أمل دنقل ورؤيته الشعرية

أمل دنقل ورؤيته الشعرية

كان لا بدّ من رصد التّحوّلات السياسيّة في العصر الحديث عبر شعر سياسيّ يعبّر عن مرحلة متأزّمة من حياة الأمّة، وكان لصوت الشّاعر أمل دنقل أبلغ الأثر في إيصال ما يعتمل في داخله من هموم تترفّع عن الذاتية لتغدو همومًا جمعيّة تستحضر الماضي، وتستشرف المستقبل، وتنظر بعين الحاضر نظرة المدقّق، والمحلّل، والناقد الحاذق.
وعلى هذا الأساس يصبح الشّعر «استشعارًا وانتظارًا ورؤية ووصولًا». ولكي تقوم لحظة الاستشعار بوظيفتها الشّعريّة الرؤيويّة لابدّ من تقديم المشهد الذي ترصده عين الشّاعر وحركته التأريخيّة لتأسيس رؤية واضحة تستند إلى التجربة الشّعريّة، ويمكّنها من تتبّع حركة التأريخ، والتقاط اللحظات المفصليّة، والانعطافات المصيريّة التي تحدث في ساحتنا العربيّة.

 

وعليه، فإنّ الدّخول إلى نصوص الشّاعر أمل دنقل كان مرتبطًا بالرؤية التي يحملها، وبعمق الثّقافة التي حصل عليها فانعكست في صياغة فنيّة حملت بُعدًا رؤيويًّا أماط اللثام عن شعريّة فذّة، وبيّن التزامه بقضايا أمّة مترنّحة سكرت من طول الهزائم التي مرّت بها. لقد انعكست همومه على مرايا قلبه فأنتج شعرا عصيًّا على النسيان مؤرّخًا لمرحلة مهمة من حياة الأمّة فعبّر بحرقة وانفعال، معريًا كلّ من أسهم في وصولها إلى هذا الدرك من الهوان.
تتكرر لفظة «الخيول» في شعر أمل دنقل، ففي قوله:
كانت الخيل ــ في البدء ــ كالنّاس /بريّةً تتراكضُ عبر السّهول 
كانت الخيل كالنّاس في البدء.../ تمتلك الشّمس والعُشب 
والملكوت الظّليل / كانت الخيل بريّة 
تتنفّس حريّة  / مثلما يتنفّسها النّاس
في ذلك الزّمن الذّهبيّ النّبيل 
يُلاحظ في تكرار كلمة «الخيل» ما يؤدي إلى معانٍ كثيرة، يهدف الشّاعر إلى تبيانها من خلال رمزيّة الخيل، ففي هذا المقطع يتكرر الفعل الماضي النّاقص «كان». للفعل الماضي دلالة زمانية تهدف إلى نقض الحاضر ونقده. فإذا كانت الخيل في الماضي تشبه فرسانها وتتمتّع بالحريّة وتتنفّسها كالإنسان، فهي اليوم لم تعد كذلك. فالخيل في الماضي «كانت كالنّاس» وكانت «بريّة تتراكض عبر السّهول» وهذا يعني أنّ أصحابها وقتئذٍ كانوا ممتلئين بالحركة والسّير إلى غاياتهم. ولعلّ استخدام لفظة «السّهول» يهدف إلى الإشارة إلى سرعة الحركة ويُسر الفعل مع أهميّته على الرغم من  ضخامة غايته. 
وفي قوله «كانت الخيل كالنّاس في البدء تمتلك الشّمس والعشب» إشارة إلى فكرة واحدة إلّا أنّ الصّورة لها أكثر من توجّه، فالخيل تعني أن النّاس كانوا يعبّرون عن غاياتهم بالحريّة وامتلاك أدواتها فاستخدم لفظة تمتلك، واستخدم لإتمام الصّورة «الشّمس»، «العشب» و«الملكوت الظّليل». هذه الصّفات تعني امتلاك فرسان «ذلك الزّمن» وضوحًا في الغايات والأهداف يشبه ضوء الشّمس.
حديث الشّاعر عن الماضي المنتصر للخيول كان حديثًا موجزًا مختصرًا، بينما كان حديثه عن حاضرها الذّليل المُنكسر حديثًا طويلًا وممدودًا.
الخيل في التّاريخ الإنساني هي سلاح وتعبير عن القوّة، ورمز لحياة الشّعوب العزيزة. الشّاعر أمل دنقل من خلال تكراره  للفظة «الخيول» في شعره يريد تأكيد المعنى الذي يجب أن ترمز إليه الخيل التي هي تعبير عن القوّة والكرامة والحرية. وإذا تغيّر الإنسان فإنّ الخيل ستتغيّر أيضًا، لأنّها تابعة، وليست متبوعة، فالإنسان أوّلًا، فإذا فسد الإنسان فسدت أدواته، وخير من عبّر عن هذا المعنى المتنبي حيث قال في قصيدة «كفى بك داء»:
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّةٍ                 
فلا تستعدّنّ الحُسام اليمانيا
ولا تستطيلّنّ الــرّماح لـغايةٍ                   
ولا تستجيدنّ العِتاق المذاكيا
فما ينفعُ الأسْدَ الحياءُ من الطّوى            
ولا تُتّقى حتّى تكون ضواريا
وللمكان في الشعر دلالات تنطلق من الذات الإنسانية، حتى لكأنه جزءٌ منها، وهذا يتجلى أكثر في الذات التي عانت من المكان، وأحبته، أو كرهته. وقتها يكون المكان لصيقًا بها. فكلمة «الجدار» تكررت في شعر أمل دنقل باعتبارها المكان القابل لأكثر من تأويل. ويقسو الجدار حين يكون جدار سجن، أو عازلًا للضوء عن روح تعيش في الظلام، يقول أمل دنقل:
 آهِ... ما أقسى الجدار /  عندما ينهض في وجه الشروق
ربّما ننفق كلّ العمر كي ننقب ثغرهْ / ليمرّ النّور للأجيال مرّةْ 
 إن القسوة والحؤول دون الضوء يجعلانه  مكروهًا أمام جدار قيس بن الملوّح، وما أقسى جدار السجن في شعر أمل دنقل، وما ألصق جدار بيت ليلى بقلب مجنونها، حيث يقول:
مررتُ على الديارِ، ديارِ ليلى     
أقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الديارِ شغفن قلبي       
ولكن حبُّ من سكنَ الديارا 
لجدارِ السّجن، على الرغم من  قسوته، وحجبه الضياء، فائدة تتجلى بمفهوم الشيء الذي يعرف من ضده. فلا يعرف قيمة الضوء إلّا الذي يعيش في الظلام، ويرى ذلك أمل دنقل مستخلصًا من قسوة الجدار ومنعه الضياء نعمة يحسّها بأعماقه، وهي انبلاج الضوء من الظلام. فيقول:
ربما لو لم يكن هذا الجدار
ما عرفنا قيمة الضّوء الطّليق 
إن استعمال كلمة «ربما» هاجسٌ يجعل الجدار دليلًا على أن الضوء آتٍ، ويصبح هو ذلك الحلم الذي لا يبرح النفوس المعذبة، المغمورة بالظلام، «والضد يظهر حسنه الضدُّ».
 وتكاد تكون ظاهرة الشعر الطّللي من  أبرز الظواهر المكانية التي ربطت المكان بروح الإنسان. المكان يبقى امتدادًا للإنسان في كل تجلياته. أمل دنقل يربط بين الجدار والحرية من خلال كلمة «الطليق». فالضوء هو تعبير عن الحرية، ولا يعرف قيمة الضوء إلّا من غاص في  الظلام.
وتتطور، بتداخل مُغْرٍ في شعر أمل دنقل، استعمالات الأمكنة لتفسر لنا ما يختلج في وجدانه من مشاعر ورؤى وأفكار، وهنا لا بد من الإشارة إلى القدرة التصويرية التي تبدو من خلال المكان، فالمكان جغرافية، والجغرافية مادة مرئية، وهذا يعني أن الصورة المادية للمكان تساعد الحواسَّ الأخرى على خلق التأثير ونقله من الفكري والشعوري إلى المرئي، وربما ترى أحيانًا صورةَ مادةٍ يبقى تأثيرها نافذًا فيك إلى ما هو أبعد بكثير من تأثير الكلام وما ينتج عنه. وليست الأطلال في القصيدة الجاهلية سوى انتقال جغرافية الخارج إلى جغرافية الداخل لخلق الأثر المرتجى من العملية الشعرية بكاملها، وبهذا يتكامل اندماج أثر كلمة «رأى» بأثر كلمة «أعرف». والشّاعر أمل دنقل من الشعراء الذين يدخلون الحياة في المكان، حتى يصبح فعل «أرى» وفعل «أعرف» أخوين. 
كما تتنوع دلالات الزمان في الشعر كافّة بتنوع الأزمنة الداخلية في ذات الشّاعر/الإنسان، فقد يصبح الزمان عمرًا يملأ المكان، ويصبغه بأصباغ الوجدان المتحول بتحول المكان والزمان والذات في آن. فالثائر الذي يعبر عن المعنى الحقيقي لإرادة التغيير باتجاه الأعلى، والذي هو غاية إنسانية لأنه الهدف الكاشف حركة الزمن ضد جموده، هو نفسه يتحول جثة معلقة بحبل المشنقة في أزمنة الذين يريدون تثبيت حركة الزمان، وشده إلى الأدنى، يقول أمل دنقل:
 فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوقْ
فسوف تنتهون مثله... غدًا 
 هنا يتجلى مفهومان متناقضان لحركة الزمان، وهما ملتبسان ومتداخلان بالمكان أيضًا، فالمشنقة مكان، وهي تكشف لنا مآل الثورة حين يهيمن زمن الردة على الأشياء كلها. لكن صورة الثائر يجب أن تبقى هي الأعلى، لأنها غاية حركة الحياة التي ينشدها الإنسان ذو الغايات المثلى، والتي تتلخص في نقل الزمان والمكان من الأدنى إلى الأعلى. واستعمال «سوف» ذات معنى تحذيري صعب ومُر، إنها تحذير من انتكاسة الثورة التي ستكون وقتئذ مقودة إلى المشنقة وكأنه يقول لهم: إن لم تؤازروا الثائر المشنوق فأنتم مشنوقون مثله غدًا.
لكن الزمان والمكان في شعر أمل دنقل لا يستسلمان على الرغم من كل فواجع الهزيمة، ويعلن الشاعر أنه «لا وقت للبكاء»، وهذا يعني أنه لا بد من العودة إلى الأرض التي هي أمّنا، التي علمتنا النهوض للعودة ثانية إلى الحياة. إن مهمة هذه الأرض أن تنجب المقاتلين للعودة إلى الحلبة لقتل الهزيمة فينا قبل كل شيء، وتتدفق مرة أخرى لغة ملأى بأمل الولادة من رحم الشهادة، يقول أمل دنقل مخاطبًا أمه الأرض في صورة امرأة منجِبة:
وغدًا...
سوف يولد من يلبسُ الدرعَ كاملةً
يوقد النارَ شاملةً
يطلب الثأرَ
يستولدُ الحقَّ 
من أضلعِ المستحيلْ 
وفي قصيدة «من مذكّرات المتنبي» يُؤخّر الشّاعر الفاعل «الأناشيد» في قوله:
نامت نواطير مصر عن «عساكرها»
وحاربت بدلًا منها الأناشيدُ 
إنّ دلالة التّأخير هنا في منتهى الوضوح ، فحين تقاتل الأناشيد نكون في نهاية الرّكب، فالنّواطير هم حرّاس البلد، وهم حُماة الحدود، وفي نومهم خيانةٌ عُظمى للوطن، وتخلٍّ عن القيام بالمهام المطلوبة منهم، وبذلك تُصبح البلاد مُستباحةً أمام جحافل الغزاة المعتدين، فالأناشيد لا تصنع انتصارات، وهذا قدر المهزوم. وفي هذا البيت إشارةٌ إلى قول المتنبي في هجاء كافور:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيدُ
وعندما يتّخذ الخطاب طابع الاستفهام الإنكاريّ يصبح التّشبيه دالًا وبعمقٍ على حال تتأرجح بين الشكّ واليقين. ففي قصيدة «لا تصالح» يقول «كليب» مخاطبًا أخاه «المهلهل»:
 هل يصير دمي ــ بين عينيك ــ ماء؟        
التّشبيه البليغ هنا مأخوذ من التراث العربيّ الذي يؤكّد أنّ الدم لا يمكن أن يصبح ماءً، في رمزيّة عالية لمفهوم القربى، فالقُربى في كثير من مواقعها ذات دفع وجذب وإن كانت تحمل أحيانًا بعض المتاعب ولكنّها تحمل في حقيقتها معانيَ ساميةً تدلّ على فطرة تكوينيّة في إنسانيّة الإنسان. وكانت القُربى في أعلى انحيازاتها في حقبة ما قبل الإسلام حيث كانت الرّابط الأعلى بين النّاس وبذلك كانوا يقولون: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا». وكان القتيل في قبيلة ما قتيل القبيلة كلّها حتّى ولو كان على خلاف مع بعض أفراد قبيلته. ومن هنا نفهم خطاب «كليب» لأخيه «المهلهل» عندما يقول:
  أقلب الغريب كقلب أخيك ؟                           
هذا الاستفهام يحمل معنى استنكاريًّا، فالقربى هنا أعلى من قُربى القبيلة وهي قربى الأخوّة وهي الأعمق. ويلجأ الشّاعر إلى التّشبيه المرسل في إشارة تحريضيّة إلى استحالة التّشابه بين الأخ والغريب. فالغريب يبقى جسمًا غريبًا زُرع في جسد الأمّة ، ومن المستحيل أن يكون وجوده من أجل مصلحة أبناء الأرض الذين تجذّروا فيها. وهنا يبلغ التّشبيه ذروته في إيحائيّته التّحريضيّة، حيث يقارن بين نقيضين: الأخ والغريب. ولهذا، ولحتميّة انتصار الأخوّة على ما عداها يصبح دم «كليب» علامة القتال ووسامًا للدّفاع عن شرف الأخوّة في تشبيهين بليغين، حيث يقول:
 فالدم الآن صار وسامًا وشارة                        
المشبّه «الدم» والمشبّه به «وسامًا وشارة»، ولا تكتمل إيحائيّة التّشبيه إلا باقترانها بظرف الزّمان «الآن». فالدم لا يؤرّخ لمسيرة الحقّ ما لم يُرق في سبيل قضيّة عادلة تستحقّ الفداء. عندها يصبح مفهوم» «الدم» ذا رمزيّة عالية ويتحولّ إلى «وسام» عندما يمارسه صاحب الدم والقائم عليه في الزمان والمكان المناسبين، ويصبح أيضًا «شارة» للنّصر على الأعداء. ولا مجال للتصالح مع من سفك الدّماء ظلمًا ولا بدّ من الثأر للدّماء بالدّماء وعدم المصالحة عليها. 
إنّ ما يميّز الشاعر هو الالتزام بقضايا الأمة في كل مواقع جغرافيتها الممتدة على مساحات التاريخ العربي الواسع. لقد انتصر لأمته حتى في هزيمتها، وآمن بأن الأمة ستضمد جراحها؛ لكنه يرى أن  تضميد هذه الجراح لا يكون إلا بعد سيلان الدم والمعاناة والشهداء والفقراء، فالأمة لا تنتصر إلا بعد الفجائع. وإذا كان الشاعر لم يعش حياة انتصار الأمة فإن شعره كان يلتمع ببروق النصر التي يجب أن تأتي. كان التفاؤل عنده أعلى من التشاؤم على الرغم من مرارة الزمن، ومرارة الهزائم. ألفاظ الشاعر كانت تتكرر باتجاه الخلاص من الهزائم والانتصار، وإن كان لم يأتِ في زمنه ■