعل في قول مهندس الفقراء (حسن فتحي) ما يدعم ما ذهبت إليه هنا (الحضارة الحديثة غير الواعية لأهمية التراث، تشوّه المكانَ ولا تعترف بقدسية العادات والتقاليد التي آمنَ بها الأجداد).
● في معرضك الأخير 2018 قدمت خلاصة تجربتك الفنية في معالجة جوهر الموضوع الإبداعي التشكيلي... ترى أين وصلت بتجربتك مع التجريد؟ وما الذي أردته من ورائه؟
-  اشتمل معرضي المذكور (تعبيرات تجريدية) على زهاء 74 لوحة فنية متنوعة بين تجريدي - تعبيري ورسومات تعود إلى الزمن الماضي، وتشير إلى الحياة التي عاشها الناس آنذاك، قبل وصول التكنولوجيا إلى حياتنا، وكان الفن والعمارة أكثر إنسانية وأصالة، وقد قدمت في هذا المعرض خلاصة تجربتي الفنية في معالجة جوهر الموضوع الإبداعي والتشكيلي، حيث وصلت إلى شبه التجريد ثم التجريد المطلق حتى أصبحت اللوحة عندي كائنًا حسيًا يتكلم نيابةً عن المتلقي، فالفنّ يعبّرُ عن نفسه دون تدخل من الفنان! والتجريد بحد ذاته سلم الوصول للموضوع!
● الفن التشكيلي... ما فارقُ النظرة إليه بيننا وبين الغرب؟
- نحن المشارقة ننظر إلى الإنسان والمكان نظرة القداسة... فكلاهما عندنا كائن حيُّ له احترامه وتقديره بحسب وظيفته المنوط بها.
فالفنُّ الحديثُ روّجَ له الغربُ وبخاصّة الدول الأوربية، من خلال المدارس الفنية الحديثة أوائل القرن العشرين، وكان قبل ذلك دعاية كبرى للمدارس الفنية التي روّجت لها الصحافة والإعلام في العالمين العربي والغربي كالتأثيرية والتعبيرية والتجريدية والتكعيبية.
إن جذورَ الفنّ في عالمنا العربي والإسلامي يجب ألا تتأثر بالنظرة الغربية للفن، فالفن الغربي يعتمد على قوانين صارمة، واكتشافات فيزيائية، وسباقات صحفية وأمور ترويجية، في حين نجد أن فنوننا العربية الأصيلة لها تاريخ عريق، وهي تقوم على فلسفة روحانية تتماشى مع المعتقدات الشرقية ذات الخيال الواسع والقصص المغرقة في الغرابة، وهنا يكون دور الإنسان في اللوحة العربية كجزء من كل، فالبيئة الإنسانية هي المعتبرة كما يبرز ذلك في رسومات الواسطي وبهزاد، والتراث الفني للعصور الوسطى كفن المنمنمات في البلاد الإسلامية وبلاد فارس والعراق ومصر الفرعونية، في حين امتدت جذور الفن الغربي إلى عصور الإغريق والرومان وإلى قوانين بولكليتو وفيداس والنحت المصري والإغريقي والروماني وصولًا إلى عصر النهضة واكتشاف المنظور الهندسي، كما تجلّى فنّ العمارة عندهم لدى أنجلو وفن الباروك ما بين القرنين الـ 17 و الـ  18م.
● أين يقف الفنان التشكيلي الأردني اليوم، عربيًا وإقليميًا؟
- الفنان التشكيلي الأردني قطعَ شوطًا بعيدًا مما جعله ذات تميز واحترام مُقدّر بين زملائه؛ فقد أقام عشرات بل مئات المعارض الآنية والمستدامة لأعماله الفنية المختلفة، وعقد الدورات والورش، وجاب أنحاء الدول عابرًا بفنّه يرفد المشهد الفني كأنه نهر... والمتابع المهتم لا تخفى عليه الأسماء اللامعة لهذه الكوكبة الجديرة بالتقدير والاحترام، وإذا كان لا بد من أسماء هنا فلا بأس، أمثال الفنانين: مهنا الدرة، عزيز عمّورة، هاني حوراني، سعد حدادين، محمد صُبح ياسر دويك - فاروق لمبز - رفيق اللحام - نصر عبدالعزيز... غازي إنعيّم، مع الاعتذار لغيرهم هنا.
● كيف ترى العلاقة بين الفنان العربي واللون؟
- الفنان العربي يعشق الألوان؛ فهو يعشق اللون الأخضر، ويمجّد اللونَ الأزرق بدرجاته ولا ينسى أن يُحيطَ أعماله باللون الذهبي أو الفضي، ثم هو يعجب باللون الأصفر وهو عنده لون الفرح والتفاؤل، كذلك يعطي الفنان أهمية للون الأحمر ويعتبره مضادًا للأخضر وهما يغنيان عن بعضهما إذا تجاورا.
لسنا هنا بصدد البحث في بقية الألوان المحايدة كالرمادي والأرجواني والسماوي واللازوردي والمرجاني واللؤلؤي... إلخ، القائمة من الألوان التي عشقها فناننا العربي وضمنها لوحاته.
فلوحاتُ الفنّانُ العربي ثرّيةً بأَلَوانها وروحانيّاتها ومعانيها ومبانيها الرائعة التي يحسدهُ عليها الفنانُ الغربي، ولا مجالَ هنا للإطالةِ بفضلِ الفنّ العربي على غيره، فالمشهد يطول.
● كيف ينظر الفنان أبو شندي إلى المدارس الفنية؟
- الفنُّ بحرٌ هادرٌ... لا تقيدهُ قيودٌ أو سدود ولا تَحدّهُ حدود، فهو ثورةٌ مضطربة أمواجُها متدافعة متمرّدة على امتداد مساحات الأفق المنظور... إن الفنّ باحث برسم التسجيل على مدار الوقت... في سباق ماراثوني محموم.
في الحقيقة أنا لا ألقي بالًا للمدارس الفنية والمذاهب... وأعتبرها من اختراع الصحفيين الذين كانوا نقادًا... وهؤلاء يعتمدون على قوانين صارمة، واكتشافات فيزيائية، وسباقات صحفية وأمور ترويحية... في حين نجد فنوننا ذات أصالة وعراقة مبنية على فلسفة روحانية تتماشى مع معتقداتنا وموروثنا الديني والثقافي ذي الخيال الواسع المجنّح ■