موقع العرب الجغرافي والثنائيّة في موسيقاهم مقابل الأحاديّة بموسيقى أوربا

موقع العرب الجغرافي  والثنائيّة في موسيقاهم  مقابل الأحاديّة بموسيقى أوربا

يقول الله في كتابه العزيز: {وكَذَلِكَ جَعَلناكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس} (سورة البقرة - الآية: 143). وفي تفسير الإمام الطبري: إنّ الوسط: الخيار أو العدل، ولهذين المعنيَين ما يؤيّدهما في سياق السّورة. لكن موقع الوطن العربيّ من العالم، لاسيّما العالم القديم، جعله وسطًا بين الغرب والشمال من جهة، وبين الشرق والجنوب من جهة أخرى. وقد يكون لهذا الموقع الوسط الأثر العميق في تكوّن فلسفة الجمال عند العرب، لأن أثره كان مؤكدًا  في تاريخهم، وفي علاقتهم مع العالم القديم وحضاراته في حوض البحر الأبيض المتوسط، وفي حوض المحيط الهندي.

 

لقد كانت بلاد العرب لا سيّما شبه الجزيرة العربيّة وبلاد الشام ووادي النيل، ولا تزال، مفصلًا أساسيًا في التبادل بالعالم. وما كان يمكن للتجارة الدوليّة أن تبلغ مكانتها الأولى في تحريك تاريخ العالم لو لم تكن بلادنا ذلك الشريان الأكبر في حركة السلع، بين عالمَي المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط.

صراع السيطرة
للسيطرة على هذا الشريان شنّ الإسكندر المقدوني حروبه، حتى يبلغ شاطئ الخليج العربيّ. وورثت روما منه هذه المسألة، فتحاربت مع الفرس، لأن كلًا من الإمبراطوريتين الكبريَين أرادت السيطرة على شريان التجارة بين الشرق والغرب، المارّ عبر شبه الجزيرة العربيّة أو من حولها.  وواصلت بيزنطة اتّباع سياسة روما مع الساسانيّين، فظل الصراع الدوليّ للاستيلاء على المنطقة يدور حول هذا المحور: مَن يُمسِك بمداخل هذا الشريان، ومخارجه؟ وفي هذا الإطار أُنشئت دولة الفرنجة، واكتُشِفت أمريكا، وحارب نابليون بونابرت إنجلترا، ثم أُنشِئت دولة إسرائيل. ولا يزال الموقع الوسط لمشرقنا العربيّ موضع طمع الدول الأجنبية حتى اليوم.
في هذا الصراع الذي لم تتبدّل معطياته الجغرافيّة السياسيّة حتى يومنا هذا، كان نظر الغرب قبل «اكتشاف» أمريكا يتّجه وجهةً واحدة إلى الجنوب الشرقيّ، من أجل بلوغ ما سُمّي في القرن العشرين: المياه الدافئة.  لكن مقابل هذه الوجهة الوحيدة عند الغرب كان للعرب وجهتان يتطلعون إليهما، لأنهم كانوا «أمة وسطًا»، فوجهةٌ هي الشمال الغربيّ، ووجهةٌ ثانية هي الجنوب الشرقيّ. 
هل كان لهذا الازدواج أثر في فلسفتهم الجمالية، وفي فكرهم الموسيقيّ وأسسه الأولية؟
إن الادّعاء أن بإمكاننا تفسير سرّ العلاقة بين موقع العرب الجغرافي - السياسي هذا وفلسفة الجمال والفكر الموسيقيّ عند العرب، هو ادّعاء قد يكون مُغاليًا في تبسيط الأمور، لكن إغفال بعض الظواهر وعَزوها إلى الصدفة وحدها وإقفال باب البحث عن الأسباب مسارٌ غير علمي أيضًا، وموقف لا يُثري معرفتنا لجذور حضارتنا وبذورها الأساسية.
ففي تكوين عناصر الموسيقى العربيّة يعود مبدأ ثنائيّة العناصر الأولية بإلحاح مثير للدهشة والإعجاب والسؤال. ويزداد الباحث دهشة وإعجابًا وسؤالًا حين يلاحظ في عناصر الموسيقى الأوربيّة في المقابل إلحاحًا على مبدأ أحاديّة العناصر الأوليّة، فتضيق المساحة كثيرًا بين الشك واليقين في هذه المسألة وتفسيرها، ويصبح التأويل البيئيّ قاب قوسين أو أدنى منَ التفسير العلميّ، فتكاد أن تقول: نعم، لموقع العرب الوسيط في هذه البيئة الجغرافيّة السياسيّة دورٌ في ثنائيّة هذا الفكر الموسيقيّ وهذه الفلسفة الجماليّة.
وسنشرح فيما يلي هذه النظرة، في استعراضنا لأربعة من عناصر تكوين الموسيقى العربيّة:
أ‌- إيقاع الكلمة العربيّة:
لا شك في أن الموسيقى العربيّة، وهي غنائيّة أساسًا، مبنيّة على أصول التجويد، التي تحترم إيقاع الكلمة العربيّة، وأوزانُ الشعر العربيّ التي نظّمها الخليل بن أحمد الفراهيدي، موافِقَةٌ تمامًا لهذه الأصول:
علّموهُ كيفَ يَجفُو فَجَفا
ظالِمٌ لاقَيتُ منهُ ما كَفى
/0//0   /0/0//0    /0///0    /0//0   /0/0//0   /0/0//0
فاعلن مستفعلن مفتعلن
فاعلن مستفعلن مستفعلن

الغناء العربي الأصولي
لقد تأسس الغناء العربيّ الأصوليّ على هذا الإيقاع التجويديّ، الذي لا يمدّ الفتحة أكثر من طولها، ولا يقصّر الألف دون مداها الزمني. ولا يمكن لنشوء عبده الحامولي وسلامة حجازي وسيّد درويش ومحمّد القصبجي وزكريّا أحمد ومحمّد عبد الوهاب ورياض السنباطي وأم كلثوم وأحمد أبي خليل القبّاني والشيخ علي الدرويش، في حضن مدرسة تجويد القرآن الكريم، إلا أن يؤكّد هذه العلاقة الوثيقة بين أصول الغناء العربيّ الجاد، وأصول تجويد الكلمة العربيّة. إن هذا التكوين الإيقاعيّ في الكلمة العربيّة مؤسَّس على ذَرّتين اثنتين، هما: الفتحة والسكون. فالفتحة هي «الذَرّة» القصيرة، والسكون هو «الذَرّة» الطويلة. ويُعَدّ بحر الشعر الذي استخلصه الفراهيدي من تراث الشعر العربيّ تنظيمًا مُحكَمًا تتوالى فيه الفتحات والسكونات، في ترتيب محسوب.

فماذا نجد بالمقابل في أبْحُر الشعر الأوربيّ؟
كان الشعر الفرنسيّ مثلًا قبل ظهور الشعر الأوربيّ الحديث وانهيار نظام الأبحر التي كانت معروفة ومتداوَلة في العصر الكلاسيكيّ في القرن السابع عشر يقوم على عدد من الأوزان، هي: السداسي hexasyllabe، والثُماني octosyllabe، والعُشاري decasyllabe، والإثنا عشري alexandrin. هذه الأبحر الأربعة مكوّنة من عدد من «الذرّات» يختلف من بحر إلى بحر. أما «الذرّات» (syllables)، فزمنُها متساوٍ، ولا تختلف الأبحر أحدها عن الآخر إلا بعدد هذه الذرّات لذا نقول إن المبدأ هنا أحاديّ في أصل تكوّن الشعر الأوربيّ، فإذا أردنا أن نبدّل بحر الشعر فما علينا إلّا أن نبدّل عدد الذرّات الأساسية التي تكوّنه.
في الشعر العربيّ لا تكفي معرفة عدد الفتحات والسكونات لنعرف أي بحر من بحور الشعر نسمع، لأن ترتيب هذه الذرّات في نظامها المحسوب بدقّة هو الذي يُنشئ هذا البحر لا ذاك. وقد جعلت ثنائيّة الذرّات المكوِّنة للبحور مجال تنوُّع هذه البحور في الشعر العربيّ، أغنى بكثير من مجال تنوّع أبحر الشعر الأوربيّ التي لا تتنوّع إلا بالعدد، لا بالترتيب.
ب‌- المقامات العربيّة: 
لا تقتصر ثنائيّة المبدأ في الموسيقى العربيّة وأحاديّة المبدأ في الموسيقى الأوربيّة، على تكوين بحور الشعر، الذي تستند إليه الموسيقى الغنائية فقط، بل إن هذه الميزة العربيّة تصحّ أيضًا في المقامات العربيّة، ذلك أن السلّم الموسيقيّ الأوربي المعتمَد في النظام الهرموني صار مبنيًا منذ تعديل نايد هارت السُّلَّم الموسيقيّ الأوربيّ سنة1706، على أساس نصف الطنين، فالديوان الكامل الممتد من قرار الدرجة الموسيقيّة إلى جوابها، أي إلى ضِعفِ تردّد ذبذباتها، مقسّم إلى اثني عشر فاصلًا، وكل فاصل نصف طنين. في هذا السلّم الموسيقيّ المعدَّل، الذي أتاح للأوربيّين مجال التطوير الهرموني والتصوير الحرّ من درجة إلى درجة، (أي نقل اللحن نفسه من درجة الدو مثلًا إلى درجة أخرى) تتساوى الأبعاد الموسيقيّة تساويًا مطلقًا، من الناحية الفيزيائيّة. ويجعل هذا التعديل الموسيقى الأوربيّة الكلاسيكية المستندة أساسًا إلى النظام الهرموني، أحاديّة الذرّة الأولية، فالذرّة الوحيدة في هذا التكوين هي نصف الطنين.
أما الموسيقى العربيّة، فهي أولًا غير معدَّلة السلّم الموسيقيّ، أي إن الأبعاد فيها بين درجات السلّم الموسيقيّ غير متساوية، وهي ثانيًا لا تعتمد أحاديّة البُعد الموسيقيّ، لأن الأبعاد بين درجات السلّم أنصاف طنين في أحيان، وثلاثة أرباع طنين أحيانًا أخرى. ولما كان المقام في الإجمال هو توليفة من سبع درجات مختارة، بين القرار والجواب، تفصل بينها أبعاد، صار لزامًا في الموسيقى الأوربيّة أن تكون هذه الأبعاد أضعاف نصف الطنين. لكن مجال التنوّع في الموسيقى العربيّة أرحب وأغنى بكثير، لأن مجال تكوين توليفات مختلفة ومتنوّعة يصبح أوسع وأغنى بكثير حين تكون الذرّات الأساسية لتكوين هذه المقامات على نوعين: نصف الطنين وثلاثة أرباع الطنين، بدلًا من نوع واحد، هو نصف الطنين.
وإذا قال معترض: إن نصف الطنين وثلاثة أرباع الطنين غير معدّلة في الموسيقى العربيّة تعديلًا فيزيائيًا دقيقًا، فإن هذا الاعتراض يدعم ولا يُضعف القول برحابة الاحتمالات وتنوّعها بسبب ثنائيّة المبدأ، لا أحاديّته.
ج- إيقاع الجملة الموسيقيّة:
للسبب ذاته تفتح ثنائيّة الذرّة الأولية أمام إيقاع الجملة الموسيقيّة في الموسيقى العربيّة مجالًا رحبًا وثريًا للتنوّع، فيما تقتصر مكوّنات الإيقاع الأوربيّ الأولية على ذرّة وحيدة،  ذلك أن الإيقاع في الجملة الموسيقيّة الأوربيّة مبنيّ على أساس توزيع محسوب للضربة الإيقاعيّة. لكن الضربات الإيقاعيّة هذه لاتختلف إحداها عن الأخرى في المبدأ، ولا يختلف فيها إلا قوّتها، وآلات ضربها، وتوزّعها على المسافة الزمنية فقط.
أما في إيقاعات الموسيقى العربيّة، فالذرّات الأولية صنفان، الدُمّ والتَكّ. ولا يكفي لمعرفة الإيقاع الموسيقيّ العربيّ، أن نعرف عدد ضربات الإيقاع وتواترها على المسافة الزمنية المطلوبة، بل إن نظام توالي الذرّات المختلفة، الدمّ والتكّ، يستطيع أن ينقلنا من إيقاع إلى آخر حتى لو كان التواتر الزمني واحدًا.
وتتيح ثنائيّة ضربة الإيقاع هذه المرة أيضًا مجالًا أرحب كثيرًا لتنوّع الإيقاعات، من المجال الذي تتيحه أحاديّة الضربة الإيقاعية في الموسيقى الأوربيّة.
د- مخارج الحروف وترخيمها: 
ويكتمل هذا المنطق المبني على ثنائيّة الذرّة الأولية حين نلاحظ في الحروف المقروءة، وكذلك بالطبع المغنّاة، صفتي الاستِفال والاستِعلاء، اللتين يسمّيهما عامّة الناس: الترقيق والتفخيم. فالسين مرقّقة، والصاد مفخّمة، والدال مرقّقة والضاد مفخّمة، وهكذا.
في اللغة العربيّة ثمانية أحرف تُستَعلَى (أي تُفَخَّم)، وهي الغين والخاء والقاف والراء والصاد والضاد والطاء والظاء، في حالات يدرسها طلاب علم التجويد. كذلك تُفَخَّم اللام في لفظ الجلالة: الله، حين لا تسبقه لفظة كسرٍ مجهور.
أما اللغات الأوربيّة فتتباين في هذه المسألة، ففي اللغة الإنجليزية مثلًا مواضع تُفَخَّم فيها أحرف، وهي نفسها تُرَقَّق في مواضع أخرى، مثل حرف B في كلمتي ball وbat. ولا تحفَل اللغة الفرنسية كثيرًا بحالات تفخيم الأحرف. لكن لا نعلم لغة في أوربا تخصّ حرفًا ما بالتفخيم في كل حالاته بالثبات الذي نجده في اللغة العربيّة. ويوفّر الاستِفال والاستِعلاء للغناء العربيّ، إيقاعًا آخر لفظيًا في هذه الحال، يضيف عنصرًا رابعًا إلى التوليفة الموسيقيّة الغنائية العربيّة، على نحو يجعلها شديدة الغنى بالاحتمالات.
الخلاصة: ليس مغزى ما سبق أن المخزون الموسيقيّ العربيّ أغنى فعلًا من المخزون الأوربيّ، بل المقصود أن احتمالات التنوّع والغنى أوفر بكثير، بفضل مبدأ ثنائيّة الذرّة الأولى، فهل استثمر العرب استثمارًا كافيًا فعلًا هذه الاحتمالات المتاحة، أم إنهم لم يفعلوا؟ تلك مسألة أخرى ■