«التلعيب» صناعة الحاضر والمستقبل

 «التلعيب»  صناعة الحاضر والمستقبل

يعرف مصطلح التلعيب -Gamification- بالحرفة التي تعمل على جلب عناصر التحفيز والمرح والمشاركة الموجودة في الألعاب، وتطبيقها على أنشطة العالم الواقعي في مختلف المجالات، وذلك باستخدام تصاميم تركز على الإنسان فتعظم دافعيته وتخاطب مشاعره وطموحاته وتفكيره وجميع جوانبه. ومع زحف الألعاب بنجاح من عالم الخيال إلى الواقع يتوقع الخبراء تزايد تأثيرها على سلوكيات البشر في الحاضر والمستقبل، وتحول التلعيب إلى صناعة تقدر بمليارات الدولارات؛ حيث يمكن أن يسهم التلعيب في غرس سلوكيات إيجابية، كممارسة الرياضة، ويساعد على إتمام الأعمال المنزلية اليومية وقائمة الواجبات بسهولة، كما يمكن أن يشجع على التقليل من استهلاك الكهرباء عبر تطبيقات تلعيب محفزة.

 

في كتابه «لعبة العمل»، استكشف تشارلز كونرادت - منذ الثمانينيات الماضية - أهمية إضافة عناصر اللعب في العمل. وحاول الرد على سؤال: لماذا يهتم الناس بممارسة رياضة أو هواية أكثر من اهتمامهم بالعمل، رغم حصولهم على أجر؟ وتبين وجود بعض العناصر المهمة في الألعاب ما يجعلها أكثر جاذبية. ومن هذه العناصر: الأهداف المحددة، ونظام منح النقاط، والتغذية المرتدة المستمرة، وتوافر مدى من الخيارات الشخصية لطرق أداء المهمة، إضافة إلى التدريب المتسق. 
وفي وقت لاحق وضع رائد التلعيب يوكاي تشو إطار عمل ثماني التحليل ترجم إلى أربع عشرة لغة، وأصبح موضوعًا للأحاديث العامة والتدريس والاستشارات، فحسبما يرى تشو. الذي شغف بألعاب الفيديو منذ طفولته، وألف كتابًا بعنوان «التلعيب القابل للتفعيل»، أنه لابد من وجود لعبة ما كلما لعبها المرء أصبح أقوى وأفضل في الحياة الواقعية. 
وفي رأيه أن في لعبة الحياة التي نلعبها جميعًا، ونترقى على مدرج مستوياتها باكتساب الخبرة، ما يكفي للاستغناء عن ألعاب الفيديو، لا سيما إذا نجحنا في جذب الأصدقاء. ويؤكد على موقعه الإلكتروني https://yukaichou.com/أن كل لاعب يبدأ الحياة بوضع ما وقدرات ما، ثم يصبح بإمكانه اختيار كيف يكتسب الخبرة، وكيف يتقدم ويكشف عن إمكاناته. وفي مسيرته ما يشير إلى ذلك، حيث اكتسب تشو خبرات عندما كان طالبًا في الجامعة من العلوم التي درسها ومن الأساتذة والأصدقاء، ثم اختار أن يؤسس شركته الخاصة ليكتسب خبرات أخرى من بناء فريق العمل وإدارة الأشخاص وتوفير التمويل وتقديم المنتجات. وقاده اكتشافه أسرار التلعيب إلى العمل مع شركات عالمية شهيرة، والحصول على جوائز عديدة من مؤتمر التلعيب العالمي، ومؤتمر التلعيب الأوربي، وأصبحت مهمته مساعدة اللاعبين - الأشخاص حول العالم - للوصول إلى أقصى إمكانياتهم في الحياة، واصفًا التلعيب بمفتاح التوقف عن التسويف، ومعرفة الدور الحقيقي في الحياة والفعل.  وابتدع رحلة تعليم ملعب يمكن اللاعب من تحديد دوره وقدراته ويكتسب خبرات من الفيديوهات التعليمية والتوجيه الذي يقدمه؛ وينمو ويتطور ويلتقي لاعبين آخرين متحمسين؛ وينجز هدفه في الحياة، وراح يقدم تدريبات مجانية على التلعيب.

عناصر جاذبية اللعب الثمانية
أما عناصر جاذبية اللعب الثمانية التي حللها يو كاي تشو في إطار العمل الذي قدمه، والتي لا دافعية ولا فعل من دونها، فهي كالتالي: 
1- وجود معنى ملحمي و/ أو نداء: عندما يعتقد الشخص أنه يقوم بمهمة أكبر منه، أو يشعر بأنه مختار لدور ما، فيكرس نفسه للمساهمة في مشروعات خيرية، أو بحثية، مثلًا، ويعتقد أنه مختار لخدمة الناس، أو تطوير معرفة أو عندما يشعر شخص بأنه موهوب وعليه استثمار موهبته لخدمة البشرية، من دون انتظار تقدير مادي أو معنوي. 
2- التطور والإنجاز، وهو الدافع الباطني لإحداث التقدم وتطوير المهارات وبلوغ الاتقان والتمكن، وتخطي التحديات التي تعد مهمة جدًا، ومن دونها لا معنى لشيء على الإطلاق، فالشارات والنقاط وحدها لا تكفي دون التحديات. 
3- التمكين من الإبداع والتغذية المرتدة، أي أن يشترك اللاعب في عملية إبداع، ويتعلم أشياء جديدة، ويجرب طرق ومكوّنات مختلفة، مع وجود تغذية مرتدة مستمرة ومعرفة نتائج عمله، وهو ما يجعل الفنون ممتعة. 
4- الملكية، والتمكن من السيطرة: حيث يشعر اللاعب بالرغبة في المزيد، كمراكمة الثروة والمكاسب الافتراضية، أو السيطرة على العملية، أو المشروع، أو المنظمة.
5- التأثير الاجتماعي والعلاقات:  يتضمن عناصر اجتماعية تحقق القبول وتجذب الصحبة والمنافسة والإلهام. 
6- الندرة، وقلة الصبر، التي تشكل دافعًا لامتلاك الشيء لمجرّد كونه نادرًا واستثنائيًا وصعب المنال، أحيانًا كثيرة عدم قدرتنا على الوصول إلى الشيء تجعلنا نفكر فيه طوال الوقت ونعود إليه عندما تسنح الفرصة. 
7- غياب قابلية التوقع، والفضول:  وهو دافع للاستمرار في المشاركة والتوق إلى معرفة
ما سيحدث تاليًا، وهو ما ينشط الدماغ ويزيد من التيقظ والانتباه. 
8- الخسارة، والتجنب، وهو دافع تجنب الخسارة في العمل أو في عروض الخصم لفترة محدودة، حيث يعرف الشخص أنه إذا لم يتصرف بسرعة سيخسر. 
وإلى جانب العناصر السابقة التي يمثل بعضها جانبًا إيجابيًا - دافعية البحث عن المعنى، والإبداع، والشعور بالنجاح - وبعضها الآخر سلبي - دافعية بطعم الخوف والخسارة - هناك عنصر تاسع خفي يمثل المتعة المادية الناتجة من حواس السمع والبصر، واللمس والتذوق، وغير ذلك مما يمكن استشعاره أثناء اللعب.

التلعيب في التعليم   
وفقًا دراسة لأستاذين من جامعة كولومبيا - جوي لي، وجيسيكا هامر- يمكن اعتماد التلعيب كحل لمواجهة مشكلات المدارس المتعلقة بتحفيز الطلاب ومشاركتهم، وذلك بدمج عناصر الألعاب السابقة في مواقف تعليمية بشرط فهم معنى «التلعيب» وتقييم منافعه ومشكلاته وإمكاناته. 
يرى الباحثان أن في المدارس بضعة عناصر تشبه اللعب بالفعل، حيث يحصل الطلاب على نقاط لإنهاء الواجبات بصورة صحيحة، تترجم إلى درجات، ويكافأون على السلوكيات المرغوبة، ويعاقبون على السلوكيات غير المرغوبة، ويرقون من مستوى لآخر أعلى، مما يشير إلى وجود خبرات تلعيب، لكن فيما يبدو هناك خطأ ما يفسد بيئة اللعب ويقوض مشاركة الطلاب ويؤدي إلى مخرجات غير مقبولة كالتسرب والشعور بقلة الحيلة. 
ويؤكد الباحثان قدرة التلعيب على تغيير القواعد الرسمية، والتأثير على خبرات الطلاب العاطفية، وعلى شعورهم بالهوية؛ حيث تتيح مشروعات «التلعيب» فرصًا للتعايش مع القوانين، والمشاعر، ولعب الأدوار الاجتماعية، فمن خلال عبارات مثل «اقرأ كتابًا اختياريًا من المكتبة حول موضع درس اليوم، واحصل على نقاط». أو
«لا تتغيّب، وانجز واجباتك في الوقت المحدد لمدة شهر، واحصل على شارة تمييز»، يمكن تنمية الطلاب وتحفيزهم بشكل أعمق، وفهم الأنشطة المدرسية بصورة جديدة. 
وأشارا إلى تطبيق التلعيب بدرجات متفاوتة المدى تتراوح بين مستوى المدرسين الأفراد الذين يقومون بتلعيب الحصص، ويقيمون طلابهم عبر جمع النقاط وتحويل الواجبات إلى طلبات أو أسئلة وتلعيب نظام التعليم في المدرسة كلها بدمج عناصر اللعب في المناهج والأنشطة، وتوفير أدوات وحقائب تعليمية مصممة لحل المشكلات القائمة، مع توافر تقييم لمدى ملاءمتها، وخطط للتطوير المستمر.

التلعيب أنواع 
يتنوع التلعيب وفقًا للأهداف - كما ترى الدراسة - حيث توفر الألعاب المعرفية نظمًا معقدة لاستخدام اللاعبين للاستكشاف من خلال خبرات نشطة كألعاب الهواتف المحمولة التي تقود اللاعب خطوة خطوة وتنقله من مرحلة إلى أخرى متدرجة الصعوبة عبر عملية مثيرة للفضول والحماس، فيقوم بمهمات، ويواجه صعوبات محتملة على الطريق، ويطور من مهاراته، ليتمكن من الصعود إلى مستوى لاحق. كما توفر أكثر من طريق للنجاح، ما يسمح للطالب باختيار طريقه، وتخطي مشكلة المدارس المتمثلة في تلقي الطالب أوامر ما ينبغي عليه عمله دون فهم الفوائد الأكبر للعمل.  وهكذا، يمكن للتلعيب أن يساعد الطلاب على الإجابة عن سؤال: ما الخطوة التالية إذا كنت أريد التفوق في المدرسة؟ ويسند للطالب مهمات أوضح، وأكثر قابلية للتنفيذ، مع وعود محددة بالمكافآت الفورية، بدلًا من المنافع الضبابية بعيدة المدى. 
من جانب آخر، توجد ألعاب عاطفية تتضمن مدى من العواطف القوية من فضول وإحباط وفرح وخبرات إيجابية عديدة كالتفاؤل، وتساعد اللاعبين على التحول من العواطف السلبية إلى الإيجابية عبر خبرات انفعالية، فيمكن معالجة قضية مثل الفشل من خلال لعبة تتضمن تجريبًا متكررًا، وفشلًا متكررًا، يعرف من خلالها اللاعب أن الفشل هو الطريقة الوحيدة للتعلم في كثير من الأحيان.  وهكذا، يكوّن الطالب علاقة إيجابية مع الفشل، فيقدم على المحاولة من دون قلق أو خوف من الفشل، ويتمتع بالمرونة وفرص تقييم قدرات، ويرى في الفشل فرصة. 
أما الألعاب الاجتماعية فتسمح للاعبين بتجريب هويات وأدوار جديدة تتيح لهم فرصًا لاتخاذ قرارات، فيمكن أن يلعب الطلاب أدوارًا يتمنون لعبها في الحياة، ويستكشفون أنفسهم من خلالها بصورة آمنة، كأن يصبح الطالب الخجول قائد معركة، ويستمر في التعلم والتطور، ويحصل على اعتراف اجتماعي يؤكد إنجازه.
ورغم ميزات التلعيب في جعل التعليم خبرة سارة، يحذر الباحثان من بعض التحديات مثل استنزاف التلعيب موارد المعلم، وتعود الطلاب على التعلم بوجود مكافآت خارجية. وينبهان إلى ضرورة توافر حريات، مثل حرية التجريب، وحرية الفشل، وحرية استكشاف هوايات متعددة، ما قد يعني أن نجاح التلعيب ليس مضمونًا دائمًا، ويحتاج إلى مزيد من الدراسات التي تخاطب تحدياته ■