انقراض اللغات لماذا علينا الاهتمام؟

انقراض اللغات  لماذا علينا الاهتمام؟

 قد يبدو لنا أنه ليس هناك سوى عدد قليل من اللغات التي يتم استخدامها حول العالم، إلا أن الحقيقة هي أن هناك عددًا هائلًا من اللغات التي يتحدث بها أشخاص في بلدان وثقافات مختلفة.  يقول المتخصصون اللغويون إن هناك نحو 6500 لغة في العالم متداولة حاليًا لتلبية احتياجات التواصل اليومية ، والكثير منها غير معروف، ولا تستخدم إلا من قبل السكان المحليين بحيث تنتشر بين مجموعات صغيرة في مناطق مختلفة من العالم.  لكن هذا التنوع اللغوي آخذ في الانخفاض بشكل مطرد، فخلال المائة عام الماضية انقرضت أكثر من 400 لغة، أي بمعدل 1 كل 3 أشهر، ومن المتوقع أن يختفي نحو 50 في المئة من اللغات المتبقية في الوقت الحالي خلال القرن المقبل. وبمعنى آخر، ستنقرض لغة واحدة كل أسبوعين تقريباً وقد تكون النسبة أعلى من ذلك حسب بعض الباحثين.

 

أما فيما يتعلق بالأسباب، فهي عديدة ومتشعبة وتتعلق بالعولمة وتغير المناخ والحروب والنزوح، كما أنها تختلف حسب تاريخ الأمكنة وجغرافيتها وحالتها الاجتماعية والاقتصادية، فتكون القصة متباينة قليلًا بالنسبة لكل لغة لكنها تتشابه في العديد من العوامل الرئيسية. 
ما يحصل هو أن بعض السكان الأصليين يختارون التخلي عن لغتهم الأم لصالح لغات ذات هيبة ونفوذ، فيتكيفون مع اللغات الأكثر شيوعًا (مثل الإنجليزية ولغة الماندرين والعربية والسواحلية والصينية)، وذلك لأنه نظرًا لأن اللغات المنقرضة أو تلك المهددة بالانقراض عادة ما يتم التحدث بها ضمن العائلة الصغيرة داخل المنزل فقط ولا يتم تدريسها في المدارس، فلا يتمكن الأطفال من التحدث بها بطلاقة. بالإضافة إلى ذلك، بمجرد أن يصبح هؤلاء الأطفال بالغين، من غير المرجح أن يحتاجوا إلى معرفة لغتهم الأصلية في حياتهم اليومية وبدلًا من ذلك، وبسبب هذه الحركة نحو اللغات الأكثر هيمنة، لا يواصل هؤلاء تعليم لغتهم الأم لأطفالهم في المستقبل، معتقدين أن اللغة السائدة أكثر قيمة لفرص العمل المستقبلية. وبمرور الوقت، يختفي المتحدثون المتبقون، ما يتسبب في انقراض اللغة.

مواجهة انقراض اللغات
لكن هل يهم إذا ما انقرضت لغة غامضة قد تبدو غريبة ولا يتحدث بها سوى عدد قليل من البشر في ركن منعزل من العالم؟
يقول بعض الأشخاص إن فقدان اللغة، مثل فقدان الأنواع البيولوجية الحية، بحيث هو ببساطة حقيقة من حقائق الحياة على كوكب دائم التطور. لكن من جهة أخرى هناك حجج مضادة لهذا الاعتقاد. يقول مارك تورين، عالم الأنثروبولوجيا واللغويات بجامعة ييل الأميركية، إنه «على الرغم من أن الكثير من الناس يستدعون الداروينية الاجتماعية ليدعموا حجتهم بعدم الاكتراث لفقدان اللغات في العالم، ويشبهون انقراض اللغة بـمبدأ «البقاء للأصلح»، لكننا في الواقع ننفق مبالغ ضخمة من المال لحماية التنوع البيولوجي، فلماذا يجب ألا نحمي ما يعطينا الفرادة كبشر مقارنة بسائر المخلوقات، ألا وهو اللغة؟».
من جهة ثانية، هناك من يقول إن جزءًا من الحزن الذي نشعر به عند موت لغة معينة لا علاقة له باللغة نفسها، بل يتعلق بالمشاعر العاطفية الموجودة داخلنا ليس إلا؛ فقد لاحظ الباحثون في مجال السياسات اللغوية، أن لغات الأغلبية تميل إلى أن تكون ذات قيمة فعلية بسبب فائدتها وقدرتها على مواكبة التقدم، وأن بعض الناس يعتبرون لغات الأقليات عائقًا أمام هذا التقدم، وبالتالي ينظرون إلى القيمة التي يمنحها البعض لهذه اللغات أنها مجرد قيمة عاطفية فقط. 
بالإضافة إلى ذلك معظمنا يعتقد أن «الإفراط العاطفي» هو ارتباط عاطفي مبالغ فيه تجاه شيء ما، لأنه لا يعكس قيمة الشيء الذي تربطنا به هذه العلاقة. وهنا يمكن الإشارة إلى وصف الفيلسوف الراحل جيرالد آلان كوهين لممحاة بالية عمرها ستة وأربعون عامًا كان قد اشتراها عندما أصبح محاضرًا للمرة الأولى في إحدى الجامعات،  وقال عنها إنها شيء «لا يحب أن يخسره» لأن هناك علاقة عاطفية تربطه بها على الرغم من قِدمها وعدم فائدتها.  وتمامًا مثل ممحاة الفيلسوف كوهين التي تبقى قيمتها ذاتية بحيث يكون من غير المعقول أن «كوهين» كان سيتوقع من الآخرين استثمار أي جهد في المحافظة عليها، كذلك فإن القيمة التي تشكلها تلك اللغات المنقرضة للبعض لا يبرر إلزام المجتمع ببذل جهود واسعة في سبيل المحفاظة عليها. 

ثراء معرفي وثقافي
القيمة التي ترتبط بلغات الأقليات ليست قيمة عاطفية بحتة، كما أنه لا يمكن اعتبار فقدان اللغة أمرًا طبيعيًا كفقدان التنوع البيولوجي، فمثلما توفر النظم البيئية ثروة من المنافع للبشرية، بعضها معروف والبعض الآخر غير معروف أو لم يتم اكتشافه بعد، فاللغات أيضًا مليئة بالإمكانيات، بحيث إنها تحمل تاريخًا ثقافيًا فريدًا وتعد قنوات لانتقال التراث البشري من جيل إلى جيل لا سيما أن الكتابة تعد تطورًا حديثًا نسبيًا في تاريخنا (فالأنظمة المكتوبة غير موجودة إلا لنحو ثلث لغات العالم فقط)، لذلك غالبًا ما تكون اللغة نفسها هي الطريقة الوحيدة لنقل الأغاني والقصص والقصائد والأحداث التاريخية في المجتمعات المختلفة، فالإلياذة كانت قصة شفهية قبل كتابتها كما كانت الأوديسة، وكذلك كانت حكايات ألف ليلة وليلة، وفي هذا الإطار يقول بيتر أوستن أستاذ علم اللغة الميداني بجامعة لندن: «كم هو كبير عدد التقاليد الموجودة في العالم والمشفرة في لغات معينة التي لن نتعرف عليها أبدًا لأنه لم يتم تسجيلها قبل اختفاء تلك اللغات»، ففي كل لغة من لغات العالم هناك ثروة من الحكمة ومجموعة متراكمة من المعرفة بحيث تحمل كل واحدة منها طرقًا فريدة لتفسير العالم، فلا توجد اثنتان متماثلتان، كما أنه: «لا توجد ثقافة تحتكر العبقرية البشرية، ولا نعرف أبدًا من أين ستأتي الفكرة الرائعة التالية»، وذلك حسب ديفيد هاريسون، المؤسس المشارك لمعهد الألسنة الحية للغات المهددة بالانقراض. 
على هذا النحو، يمكن للغات المنقرضة تقديم نظرة ثاقبة عن علم الأعصاب وعلم النفس والجغرافيا وعلم الحيوان والرياضيات والملاحة وعلم الفلك وعلم الأدوية وعلم النبات والأرصاد الجوية والقدرات اللغوية لجنسنا البشري، وبالتالي فإنها توفر مسارات معينة للفكر وأطرًا مختلفة لحل المشكلات، كل واحدة منها في سياق ثقافي وبيئي محدد. يقدر العلماء أن ما يقرب من 86 في المئة من الأنواع النباتية والحيوانية في العالم لم يتم اكتشافها أو وصفها بواسطة العلم الحديث حتى يومنا هذا، ومع ذلك يُعتقد أن هناك مستودعات واسعة للمعرفة العلمية غير المعروفة وغير المكتشفة على نطاق واسع، والتي تحتفظ بها مجتمعات صغيرة ذات اثنيات مختلفة ولغات خاصة بها. 
وقد أثبتت هذه المعرفة أنها ضرورية لبقاء البشرية وتطورها، ليس فقط من منظور طبي، لكن أيضًا بسبب حقيقة أن المجتمعات الأصلية لديها أساليب فريدة في زراعة واستخدام الموارد الطبيعية غير المعروفة للمجتمعات الأخرى. على سبيل المثال، اكتشفت قبائل سيري، التي تضم مجموعة من السكان الأصليين في المكسيك، القيمة الغذائية لـعشب الانقليس، وهو نوع من أنواع الحشائش البحرية، الذي يمكن استخدامه كمصدر غذائي للبشر، وربما لا يقدر هذا الاكتشاف بثمن بسبب السهولة النسبية التي يمكن بها زراعة هذه العشبة. 
إلى جانب ذلك، توجد في اللغة  الشيروكية، مثلًا، وهي اللغة التي تعتبر من أقوى اللغات الأصلية للأمريكتين، كلمات  لكل أنواع التوت وجذوع الشجر والأغصان والضفادع، بحيث تنقل هذه الأسماء نوع الخصائص التي قد تمتلكها كل من هذه الكائنات - سواء كانت صالحة للأكل أو سامة أو كانت لها بعض المنافع الطبية. وفي اللغات المنقرضة جنوب شبه الجزيرة العربية أيضًا، هناك ثروة من المعلومات التي ضاعت مع انقراض تلك اللغات كون معظمها كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالبيئة المحيطة بها وجوانب الاقتصاد المختلفة سواء من تربية الأبقار والإبل والماعز أو صيد الأسماك. فعلى سبيل المثال، ترتبط اللغة المهرية (وهي لغة قبيلة المهرة شرق اليمن وعمان والكويت والإمارات والسعودية وأيضا في الربع الخالي) بالطبيعة، بحيث يمكن وصف الرجل الطويل الكثيف الشعر بالشجرة الكثيفة الأغصان، كما أن الملعقة او أي أداة يتم فيها تناول الطعام تسمى لحاء الشجر( كما كانت تسمى كذلك في اللغة الباثارية أيضًا). وفي عصرنا الحالي تم استخدام المعرفة المتضمنة في اللغة الحرسوسية، وهي لغة قبيلة الحراسيس في سلطنة عمان، لإحياء حيوان المها العربي المهدد بالانقراض. 

تقاطع اللغة والثقافة والهوية 
من جانب آخر، يساعد فهم اللغات على فهم طريقة تفكيرنا أيضًا، حيث يعتقد البعض أن اللغة التي نتحدث بها تؤثر على بنات أفكارنا، بل أكثر من ذلك هناك من يؤكد أن اللغة هي التي تجعل التفكير أمرًا ممكنًا، وهذا الادعاء مبني على النظرية المسماة بنظرية «سابير-وورف» التي تقول إن اللغة هي التي تقوم بقولبة تفكيرنا وسلوكنا بحيث إننا نفهم الأشياء والأحداث وأنفسنا والآخرين من خلال عملية تفسير تحدث في اللغة. ومن هنا تصبح اللغة جزءًا من هويتنا ومن هنا أيضًا يمكن اعتبار أن هناك تقاطعًا قائمًا بين اللغة والثقافة والهوية، لذلك يؤدي فقدان اللغة إلى تقويض إحساس الناس بالهوية والانتماء ويتسبب في اقتلاع مجتمعات بأكملها من جذورها. ويؤكد على هذا الأمر الكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو الذي يقول إن «فقدان اللغة يعني فقدان الهوية لأن اللغة هي حاملة لثقافة الشعوب وهي التي تعبرعن مجموع قيمهم التي هي أساس تعريف الناس لذواتهم، أساس وعيهم». وهكذا، فإن اللغة هي أساس الارتباط التاريخي للشعوب، وهي صوت روحهم الجماعية، ومع ضياعها لن تتمكن الأجيال الجديدة من الارتباط بجذورها، ومن دون هذا الارتباط سيفقد الأشخاص الإحساس بالمكان والهدف والمسار، ولهذا السبب يعد فقدان اللغة مصدر قلق كبير، وتعتبر مسألة المحافظة على لغة الأقليات قضية مشحونة عاطفيًا في جميع أنحاء العالم.  

حفظ اللغات المهددة بالانقراض
هناك العديد من الأقسام الأكاديمية والمنظمات غير الربحية حول العالم المكرسة لحفظ اللغات المهددة بالانقراض من أجل ضمان بقائها بعد رحيل آخر متحدث بها. يقوم الباحثون اللغويون  فيها بتسجيل وتوثيق وأرشفة تلك اللغات، وذلك من خلال صنع القواميس وتسجيل التواريخ والتقاليد وترجمة القصص الشفوية. لكن بما أنه من دون متحدثين أو أشخاص مهتمين بتنشيط تلك اللغات، فإن هذه الجهود سوف تشبه إبقاء تلك اللغات كقطع أثرية في المتاحف، لذلك تكمن الفكرة وراء تقنيات الحفظ هذه في إعادة تقديم  تلك اللغات في وقت ما بالمستقبل. أحد الأمثلة الناجحة على مثل تلك الجهود يتعلق بلغة ميامي، وهي اللغة الأم لأمريكا الشمالية، التي انقرضت في الستينيات من القرن الماضي، والتي  يتم تقديمها اليوم  كدورة  بجامعة ميامي في ولاية أوهايو الأمريكية. 
وفي مكان قريب بعالمنا العربي ينفذ مركز الدراسات العُمانية  سلسلة مشاريع بحثية منها مشروع دراسة لغة «الهوبيوت»، إحدى لغات جنوب شبة الجزيرة العربية المهددة بالاستسلام للغة العربية، والذي يعمل عليه باحثون من جامعة السوربون الفرنسية بحيث تعتمد تلك الأبحاث على المقابلات والاستماع إلى النّاس في حياتهم اليوميّة الخاصّة والعامة، وذلك بالتزامن مع جمع مادّة بحثيّة متنوّعة بلغة الهوبيوت من أشعار وقصص شعبيّة وروايات عن العادات والتقاليد والصيد والزراعة. 
هناك أيضا  منظمة Leverhulme Trust، التي تعنى بالأبحاث الأكاديمية في المملكة المتحدة، تهتم أيضا بتنشيط خمس من أصل ست لغات جنوب الجزيرة العربية المهددة بالانقراض، وهي الحرسوسية والمهرية والباثارية والهوبيوت والشحرية، والعمل عن قرب مع السكان المحليين وتشجيعهم على الافتخار بلغتهم ومساعدتهم على نقلها إلى الأجيال الصاعدة من خلال إشراك أعضاء المجتمع اللغوي فيها بعملية التوثيق والاستخدام المبتكر للتقنيات الحديثة مثل البريد الإلكتروني والرسائل النصية القصيرة والمدونات والتغريدات لنقلها بأشكال جديدة وتطوير وتعزيز الثقافة التي تطورت في أحضانها.
وهكذا، على عكس أسطورة برج بابل التي تقدم نظرة سلبية لتعدد اللغات في العالم وتعتبره بمنزلة عقاب إلهي للجنس البشري، يمكن التأكيد على أن تعدد اللغات يعتبر ثراء بشريًا على الصعيد الثقافي والبيئي والإنساني والتاريخي والعلمي أيضًا، فضلًا عن كونه وسيلة مهمة لمواجهة العولمة الطاغية ■