الأدب الرقمي التفاعلي وتحولات الخطاب

الأدب الرقمي التفاعلي  وتحولات الخطاب

لقد خرج النص الأدبي المعاصر من مسار الخطية منذ اطلع على كثير من مبادئ وأفكار الحداثة وما بعدها، وما اكتسبه من نواتج نظرية التلقي، التي أتاحت للمتلقين التفاعل مع بنية النص، ومكنتهم من فهمه وتأويله بأكثر من فهم وبأكثر من تأويل، وهو ما ترتب عليه مشاركة المتلقي في إنتاج النص، ومن هنا انشطر المتلقي أمام النص إلى متلق إيجابي وآخر سلبي، كما أفسحت تلك النظرية بمبادئها وأفكارها المجال أمام النقاد؛ لإعادة النظر في دور كل من المبدع والمتلقي، وكذا المناهج التي تناسب قراءة ودراسة النص، بعد أن كان النص يعاني سلبيات كثيرة، منها سلطة المبدع وسلبية المتلقي، ولي عنق النص بافتراض قراءة واحدة وتأويل واحد. 

 

مع نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي أطل النص الأدبي بوجه جديد غير مألوف، أطل في شكله الرقمي التفاعلي – كما ظهر في الأدب الأمريكي عند مايكل جويس في الرواية وروبرت كاندل في الشعر - جاء وقد حفل وكتابه ومنظروه ونقاده بالتفاعلية، تلك التي تجلت كثيرا في مبادئ النص ما بعد الحداثي؛ حيث أفادت من تبعات النص المقروء عند بارت أو المفتوح عند إيكو، و(موت المؤلف) عند بارت، كما استندت إلى كثير من عمليات ومبادئ التلقي، مثل سد الفراغات، وتعدد التأويلات، بالإضافة إلى توقع حضور القارئ الضمني، وإذا كانت هذه الأمور في مجملها مما ميز النص ما بعد الحداثي؛ فهي ذاتها التي يقوم عليها النص الأدبي في شكله الرقمي التفاعلي.
يضاف إلى ما سبق أن لغة النص الرقمي التفاعلي تتشكل عبر مزيج من اللغة اللسانية، واللغة الآلية - التي تتمثل في استدعاء بعض المؤثرات مثل الحركة والصورة والصوت – وإن كان اجتماعهما يعد أمرا في غاية الصعوبة؛ نظرا لشدة التباين بين اللغة اللسانية التي تصدر عن إنسان واللغة الآلية التي تصدر عن آلة، لكن بعد أن أصبح الازدواج اللغوي في النص الرقمي التفاعلي أمرا واقعا، وثبتت فعاليته، وصار للغة الآلية أثر في بناء النص، ونجح المبدع الرقمي التفاعلي في عملية التوليف تبع ذلك أيضا انزياح في بنية النص، التي تخلقت في الأصل عبر التعالق الأجناسي والتناص. 
كان قد مر الأدب العربي ببعض محاولات من التجريب جادة ومتطورة - في حينها – يمكن مقاربتها الآن على أنها بعض إرهاصات؛ لعل منها ما يلامس مصطلح (الأدب التفاعلي)، ولم تكن هناك صورة في أدبنا العربي أقرب إلى مفهوم التفاعلية من (الشعر البصري)، و(الشعر الهندسي)، والذي يمكن اعتباره – حسب فاطمة البريكي - نواة حقيقية للتفاعلية الحديثة إذا أمكن استثماره؛ فلم تكن التفاعلية خاصة النص الرقمي، بل إن النص الورقي التقليدي استطاع أن يكتسب تلك التفاعلية عبر كثير من الإمكانات التشكيلية؛ إذ صار بإمكان الشاعر أن يحشد لنصه كثيرا من عناصر التفاعلية.

الأدب الرقمي التفاعلي
النص الأدبي إذا ما قدم عبر وسيط إلكتروني متصل بشبكة الإنترنت، وأمكن للمتلقي أن يراه ويقرأه ويسمعه، وامتاز بالتفاعلية؛ حتى أتيح للمتلقي فيه مساحة توازي مساحة الكاتب، من (الرد، والإضافة، والترجمة، والتعديل، أو إعادة الإنتاج)؛ كان ذلك هو الأدب الرقمي في صيغته التفاعلية.
يقوم النص الرقمي التفاعلي على عدد من الخصائص، هي: اللاخطية، والتفاعلية، والافتراضية، وتعدد الوسائط، فليس كل نص وجد مكانا من الفضاء الشبكي قد صار نصا تفاعليا، ولا يصير النص تفاعليا إلا إذا امتلك خصائص التفاعلية؛ حتى إن النص لا يتجاوز كونه رقميا أو إلكترونيا على شبكة الإنترنت ما لم يصر تفاعليا، وهو - حسب مشتاق عباس معن- «نص يعرض ويقرأ ويسمع، أي يستقبل بالحواس الإدراكية المهمة في عملية التواصل الإنساني وتمكنه تلك التشيكلة الأداتية بعزل المتلقي عن كل ما هو خارج النص؛ لأن كل محفزات الانصراف عنه منشغلة بالتلقي، بصرا وسمعا، لا سيما إذا كان السمع بوساطة الهيدفون (سماعات الأذن اللاصقة)». ولا سلطة للمؤلف أو المتلقي في النص (الرقمي التفاعلي)، كما أنه لا سلطة للنص عليهما، ومن علامات ذلك أنه يصير باستطاعة المتلقي أن يدخل إلى النص من أي مدخل شاء، وله أن يحدد نقطتي البداية والنهاية فيه، وله أن يغيرهما متى أعاد قراءته، كما يمكن للمؤلف وللمتلقي العودة إلى النص وإنتاجه من جديد.
ويعد النص الأدبي الرقمي التفاعلي أحدث ما وصل إليه مفهوم للنص الأدبي، ولا يمكن بحال من الأحوال إغفال ما آل إليه مفهوم النص الأدبي من قبل، في ظل النظريات النقدية والمناهج البحثية الحديثة، التي اتخذت من اللغة وحسب مركزا رئيسا؛ لقياس أدبية النص، مثل البنيوية، والأسلوبية، والسيميائية وغيرها.
ولن يكون هناك مفهوم ثابت للنص الرقمي التفاعلي؛ ذلك لشدة ارتباطه بالمتغيرات من التكنولوجيا والميديا والمستحدثات الرقمية سريعة التطور والتغيير. 

بناء النص الرقمي التفاعلي
اعتمد النص الورقي على عناصر ثابتة لا ينفك عنها الكاتب والشاعر، إذ هو لم يخرج عن اللغة الأبجدية المطبوعة على الورق، التي تبدأ في اتجاه خطي وعناصر أكثر ترتيبا، وإن خرج عن ذلك فإنما يكون إلى التخيل الذهني للتراكيب والصور البلاغية، ثم هو بالإضافة إلى ذلك يتخذ من الإيقاع أو الموسيقا الخارجية والداخلية - فيما يخص الكتابة الشعرية- عنصرا أساسيا، أي إن دفتي الكتاب وما بينهما تمثل الحيز الفيزيقي للنص، ولا يتنافى هذا مع ما أتيح للمتلقي من صلاحيات التأول والقراءات المتعددة؛ التي تزيد من شعرية النص، ومهما أضافت التأويلات وتعدد القراءات إلى النص الورقي من شعرية؛ فلن تأخذه إلى أبعد مما انتهت إليه الأسلوبية والبنيوية.
أما النص الرقمي التفاعلي فهو نص ما بعد بنيوي وما بعد أسلوبي فإذا كان الكاتب أو الشاعر الأسلوبي يعتمد في الكتابة على الاختيار والتركيب والانزياح؛ فإن الكاتب أو الشاعر الرقمي يدخل على النص عناصر جديدة، من شأنها أن تزيد من تجاوزيته؛ إذ ينبني النص الرقمي التفاعلى من طبقات نصية؛ «تتوزع على مستوى البناء المندمج: طبقة الحرف/ طبقة الصورة/ طبقة الصوت، ومستوى البناء التشعبي (النوافذ الحاملة للنصوص) سواء أكانت تلك النوافذ نافذة أم متفرعة بلا نفاذ»، وتتحدد مكونات القصيدة الرقمية التفاعلية بناء على ما نجده في فضائها من عناصر مكونة، وعلى كل فإن لغة القصيدة الرقمية التفاعلية تتكون من اللغة الأبجدية، واللغة الأيقونية، وغير ذلك من مؤثرات (اللغة الآلية).

اللغة الأبجدية عنصر أساسي
يعتبر نص الشاعر الأمريكي روبرت كاندل المعنون بـ in the Garden the of) Recounting) أو (في حديقة الاسترجاع)، أول نص شعري رقمي تفاعلي كتبه في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وقد أنشأه باستخدام برنامج Text Storm، وفيه مزج الشاعر بين الحرف والمستويات الحركية والسمعية، والبصرية، والصوتية، بالإضافة إلى الأيقونات الإلكترونية؛ حيث كونت تلك العناصر لغة النص الرقمي التفاعلي.
وإذا كان عمر القصيدة الرقمية التفاعلية الغربية لم يتجاوز ثلاثة عقود، وعمر القصيدة الرقمية التفاعلية العربية لم يتجاوز نصف ذلك؛ حيث نشر الشاعر العراقي مشتاق معن قصيدته الرقمية الأولى (تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق)، في شهر يوليو من عام 2007، فلا يعد ذلك زمنا كبيرا من عمر (تفاعلية النص الرقمي الغربي أو العربي)، وربما يحمل القادم أكثر من ذلك. وفي كل ما سبق أو ما هو آت من عمر الأدب عامة والأدب الرقمي التفاعلي خاصة تأتي الأبجدية (اللغة الحرفية) عنصرا أساسيا فيه، وتشترك أو يشترك معها غيرها من معطيات التكنولوجيا التي هي دائمة التحديث.
ولم تأت تجربة النص الرقمي التفاعلي محض صدفة؛ ذلك أنه مشروع كبير جدا، ليس نتاج يوم وليلة؛ حيث مهد لظهوره – بالإضافة إلى الطفرة التكنولوجية والآلية- انشغال الساحة الأدبية والنقدية في الفترة التي سبقته بالحوارية أو مبدأ الحوارية الذي بدأ في النثر أو السرد على وجه الخصوص، وهو المشروع الباختيني الذي يقوم على تعدد الأصوات داخل السرد، وأقامت عليه جوليا كريستيفا مشروعها النصي (التناص)، الذي أصبح ظاهرة أسلوبية قامت عليها الشعرية - فيما قامت - في موضوعها من التعددية النصية، كذلك فإن الخبرة الفائقة بالنص ما بعد الحداثي كانت طريقا صحيحا أدى إلى وجود هذا المشروع. 
جاءت اللغة اللسانية - في النص الورقي - المادة الوحيدة التي يشتغل عليها الكاتب والمتلقي، الأول يعمل على إنتاج لغة فوقية ذات حوارية أو تعددية نصية، والثاني ينتج كثيرا من القراءات والدلالات، وفي النص الرقمي التفاعلي تتجاوز اللغة الحرف إلى كل مكونات النص الآلية؛ فيتبع ذلك نمط جديد من الحوارية، ويتزايد عمل الكاتب والمتلقي، كما تتحد وظيفة كل منهما.

اللغة الأيقونية
تبقى التفاعلية خصيصة يتميز بها نص عن آخر من الأدب الذي يستخدم التكنولوجيا وسيطا في الخروج إلى المتلقي؛ وعليه يبقى هناك فرق بين ما هو رقمي، وما هو رقمي تفاعلي، وتتباين درجة تفاعلية الأيقونة فيما بينهما. ويكون النص الرقمي في صيغته التفاعلية «حالة بنائية نصية تعيش التشكل باستمرار»، ويقع النص الرقمي التفاعلي بين الكاتب والمتلقي، وما بينهما من عناصر تزيد وتنقص، وتكون لغته قابلة للتطور المستمر؛ ذلك أن الوسيط الذي تعمل من خلاله هذه اللغة يكون في حالة غير ثابتة.
وفي ظل الوسيط الأيقوني تمايزت لغة المحتوى الأدبي؛ حتى أصبح للأدب لغته التي ترضي طموحات الكاتب والنص والقارئ معا وتطلعات كل منهم، حيث أتيح للأيقونة أن تعمل في محاذاة مع الأبجدية؛ لما لها من قدرة «على اختزال مسارات مختلفة من مفاهيم اللغة الألفبائية.»، ويتولد عبر اللغة الأيقونية عدد من البنى التي تلتحم مع غيرها من الأساليب الأبجدية، وتكون إحداها بمثابة رد فعل أو نتيجة (أيقونية).

البنية الأسلوبية
تأتي أهمية البنية الأسلوبية في النص الأدبي عامة من خلال ما تخلفه من حالة توتر تتبعها حركة زائدة من المتلقي؛ تستدعي تعدد التأويل وزيادة الدلالة، وتعمل البنى الأسلوبية في النص الشعري بشكل أكمل أو بشكل أتم؛ نظرا لارتباطه في الغالب بكل المستويات الأسلوبية. وقد بحثت البنى الأسلوبية وعرفت مرتبطة باللغة من خلال دراسة مستويات الخطاب التي اعتمدت في المقام الأول والأخير على اللغة اللسانية، لكن بعد ظهور النص الرقمي التفاعلي؛ صار بوسعنا أن نلتمس صيغا جديدة للبنى الأسلوبية غير تلك التي ترتبط ارتباطا كليا باللغة اللسانية. 
وتشتمل اللغة الأبجدية أو اللسانية بطبيعة الحال على كل مستويات الخطاب من صوتية، وصرفية، وتركيبية، ودلالية،(وتقع دراسة اللسانيات عامة بين البنية والدلالة)، بالإضافة إلى أنها تفرز كثيرا من الدلالات التي تنتجها الكلمة والآلة على السواء، مثل الحركية، والبصرية، والصوتية، فتؤديها الكلمة مثلما تؤديها الآلة، لكنها في اللسانيات متخيلة وفي الآلة واقعية رمزية أيضا. وفي ظل استخدام اللغة المزدوجة بالنص الرقمي التفاعلي، الذي سمح بدخول الحركة، والصورة، والصوت بشكل محسوس ضمن لغة النص قد يصبح المدلول دالا، فإذا كنا نتحدث في القصيدة الورقية عن دلالة الكلمة أو المفردة على الحركة، أو الصوت، أو اللون؛ فإننا في القصيدة الرقمية التفاعلية صرنا نتحدث إلى جانب ذلك عن دلالة كل هذه المؤثرات الحسية من: حركة، وصورة، وصوت، ومناسبتها للكلمات أو الدوال اللسانية. 
ومن هنا تحولت البنية الأسلوبية في النص الرقمي التفاعلي تبعا لتحول اللغة، الذي نشأ في الأساس عن وجود علاقة بين البنية اللغوية اللسانية، والملحقات الآلية. وتتشكل مستويات الخطاب عبر اللغة، وينظر إلى (اللغة اللسانية) باعتبارها صوتا، وبنية، وتركيبا ودالا في جميع الأحوال، وإلى (اللغة الآلية) باعتبارها دالا حركيا، ومرئيا، ومسموعيا. ومن خلال التوليف بين ما هو أبجدي وغيره من تقنيات التكنولوجيا الحديثة؛ تولدت بنى أسلوبية ملفوظة وأخرى غير ملفوظة (حركية، بصرية، سمعية)، وعبر الترابط، والتشعب، والتفاعل؛ حدث الاندماج الأسلوبي. وتتحدد قيمة اللغة المزدوجة في النص الرقمي التفاعلي بناء على مساحة الانسجام والمناسبة بين اللساني والآلي، بالإضافة إلى عمل الانحراف البنائي والتشكيلي في التشظي الدلالي.
وبدخول اللغة الآلية ضمن مكونات النص الرقمي التفاعلي، وامتزاجها باللغة اللسانية حتى صارت معها كأنهما لغة واحدة؛ اتسع «مفهوم (النصية) ليشمل كل ما له القدرة على التأثير في المتلقي فنيا، ويثير فيه انفعالات معينة بفعل البوح المرسل إليه، والتعامل مع الأدب التفاعلي الرقمي على أنه خطاب» يجري عليه ما يجري على الخطاب اللساني الورقي؛ وينبغي عند قراءة أو دراسة النص الأدبي الرقمي التفاعلي الجمع بين مستويات خطابه، مثل المستوى اللغوي اللساني، والمستوى الحركي، والمستوى البصري، والمستوى السمعي، وكل ما يستوعبه النص وينمي التفاعلية بين عناصره ■