سعدالله ونوس أمواج مسرحية وموسيقار كبير

سعدالله ونوس أمواج مسرحية وموسيقار كبير

إذا كان من المقرر أن للحقيقة وجوهًا كثيرة، فإن للمبدع زوايا نظر متفاوتة، فقد يقودك العامل الشخصي في النظر إلى صورة المسرحي السوري (سعدالله ونوس) فتثمن جَلَدَه مع حالته المرضية ومكافحته السرطان لفترة تقترب من عشر سنوات، وقد تبرز جرأته في تطوير النص المسرحي العربي في مراحل باكرة، وربما يأتي احتفاؤه بالمد القومي ليكون الأبرز من جوانب الصورة، ولكل وجه صوابه. محطات كثيرة يمر بها قطار عمره القصير(1941-1997) يتوقف صامتًا لعشر سنوات منذ أواخر السبعينيات أو يدهمه المرض الخبيث، فيلاطفه ويصاحبه ويناوره ويألفه منذ1992، ويعمل بنصف قدرته الجسمية، لكن بعقل يؤوده نضج زائد ووعي شديد، ويكتب «عن الذاكرة والموت» وهو من أهم نصوص التحديق في الموت.

 

كان ونوس واحدًا من مثقفين كثيرين رأوا حلم القومية العربية رأي العين، وتفتح وعيهم مع التجربة الناصرية، وعاش في مصر خلال ذلك المد القومي، فشاهد «السوري» الوحدةَ جسدًا من لحم ودم، واندمج في مصر، فبدأ أول نصوصه عام 1962 بمسرحيات قصيرة، جمعها في «مأساة بائع الدبس الفقير» و«فصد الدم» ومسرحيات أخرى، وذلك خلال مرحلته الفنية الأولى وأثناء دراسته بمصر؛ حيث سيطر عليه المسرح العبثي والذهني، وغلبت عليه التيارات الفلسفية تأثرًا بتوفيق الحكيم ومسرح القراءة تارة، وتوجهات أستاذه محمد مندور تارة أخرى، ثم جرت في نهره مياه كثيرة.

دراسته المسرحية
أكمل دراسته في معهد الدراسات المسرحية التابعة للسوربون بفرنسا، فهضم تيارات شتى، وعاين فنًا مختلفًا، وكانت أولى مسرحياته الطويلة؛ «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»، بعد ما حدثت هزيمة 1967، متأثرًا بانهيار البناء الرملي وسقوط الحلم على رؤوس المثاليين، فأعرض عمّا ظنه فنًا يدير ظهره للمجتمع، فبذل رعاية مناسبة للمضمون في مجتمع يريد النهوض ولا يندمج فيه، فآثر مزج التشويق بالنفور من الرومانسية. وكانت مسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» نقطة تحول نحو مسرح مختلف، جاء متأثرًا فيها بالإيطالي بيراندللو، ومعتمدًا على إشراك الجمهور، وإسقاط الحائط الرابع ومحاولة الارتجال ليكون الحدث هو البطل، وديمقراطية المسرح البديهية محل اهتمام فني، ويحتفظ بالكارثة شاخصة طوال فترة العرض، وهو ما تكرر - نسبيًا - مع «سهرة خاصة مع أبي خليل القباني».
لقد كان يكتب في تلك الفترة - حسب تعبيره - بيقين الفعالية، وبإيمان عميق بأنه ما زال بالإمكان الرهان على دور المسرح:  اجتماعيًا في التغيير، وفنيًا في مناقشة التاريخ، وذلك في نصوص عدة متتالية، وصولًا إلى «طقوس الإشارات والتحولات»؛ فتحول التاريخ لديه من الإيمان والترديد إلى الشك والتساؤل، ومن التلميح إلى التصريح دون مباشرة، فانتقل من التسليم والتكيف المفضي للتبعية إلى الفهم المؤدي إلى التطور، مع وعي جدلي بالتاريخ وتقديم المعرفة من خلاله لعله يدين بذلك لبريخت فصار يعد الحكاية التاريخية لتلائم الفعل المسرحي الراهن؛ هنا والآن، فكان تأثره بالنسق البريختي جليًا؛ وكان الاحتفاء بالمضامين الواضحة، وجاءت تقنياته مهيمنة على نصوص ونوس. 
ظل وفيًا - بدرجة ما - لمسرحيات القراءة وطابعها الذهني، حتى كانت الجوقة حاضرة في أغلب مسرحياته مع محدودية دلالتها واتصالها بصوت الشعب واقتصارها عليه وإن جدد أحيانًا حين وضعها تماثيل توحي بصعوبة الرهان على ضميرهم الحي، مع توظيف للتنكر يعيد فيه توظيف الأقنعة القديمة.  ويتجاور لديه المسرحُ الإغريقي والروماني مع الطليعي والعبثي، أو صوت مسرح بيسكاتور الذي وجه أعماله نحو المسرح السياسي، وإن كانت تقنيات التيار الملحمي أكثر الأمواج صخبًا وعلوًا، ويبدو كالمايسترو الذي يقود فرقة فيها عناصر عدة، فيتجاور التاريخ الرسمي مع الفلكلور الشعبي، وخيال الظل مع شاشات العرض، ويسير الراوي مع الجوقة، وتعرية القيم الزائفة مع استشراف المستقبل.
برع في التعامل مع الموروث بقراءة نقدية فيؤرقه التاريخ، ويرى الوعي به مهادًا بديهيًا لتجاوز الأزمات المعاصرة، وعبثية محاولة القفز فوقه، مع تقديم حلول فنية كاستحداث شخوص غير تاريخية وغير ذلك من حيل فنية تعكس الوعي بالاختلاف بين التعبير عن التاريخ والتعبير به، فيضيف دهشة للحدث التاريخي تنفي عنه تكلسه القديم، ويراوح في ذلك بين صراع ممتد عن الإحساس باللاجدوى في مقابل عجز الإرادة. وقد مزج ذلك مع استيعاب جيد للموروث الأدبي، وتوظيف للحكواتي، واحتفاء به، مع استيعاب للمؤلفات التراثية بدا في اتكائه على ألف ليلة وليلة في مسرحيته «الملك هو الملك» أو محاورة ابن خلدون في «منمنمات تاريخية»، وإن ظلت مسرحية «الملك هو الملك» أيقونة فنية، تعيدها المسارح المختلفة على فترات متقاربة.

المسرح السياسي
يرتبط إبداع سعدالله ونوس بالمسرح السياسي وتسييس المسرح؛ رهانًا على قدرة المسرح السياسي في إحداث ثورة وتغيير، مع ثوابت أساسية لديه بدت في هجومه على التلقي السلبي للجمهور، فحاول توريطه في اللعبة المسرحية، وإنكاره الذكورية التي تمسك بتلابيب المجتمع، والحملة على التدين الزائف، وتأتي المرحلة الثالثة مع اعتماد التغريب البريختي.
كانت اللعبة المسرحية لديه مزيجًا من اهتمام بالمضمون وتجريبًا للتقنيات الدرامية مراوحًا بين السرد والحوار ومازجًا الخاص بالعام، متأثرًا ببريخت تارة وبيراندللو أخرى حتى كانت فاجعة اجتياح الكويت وحرب الخليج التي سماها ونوس «بعد حرب الخليج وصلنا إلى مرحلة عري كامل». متغيرات عديدة تجعل الحليم حيرانًا وتجعل تغيير أسلوب - أو أساليب الكتابة - فرض عين لا بديل له، وعليه فقد ترى سببًا فنيًا يوازي الأسباب السياسية في تخليه عن القومية وجنوحه نحو الفردية بعد انهيار المد القومي ووصوله منتهى العبثية والجنون مع حرب الخليج، وأن فناء الخاص في العام جعل التكرار أصلًا والنمطية ميزة وتضخيم البطل الضرورة منجاة له من مظنة المحاسبة.  لا يسير سعدالله على طريقة واحدة وإن ظلت «المسرحية داخل المسرحية» أثيرة لديه لاعتبارات فنية بالأساس، مع سيل من التنوعات الفنية، لا يتورع فيها عن الجرأة حتى في مناطق يعز دخولها إلى المسرح العربي، وظل للمسرح السياسي حضوره وطغيانه وللحكاية تأثيرها، في توازٍ وتقاطع ودائرية وغيرها من تنويعات فنية، فعلت النصوص لديه على البعد الواحد، كما خلت نصوصه من الشخصيات ذات البعد الواحد وإن كثرت فيها ذات الوعي السطحي والاهتمام المحدود.

تنوع نصوصه 
وتنوعت نصوصه بين البداية البسيطة مرورًا بالتوظيف الأيديولوجي وصولًا إلى التساؤلات النفسية والمعرفية ونضج الرؤية حين تخلت عن توهم الدور الثوري المباشر لا التراكمي للعمل المسرحي يراوح بين صراع ممتد عن الإحساس باللاجدوى في مقابل عجز الإرادة.
حاول إزالة النمطية المقيتة في تكوين الشخصيات، وجنح صوب الشخصية النموذج معتمدًا نوعًا من التجربة العامة الموغلة في التجريد، وكان رهانه على جانب المعنى لا يقل عن احتفائه بفنيات العرض، فبذل اهتمامًا بالغًا بالفضاء المسرحي، ولديه اهتمام بتكوين المشهد وأولوية للإرشادات وحدث واقعي وحوار يبدو عاديًا بعدما حل ونوس مشكلته مع اللغة، تمامًا كما استقر على رفض الود المستتر والتدين الزائف والمواجهة المدعية.
إنه رجل مسرح بالمعنى الكامل للكلمة، وليس مجرد مؤلف لنصوص مسرحية، ومن ثم كان اهتمامه بتطوير المسرح أولوية كبرى. بذل اهتمامًا بالسينوغرافيا وتوظيف الخشبة والاحتفاء بمكوناتها، فقد صقلت تجاربه المعروضة قدرتَه على تمثل المسرحية مكتوبة للعرض، بعيدًا عن القراءة التي أسرته في بداية دخوله المسرح. مع وعي شديد بتاريخ المسرح، وهو ما بدا في تشكيل مسرحية سهرة خاصة مع أبي خليل القباني. لم تزعجه بعض المباشرة التي ربما تعمدها استجلابًا لمشاركة الجمهور، ورهانًا على دور المسرح في التوعية السياسية ونشدان التغيير المجتمعي كما في «رأس المملوك جابر» فتكتنز باحتمالات تأويلية متباينة، ومن ثم تبدو أغلب الخطابات عرضةً للنقد والنسف لديه من الديني المفرط في الغيبية مرورًا بالعلماني المفرط في النفعية وصولًا إلى السلطوي المعتمد كليًا على البطش.
ليس هناك تناقض بين أمواج سعدالله ونوس المتتالية والمتنافرة في آن، فالفترة موّارة والتراكيب متلاحقة ومظاهر التحديث لم تطور البنى الحقيقية للمجتمع الذي ظل يناقش بعض البديهيات بعزيمة لا تلين ■