في بيتنا... ألزهايمر

في بيتنا... ألزهايمر

إن التمعّن طويلًا في وجه قد ألفته وعرفته جيدًا لتستحضر اسمه الذي غاب فجأة عن بالك أمر يحدث، ومرور ذكرى يوم ميلاد عزيز أو مناسبة سعيدة لأحدهم دون احتفال أو تهنئة أمر وارد، وأن تعجز عن استحضار كلمات أغنية لطالما كنت ترددها لأنها المفضلة لديك هو أمر طبيعي، أن تضل في طريق اعتدت أن تسلكه لنسيانك مدخلًا أو مخرجًا يفترض أن تلج به حدثًا يتكرر بين فترة وأخرى، ومواقف أخرى كثيرة يكون فيها النسيان هو المتسيد والمتسبب، وذلك أمر مبرر وطبيعي وسط مشاغل الحياة وتعقيداتها، أمر لم يفلت منه صغير سن يكاد يخلو من المسؤوليات التي على عاتقه، ولا كبير سن قادر على تحديد مهامه اليومية وترتيب أولوياته. 

 

النسيان نعمة، هكذا قيل لنا، وهذا ما أكدته لنا الأيام، فكم من موعد نسيته أنجاك من حادث أليم، وكم من شيء نسيته قادك إلى علاقة جميلة ولقاء ثري، وكم من موقف نسيته حقق لك سلامًا نفسيًا وساعدك على إكمال الحياة. النسيان نعمة والقدرة على التناسي نعمة أيضًا، فالقدرة على إسقاط كل الأحداث المؤلمة والذكريات المريرة من الذاكرة مهارة عظيمة لا يتقنها الكثيرون، وحين تملكها ستنعم بالحياة الهانئة التي تكون فيها أنت المسيطر على ذاتك، وأنت وحدك من يدخل الفرح أو الحزن إلى نفسك. 

بين النسيان والخرف 
في أكثر البيوت عادة ما يظهر دور مهم وحيوي لكبار السن كالجد والجدة ممن تجاوزوا الستين عامًا، فأولئك يحتفظون بروتين يومي صاحبهم لعقود، كوقت الاستيقاظ من النوم، موعد تناول الأدوية، الالتزام بمواعيد الزيارات العائلية، وغيرها من العادات.
المتعايش مع كبار السن والمراقب لهم، وبمرور الزمن تظهر عليهم علامات مرحلة الشيخوخة ومنها الخرف، فيلاحظ نسيانهم أسماء أبنائهم، وضع الأشياء بغير أماكنها، العجز عن إتمام المهام وغيرها من الأمور.  تلك الأعراض تتضح عند معظم كبار السن مع تقدمهم بالعمر وقد لا تستدعي تشخيصًا طبيًا إن لم تصاحبها أمراض جسدية، وطبيب العائلة قادر على وصف تلك الحالة بأنها مصاحبة للكبر ومرحلة الشيخوخة. وفي مجتمعاتنا العربية عادة ما نحتضن كبار السن بإبقائهم في الأجواء العائلية ومنحهم الاهتمام والرعاية الأسرية والطبية من خلال الفحوصات الدورية لأمراضهم المزمنة إن وجدت.
 لكن ماذا لو ظهرت تلك الأعراض لمن هم دون الستين عامًا؟ ماذا لو تعنتت المعلومات البسيطة في الحضور بذاكرة الآباء والأمهات؟ وماذا لو تمكن النسيان منها لدرجة أن تجهل وجوهًا ألفتها؟ ماذا لو شعروا بالغربة في البيت الذي قضوا فيه سنوات العمر؟ ماذا لو غاب كل الحضور عن ذاكرتهم، وحضر كل مَن غاب عنها؟ ماذا لو علت أصواتهم بالنداء لهم؟ ماذا لو أصبح خروجهم من المنزل ضياعًا وبقاؤهم فيه متاهة لا خروج منها؟ ماذا لو لزم خروجهم وجود ولي عليهم يرعاهم ويتولى أمورهم؟!

مرض وليس أمرًا عاديًا
(إنه مرض غريب يصيب قشرة الدماغ) هكذا وصف الطبيب الألماني الويس ألزهايمر عام 1906 أعراض مرض كان مبهمًا ومجهولًا، وقد أمضى ذلك الطبيب المختص بالأمراض الدماغية سنوات طويلة في البحث والدراسة للتعرف على أعراض مرض لم يعلم يومًا أنه سوف يحمل اسمه (ألزهايمر). 
ألزهايمر مرض عصبي ضموري يدمر خلايا الدماغ السليمة بشكل بطيء وتدريجي، وهو السبب الأكثر شيوعًا للخرف، له تأثير مباشر على الذاكرة والوظائف المعرفية، يعرض المصاب به إلى تقلب المزاج وارتباك في تحديد ومعرفة الزمان والمكان. إنه مرض يصيب الدماغ بلا شك، ما يؤثر وبشكل مباشر وكبير على الوظائف العقلية للإنسان، وقد يتطور ليفقد الإنسان ذاكرته تمامًا ويقلص قدرته على التركيز والتعلم. ولا عجب أنه يجعل المصاب به عصبيًا ومهلوسًا ومجنونًا أحيانًا. 
ألزهايمر ليس مرحلة طبيعية من مراحل الشيخوخة، لكن احتمال الإصابة به يتزايد مع التقدم بالعمر ويظهر بسن الـ 65، في المقابل يمكن الإصابة به وظهور أعراضه قبل ذلك بكثير، ويقال بأن من 5  إلى 6 في المئة من الأشخاص المصابين بألزهايمر ظهرت أعراضه عليهم قبل سن الـ  65، بل يشعر أولئك بأعراضه عندما تتراوح أعمارهم بين 30 و60 عامًا لعلاقته بعدة عوامل أثبتتها دراسات مختلفة مثل العوامل الوراثية، نمط الحياة، المستوى التعليمي والثقافي، إصابات الرأس وعوامل أخرى، بمعنى أن هناك ما يسمى بألزهايمر المبكر الذي يصيب الأشخاص في سن الثلاثين، أو الأربعين والخمسين. 
وبعيدًا عن مسبباته وأعراضه فإن ما يجعل ذلك المرض أمرًا باعث للكآبة واليأس عند المصاب به ومن حوله، إنه لا يوجد علاج يصلح ضرر الدماغ ويرجع وظائف المخ الإدراكية والعقلية سليمة كما كانت بالسابق، حيث إن كل الأدوية التي تعطى للمصاب تعمل على إبطاء الضرر وتأخير التلف الكامل لخلايا الدماغ. ويعد عقار ليكيمبي من أهم العلاجات الفعالة التي اعتمدت من هيئة الغذاء والدواء الأمريكية ويظل مفعوله يقتصر على إبطاء التدهور المعرفي للمرض في مراحله الأولى. 

ألزهايمر بعين المحب 
لا تزال الأبحاث العلمية والدراسات الطبية والتجارب السريرية قائمة ومستمرة لإيجاد علاج لذلك المرض اللعين، الذي ينهش بجسد المصاب به حتى يقضي عليه عضويًا وفكريًا. وعلى الرغم من معاناة مريض ألزهايمر فإن معاناة من هم حوله أشد وأكبر، لاعتبار أن تدهور الحالة العقلية لفرد في الأسرة بمكانة الأب أو الأم يعني فقده الدور الرئيسي المهم وغياب صورته الأسرية والاجتماعية النمطية، وبالتالي تلاشي المهام التي كانت دومًا على عاتقه وسعى إلى إتمامها، وانعدام المسؤوليات التي لطالما تحملها وحرص على القيام بها على أكمل وجه. هذا بالإضافة إلى أن شخصية المصاب بالمرض قد تكون مختلفة تمامًا عمّا كانت عليه من قبل الإصابة، فمنهم مَن يصبح أكثر هدوءًا ومنهم من يصبح أكثر غضبًا وانفعالًا، وبالتالي فإن استعداد من حوله لهذا التغيير الشديد في شخصيته ليس بالشيء الهيّن، لكونه يعني بناء علاقة جديدة مع الشخص نفسه الذي عاش معه سنوات طويلة.  إن الوقت بالنسبة لذوي المصاب عامل قلق وتوتّر، فهم يخشونه لأنه العامل الذي على أساسه تراقب حالة المصاب ويعني انتقاله من مرحلة إلى أخرى، في حين أن إدراكهم له من منطلق أنه كلما تقبّلوا المرض وحالة المريض بسرعة عمت الراحة نفس المصاب ونفوسهم.
والحقيقة التي لم تبحث ولم يتم التحقق منها بدراسة أو بحث هي أن ألزهايمر مرض لعين يضع المصاب به في متاهات لا خروج منها كما يضع محبيه بحزن لا يليه فرح إلا بالتقبل والتعايش. 
إن حداثة المرض نسبيًا وعدم وجود علاج نهائي يقضي عليه أو يوقفه - لا تزال كل العقاقير تحت التجربة ولم يدرج ولم يعتمد أيّا منها كعلاج نهائي - تجعل طرق التعايش مع المصاب به تأخذ من أصحاب التجربة الذين كرّسوا ساعات يومهم لرعاية مصاب بألزهايمر، ومن هذه الطرق:
- التقبل: إن لحظة تشخيص قريب لك بألزهايمر من قبل الطبيب المختص تتطلب القبول التام والكامل من كل أفراد الأسرة. والحديث عن التقبّل قد يسهل قوله إلا أنه يصعب تنفيذه على أرض الواقع، وبالتالي، فإن قضاء وقت مع المصاب ورؤيته عاجزًا عن أداء بعض الوظائف الإدراكية ولا مبالي في بعض تصرفاته وألفاظه يومًا تلو يومًا كل هذا يفرض على من حوله القبول به كما هو. 
- المشاركة: إن المصاب بألزهايمر في مراحل عديدة، بمعنى أن تدهور حالته لا يحدث فجأة، وعليه فإن النسيان وبعض الأعراض الأخرى تكون متفاوتة من مرحلة إلى أخرى، وإشراكه ببعض الأحاديث (حلو الطقس مثلًا)، أو خلق الحوارات معه كأخذ رأيه في طعام يقدم إليه أمر جيد، هذا بالإضافة إلى أخذه لممارسة بعض الأنشطة كالمشي بالحدائق ومخالطة الناس ورؤية الأطفال. 
- البيئة الآمنة: يحرص ذوو المصاب دومًا على خلق مكان آمن يتيح له الحركة والعيش بسهولة ويسر، بمعنى إزاحة قطع الأثاث التي تعرقل سيره كالأسلاك الكهربائية وقطع السجاد، وحفظ الأدوية ومواد التنظيف والأدوات الحادة كالإبر والسكاكين بعيدًا عنه. كما يفضل مراقبة مياه السخان المستخدمة في الحمام والمطبخ لتجنب الحروق التي قد يتعرض لها بسببها. 

نعمة أم نقمة 
يقولون (سبحان مَن وهب الإنسان نعمة النسيان)، لكن هل النسيان عند مريض ألزهايمر نعمة؟ إنه من المحزن أن يلتقي بك صديق دراسة بعد سنوات عديدة وهو لا يذكر اسمك، فكيف إن كان أمًا أو أبًا، زوجًا أو زوجة، أخًا أو أختًا؟ كيف إن كنت تحتاج إلى بناء علاقة جديدة معه تكون أنت فيها المسؤول عنه مهما كانت علاقتك به؟ إنه أمر صعب لا محالة ويتطلب جهدًا كبيرًا وقبولًا أكبر. ولأن الخير يكمن بالشر فإنه من الجيد أن يسهم ذلك المرض اللعين في محو أشياء لا يمكن للإنسان الطبيعي نسيانها وتناسيها مثل عقوق ابن، ظلم أخ، خيانة صديق... ولا عجب أن يكون في ذلك المرض رحمة تبعد مريض ألزهايمر عمّا يكدر صفوه ويعكر مزاجه! أما عن تسبّبه في الموت، فقد قال الأجداد (المرض لا يميت أحد، دنو الأجل هو الذي يميت فقط) ■