في سبيل كشف قناع المعنى الخفيّ

في سبيل كشف  قناع المعنى الخفيّ

«كشف قناع المعنى الخفيِّ» دالٌّ على عمليَّتي إنتاج النص الأدبي، وهما: عملية إبداعه وعملية فهمه، فكلٌّ منهما تحقِّق كشفًا للقناع عن المعنى الخفيّ، فأولاهما تكشف القناع عن وجه العالم الذي يحيا فيه الأديب، وثانيتهما تكشف القناع عن وجه المعنى الخفيّ الثاوي في النص.
وإن تكن تجربة الأديب الحياتية الأدبية هي التي تملي كشفه / نصَّه، فإنَّ «الفهم» هو الذي يحقِّق كشف المتلقي للمعنى الخفيّ في النص. وهذا ما يقوله أبو تمام:  
لم تُسقَ بعد الهوى ماءً على ظمأ 
 كماء قافيةٍ يسقيكها فَهِمُ
 و«الفهم» المعنيُّ، هنا، يعادل الهوى.  في ضوء هذا الفهم، نحاول أن نتعرف إلى الكشفين اللذين يحققان إضاءة العالم والنص وتحلية العيش.

 

تتمثل الظاهرة الأدبية في عمليتي إنتاج، تتمُّ أولاهما لدى إجراء عملية الإبداع، ويتولَّاها الأديب، فيُنتج النص الأدبي وليد تجربته الحياتية الأدبية ويرسله للمتلقي بناء لغويًا يتصف بخصائص لغوية تحدِّد نوعه، وتفصح عن رؤية إلى العالم، وتتمُّ ثانيتهما لدى إجراء عملية التلقي، ويتولَّاها المتلقي الذي يكشف، استنادًا إلى منظومة ترميز وقيم جمالية، ومعطيات اجتماعية ثقافية، تلك الرؤية، من طريق استنطاق خصائص النص النوعية. وإذ ينتهي دور الأديب، بعد إرسال النص، فإنَّ دور المتلقي دائم لا ينتهي في حال كان النص يتيح ذلك، وهذا ما نقرأه في قول دعبل الخزاعي:
يموت رديء الشعر من قبل أهله
    وجيُّده يبقى، وإن مات قائله
 وفي قول أبي تمام:
ويزيدها مرُّ الليالي جدَّةً 
    وتقادم الأيام حسن شباب

المعنى الخفيّ
المعنى الخفيّ الثاوي في النص الأدبي ليس معنى جاهزًا مسبقًا لدى الأديب، وإنما هو كما قال الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة رضي الله عنه: «شيءٌ تجيش به صدورنا، فتنطق به ألسنتنا»، وفي هذه الحال من النطق، يقول الشاعر، على لسان أوس بن حجر:  «أقول ما صبَّت عليَّ غمامتي». وقديمًا نُسب هذا «الصبُّ» إلى شياطين الشعر، أو إلى سحائب تعقبها سحائب، كما قال أبو تمام
ولكنه صوب العقول، إذا انجلت 
    سحائب منه أُعقبت بسحائب
وهو ليس معنًى ظاهرًا مباشرًا يحصِّله المتلقي من النص بسهولة، وإنما هو معنى خفيّ، دقيق يحتاج إلى «فهم جليل» لكشفه، وهذا ما يقوله أبو تمام:
فصرت أذلَّ من معنى دقيق 
    به فقر إلى فهم جليل
فهذا المعنى الدقيق يصير ذليلًا إن لم يؤتَ فهمًا جليلًا، وكشفه هو «البيان» الذي عرَّفه الجاحظ بأنه «كشف القناع عن المعنى الخفيّ»، من طريق «هتك الحجب دون الضمير» (البيان والتبيين، 54/1) .

سَهران لافتراع المعنى الخفيّ
يقول أبو تمام:
والشعر فرجٌ ليست خصيصته
    طولَ الليالي إلا لمفترعه
ويقول ذو الرمَّة لكاتب شعره: «اكتب شعري، فالكتابة أعجب إليَّ من الحفظ، لأنَّ الأعرابي ينسى كلمة قد تعب صاحبها في طلبها ليلهُ، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم يُنشدها الناس...» (الجاحظ، الحيوان، 35/1). سهرَان طوال الليالي في سبيل إبداع النص الأدبي، وفي سبيل فهمه. يسمِّي أبو تمام هذا الفهم «افتراعًا»، فكأنه الوصال، من حيث الخلق البكر ولذاذته.  ويكون حال المتلقي والنص، كما قال المتنبي عن القصيدة: «كأنها، والسمع معقودٌ بها/ وجه الحبيب بدا لعين محبِّه». 
وإذ يحدث الافتراع / الوصال، تحدث هزَّته الشعرية، والشعر الذي لا يُحدث هذه الهزة ليس شعرًا. وفي عيش هذه التجربة الجمالية يقطف المتلقي «القول لمَّا أضاء ونوَّرا»، فكيف يتم القطاف؟ 
الفهم والتفسير والتأويل 
يتم القطاف بالفهم، فما هو الفهم؟ يعتمد المتلقي طريقتين في الوصول إلى الفهم، أولاهما التفسير، وثانيتهما التأويل. التفسير من «الفسر»، وهو الإبانة. يرى ابن الأعرابي أنَّ التفسير هو «كشف المراد عن اللفظ المشكل».
ما يتعلق بالنص يعني التفسير معرفة معناه من طريق الإفادة من الأدلَّة اللغوية والتاريخية...  لكن ماذا يفعل المتلقي عندما يرى أنَّ المعنى الظاهر الذي تقدِّمه الأدلَّة اللغوية والتاريخية غير كافٍ، وأنَّه يوجد معنى خفي هو الذي ينطق به اللفظ والنص، ما يقتضي عبورًا من المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي، وهذا العبور يحققه التأويل، فما هو التأويل؟

العبور إلى المعنى الخفي / المجاز 
طبيعي أننا لن نفصِّل في بحث التأويل، بل سنقدِّم ما يقتضيه المقام في مقالة قصيرة، وقبل ذلك نتعرف إلى ما سميناه العبور من المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي، أو ما تسمِّيه البلاغة المجاز. يقول عبدالقاهر الجرجاني
(ت. 471 هجري): «المجاز مَفعل من جاز الشيء يجوزه، إذا تعدَّاه، وإذا عدل باللفظ عما يوحيه أصل اللغة ...»، وما يوحيه أصل اللغة هو المعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي يوصل إليه بغير واسطة، وما يُتَعدَّى، ويعدل إليه، هو المعنى الخفي، أو معنى المعنى، وهو «أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر». (أسرار البلاغة،  102 و118 و365).
والتأويل لغة تفعيل من «الأَوْل»، وهو الرجوع إلى الأصل، ما يعني أنَّ التأويل اللغوي هو كشف الغاية التي يؤول إليها الكلام، ولا يتم هذا إلا بعد المرور بالتفسير، فالتأويل ينطلق من النص، ومن تفسيره، ويتجاوزه.
في اللغات الأوربية يُستخدم مصطلح Hermèneutique هيرمينوطيقا، ويعني: علم التأويل، أو التأويلية، وهو مأخوذ من الكلمة الإغريقية Hèrmè التي تعني القول والتفسير والتأويل، ومن اسم هيرمس Hermès الذي أعان البشر على فهم المعنى وتوصيله، وقد استعاره الفكر المسيحي، ووظفه في حقله الديني، ولم يلبث أن نُقل من الاستخدام الديني، ليكون إجراءً عمليًا في فهم النصوص، خصوصًا النص الأدبي. 
وعلى مستوى تعريف التأويل، اصطلاحًا، نلتقي تعريفات كثيرة، نكتفي بذكر ما يفي منها بالحاجة. 
يفيد قولٌ للشريف المرتضى بأنَّ التأويل هو «حمل الكلام على بعض ما يحتمله من وجوه المعاني، إذا كان له شاهد من اللغة وكلام العرب» (غرر الفوائد ودرر القلائد...، 326/1). ويرى شلاير ماخر أنه «فنُّ الفهم»، فكيف يتحقَّق فنُّ الفهم / التأويل؟ 
يمكن الإجابة عن هذا السؤال بالقول: يتحقَّق التأويل عن طريق إجراء قراءة في بنية النص اللغوية، وفي عمليتي إبداعه وتلقِّيه وتداوله، وبنية سياقيهما، وفي بنية نصوص ذات علاقة بالنص.  وهذا جميعه يشمل قصد المؤلف والنص والقارئ والسياق التاريخي للإنتاج والتداول. 
ولمَّا كان المعنى في الأدب خفيًا، وليس معنى مسبقًا، كما ذكرنا آنفًا، فإن التأويل لا يسعى إلى معرفة قصد المؤلف الذي تنقطع صلته بالنص بعد إرساله. وقد أوَّل بعض النقاد العرب الألفاظ / النص، وتبيَّنوا، كما قالوا، قصد المؤلف، وهو خروج المديح إلى الهجاء في بعض قصائد المتنبي في مدح كافور، على سبيل المثال.  
أما النص، وهو موضوع التأويل، فيتشكل من مكوِّنات هي: الصوت، المعجم، الت ركيب النحوي، التركيب البلاغي والرمزي، الحضور والغياب، الفراغات... هذه المكوِّنات هي علامات تتشكل في نظام هو علامة أيضًا.  والعلامة، من منظور علم العلامات العامة، السيمياء، كائن ذو وجهين :دالٌّ، وهو اللفظ منطوقًا أو مكتوبًا، ومدلول، وهو المعنى الذي ينطق به الدالّ.
 
 السيمياء الاجتماعية - الثقافية  
الإجراء المنهجي الذي يتيح كشف المعنى الخفيّ ذو شقين: يتمثل أولهما في تفسير الدال، بعد وصفه وصفًا دقيقًا، ويتمثل ثانيهما في تأويل هذا الوصف، أي في كشف مدلوله، أو مدلولاته. ينهض بأداء هاتين المهمتين منهج هو السيمياء الاجتماعية - الثقافية، فيصف الدال، ويتبين سر المدلول، من طريق وضع النص في سياقه التاريخي الاجتماعي الثقافي. 

 المتلقِّي / مُؤوِّل النص 
يقتضي هذا أن يكون مؤوِّل النص قارئًا لديه موهبة القراءة الأدبية، والكفايتين: اللغوية والبلاغية، والذوق الأدبي المرهف المدرَّب، والخبرة، إضافة إلى المعرفة الكافية بالسياق التاريخي والجدية والنزاهة، فيقرأ النص من منظوره فيحدس، ويفسر، ويضع النص في سياقه، ويؤوِّل، وقد تأتيه إشراقات، فينتج كشفه الخاص.

المستويات 
في ما يتعلق بالمستوى الصوتي، يمكن أن نقدِّم مثالًا لتأويله، وهو دعوة محمد مفتاح للمقارنة بين البيتين:
-1 لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصان / فلا يُغرَّ - بطيب العيش إنسان»، -2 «لكلِّ شيءٍ - إذا ما تمَّ - نقصٌ / فلا يُغرَّ - بطيب العيش - شخصٌ»، ويرى أنَّ المقاطع الطويلة: لا، ما، إن، في البيت الأول امتداد للصوت يصوِّر اَهات الشاعر المكلومة (سيمياء الشعر القديم، ص. 62).
وعلى المستوى المعجمي، نقدِّم المثال الآتي:  «جاء في الحديث الشريف: «لا تستضيئوا بنار المشركين»، ففهم دلالة النار، في مجتمع صدر الإسلام، يجعل المعنى الظاهر لها غير كافٍ، فالفهم غير الظاهر يفيد بأنها كانت توقد أمام الخيم ليهتدي بها الراحل في الصحراء، ويلجأ إلى أهلها، بوصفه ضيفًا يُكرم، فالنار، وفاقًا لهذا الفهم، دالٌّ يجوز مدلوله الضوء إلى الاهتداء واللجوء والانتماء والموقف... وفي مثال آخر، لا يمكن أن نفهم هجاء الراعي النميري للحطيئة: «هجمنا عليه، وهو يكعم كلبه» إلا إذا عرفنا دلالة «يكعم كلبه»، هنا، في سياق إنتاج النص التاريخي، أي إسكات كلبه كي لا يسمع نباحه الضيوف، فيأتون إلى مضاربه، وهذا ما يمكن قوله عن هجاء الأخطل لجرير:  «قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم / قالوا لأمهم بولي على النار»، فإضافة إلى دلالة البخل نلحظ دلالة إهانة الأم وتحقيرها. 
أما هجاء جرير للفرزدق:  «مجرُّ جعثن كان ليلًا / وأعين كان مقتله كان نهارًا»، فيتصف، على مستوى وصف الدال، بالوزن وبمحسنات لغوية، مجرّ = مقتل، جعثن، أخت الفرزدق - أعين، عم الفرزدق، ليل - نهار، ويحتاج، بغية فهمه، إلى معرفة أهمية العرض والثأر عند العرب اَنذاك، المعنى الخفي في البيت هو أنَّ الفرزدق لا يأبه لانتهاك عرض أخته، ولا لعدم الأخذ بثأر عمه، وهذا قمة الهجاء، وإذا لم يؤوَّل البيت وفاقًا لهذا الفهم فإنه يؤدِّي خبرًا لا أهمية له.
 
عالم يظل في حاجة إلى الكشف 
في الختام، يمكن القول: إن الكشف عن المعنى الخفي في النص الأدبي، هو «فهم الفهم»، كما يقول غادامير، أي هو قراءة تأويلية للنص، وهذه القراءة فيها شيء من الذاتية، وبدهي أنها ليست القراءة النهائية، فكلُّ نصٍّ دالٍّ يستدعي لدى كل قراءة ما يرتبط به. ولمّا كان لكل قراءة سياقها التاريخي، ولكل نص طياته وطبقاته التي لا ينتهي فضُّها، كان للشعر «المعاني التي تُحمل عليه»، من المؤوِّلين الأكفاء القادرين على الكشف، في عالمٍ يظلُّ في حاجةٍ إلى الكشف ■