شعرية الظن وبلاغة التضاد في ديوان «فتنة غياب»

 شعرية الظن وبلاغة التضاد في ديوان «فتنة غياب»

لطيفة المسكيني واحدة من الشواعر المغربيات المُقِلات نسبيًا بالكتابة والنشر، في المشهد الشعري المغربي والعربي على حد سواء، لكنها أيضًا واحدة من العميقات القليلات في المشهد نفسه، لغةً وفكرًا ورؤيةً وطريقةً في الاشتغال على القصيدة، إذ لا يمكن للذائقة الشعرية أن تخطئ لغتَها ورؤيتَها وبصمتها الخاصة في الكتابة. تكاد تكون «لطيفة» واحدة من أهم متصوفات الشعر المغربي والعربي، عِرفانية، متفردة في تجربة الكتابة وصياغتها للصورة والحالة الشعريتين، أو بالأحرى في سفرتها وتطوافها الشعري، إلى جانب القليل من الشواعر المغربيات والعربيات الأخريات، في ما تخطه يدها المضيئة والمسكونة بالحروف والضوء والعناصر والأصوات والتجليات والحالات والصور الشعرية الشاهقة التي تقود قارئها (غير العادي طبعًا)، عبر مراتب التجليات الصوفية، إلى الباطن ووهاد المعنى والظن وبلاغة التضاد واللايقين، هو الذي يتحول في رحلة القصيدة والرؤيا إلى يقين شعري وفكري ومعرفي في آخر المطاف.

 

ـــ 1 ـــ
هكذا تكون قصيدة لطيفة المسكيني قصيدة عرفانية، رؤيوية، مثقفة ومكثفة بامتياز، غنية بـ«الكالسيوم الشعري» الذي يشكو من غيابه الكثير من الشعر في أيامنا هذه، ويفضي به إلى نوع من «هشاشة عظام» اللغة الشعرية إن صح القول، تتعرى اللغة بين يديها بشكل مذهل ومحترف، ويستقيل المعنى من معناه ومن ماهيته ووظيفته التقليدية في القصيدة، محمّلة حروفها وكلماتها القليلة في القصائد بالكثير من الفكر والحفر والغوص عميقًا في جسد اللغة والصورة والاستعارة والمعنى، لغتُها الشعرية، قاموسًا ودلالةً، خالية من البهرجة والضجيج اللغوي، تضع «لطيفة» يدها على اللغة فتتحول إلى إبريز، شاعرةُ عميقة في بساطتها، قريبة في بعدها، قصيّة الإدراك في قربها، حاضرة في غيابها، مشتعلة ومتوقدة في انطفائها وخمودها، غريبة في ألفتها، وأليفة في غربة القصيدة كأنها طيف نوراني يمر أمامك أو بجانبك ويسحب معه روحك وفكرك إلى الأبد. 
بالمعنى نفسه، وبالحالات والأدوات (اللغة والرؤية للعالَم) نفسها التي يمتلكها المشّاؤون والحفارون والغوّاصون المحترفون البحث والتنقيب عن الدُّرر والنفائس والأشياء الثمينة، تكون لطيفة المسكيني شاعرة تستحق كل هذه الألقاب والصفات بامتياز: متعددة في تفردها، غير  مُدّعية في قصيدتها على الإطلاق، بعيدة كل البعد عن كل أشكال التكلف والمهادنة و«نعومة أظافر» اللغة و«نرجسية» الذات في الكتابة، هي الخصائص أو التوابل التي غالبًا ما تلجأ إليها بعض الشواعر لدغدغة أحاسيس القارئ والمتلقي وكسب تعاطفه، من خلال نوع من البوح الأنثوي الذي قد يتحول في الكثير من حالات الكتابة إلى ضعف وهشاشة غير مبررين، لغتها قد تبدو محايدة إلى أقصى حد، لكنها داخل هذا النوع من «الحياد» تمارس «نرجسيتها» الجميلة والدالة بشكل غيريّ وبالكثير من «التعالي» اللغوي والرؤيوي والاحترافية والعمق والانفتاح على العالَم، نفْس «النرجسية» الذائبة أو المنصهرة في الذوات الأخرى، التي جهر بها أهل الصوفية وأهل الشعر في أكثر من مرتبة ومقام: مِنَ «الحلاج» إلى «العابريْن الهائليْن» بـ «نعال من ريح»: «رامبو» و«درويش»... ألَم يقل الهائل محمود درويش، وبصيغة الأمر كذلك في إحدى قصائده: «كن نرجسيا إذا لزم الأمر». 
إنها الذات الشاعرة المتشبعة بالتعاليم، تعاليم الرؤى والنصوص الشاهقة على وجه التحديد، حيث البارقة الشعرية عند لطيفة المسكيني تتغذى بالحكمة وبضوء تجلياتها وباختزال مربِك للغة والمعنى، كأنها تقذف في وجه العارفين وغير العارفين من قُرّائها بتعاليمها الخاصة، مُعلِنة تَحَقُّق العدم واقتراب نهاية النهايات:
«إلى الأبعَد / قُدّتِ النّعالُ / ما هُنا باقٍ». (الديوان)
 تحفل جُل قصائد لطيفة أيضًا بالكثير من أفعال وصيغ الأمر: «كِلْني»، «حلّقْ»، «خُطّي»، «اتركي»، «ترفّقْ»، «قفْ»، «جرّدْ»، «نهنهْ»، «اسقنيها»، «امْحُ»، «شيّعْ»، «صَرّفْ»، «صَيّرْ»، «جَمّعْ»، «اُركُضْ»، «دعْ»، «تنحَّ»، «خُذي»، «اسمُدي»، «انتظريني»، والبقية تأتي، يؤسسها ويؤالف بين عناصرها، في تضاعيف القصيدة، هذا التناوب المذهل بين الوهم والظن والأضداد (وهْمُ الوجود، وهْمُ اللغة، وهْمُ اللحظة، وهْمُ الرؤية، ثم وهْمُ القصيدة والكتابة نفسها، حين تُكال إلى «شعرية الغموض» أو إلى «شعرية الظن» أو إلى «بلاغة التضاد» أو حتى إلى «طالع الغيب». 
لا تتحدث لطيفة كثيرًا عن ذاتها من خلال الضمائر (ضمير المتكلم) وبشكل مباشر، بل تُغيّب عنوة هذه الذات، بين الحقيقة والوهم (إذا كانت هناك من حقيقة أصلًا؟)، بين اليقين والظن لتعيد استحضارها أو العمل على إحلالها أو حلولها في ذوات الآخرين، متشبعة بالغيرية وتفتيت الذات وتعديدها في القصيدة - الكتابة بشكل مذهل يلفت الانتباه، لغتها الشعرية مستفزة وصادمة، صامتة ونقية وباردة، بكل الخصائص الفيزيائية والحافظة للثلج، تلك التي تضمن للقصيدة نضارتها وطراوتها، وتمنع الدلالة والمعنى من التعفن والتلف، إذ لا يعني صمت القصيدة وبرودتها، جفاف اللغة وغياب حرارتها، بل تعني في المقام الأول هذه الإمكانية الهائلة التي تتمتع بها لغة لطيفة في الإبقاء على وهج الشعر طازجًا ونقيًا، لا يطوله التلف بمجرد إخراجه من «برَّاد» اللغة والقصيدة، إن صح القول.
ـــ 2 ـــ
«فتنة غياب» عنوان المجموعة الشعرية أو عتبة الدخول إليها إن جاز التصريح بذلك، يأتي بهذه الصيغة الممعنة في «التنكير»، إذ ترفض الشاعرة، أو تتعمد، بالأحرى، تعريفه أو تحديده في التسمية بحرفين: «ألف» و«لام»، بسيطين في الظاهر والترسيم، لكنهما عميقان في الباطن والتدليل، إذ تتجاهل الشاعرة بالقليل من الحذف أو البتر اللغوي، وبالكثير  من تشهيق الدلالة والرؤية / الرؤيا، وضع عنوان بصيغة مُعَرّفة قد تؤدي إلى قتل المعنى أو تبسيطه أو اختزاله في آخر المطاف، اقتداء بالقول المأثور لأقطاب الصوفية أو أهل البصيرة «العارف لا يُعَرّف»، إذ كيف يمكن للعارف بكل شيء أن يشرح ما هو مُعرّف أو معروف من المعنى بالمعنى، وما هو مُعرّف أو معروف من الكلام بالكلام؟ 
ذلك قَطْعًا هو العمل المُضني لشاعرة تمتطي صهوة الغياب وفتنة الكتابة لترسم في القصيدة – الشذرة الشعرية هذا الأفق الشاهق أو الأخدود العميق لإقامتها، لكينونتها ووجودها في الحياة وفي الشعر، زادُها الأساسي في ذلك تلك اللغة والرؤى المحكومة أصلًا بالظنية والاستحالة والغيرية والتضاد:
«غيْري / بالسّهل مقيمٌ / ولي الإقامةُ في المستحيل».  (الديوان).
الحالة الشعرية عند لطيفة مغايرة ودقيقة للغاية حدّ الدهشة، تحكُمها أو تتخطفها الانزياحات الكبرى التي بها تحيا القصيدة ويتحقق الشعر، تجترح صورَها الشعرية المتقنة، والمربِكة أيضًا، ببُعدها الغرائبي أو حتى السريالي أحيانًا، من دمها الشخصي ومن جِلْدِ اللغة التي اعتراها الصدأ والتهمتها البداهة في الكثير مما نقرأه الآن، هنا وهناك، من «الشعر»:
     «في الإقبال لا يبدو ظهرك / في الإدبار غيرُ بادٍ وجهُك / لسْتَ سجنجلًا ولا أنا مِرآة / أنتَ والزمنُ سُلالات ...». (الديوان).
ــــ 3 ــــ
تزدحم قصائد لطيفة المسكيني بالأسئلة الكبرى، الجارحة والجسورة والمفجِعة، سواء تلك التي تقتطعها الشاعرة أو تنحتها من جسدها الخاص أو من جسد اللغة والمعنى، لتضع ذاتها على مسافة كافية من العالَم، حتى تتبدى أو تتجلى لها، بالأحرى، كل الرؤى الباطنية، وكل الظنون، وكل الأوهام، وكل أشكال اللايقين، ما يجعل هذا العالَم بمنزلة موضوع تفحصه، وبشكل دقيق، تلك العين الصقرية للشاعرة ومجهر القصيدة:
«ما لهذا الحبر كلُما / وعَدَ بالتكتّم نَقضَ؟ / (...) أيّ زمن أنتِ الصّدْحُ؟ / لأي وعدٍ اجتزتِ المسافات؟ / (...) لأي نعل سأكتبُ هذا الطريق؟ / (...) بأي أمرٍ سأكتبُ هذا الطريق؟ / (...) بأي أمرٍ ولأي أمرٍ كنا هنا؟ / (...) مَنْ أوحى بالنشيد / في خِلجان العشق / في وديان الصمت؟ (...) مَنْ دَلّني؟ / أ اليدُ التي رشفَتْ / من خمرة راقتْ / بين يديه / أم الذاكرة / التي أوقدتْ نارَها؟ / (...) هل راقصتَ الرملَ؟ / (...) هل تراني؟ أنا فراغكَ». (الديوان)
وكما فعل أو تساءل شكسبير على لسان بطله «هاملت» أمير الدنمارك، في مسرحيته الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه منذ أكثر من 400 سنة: «أكون أو لا أكون؟ ذلك هو السؤال؟ (أو تلك هي المشكلة؟)، تُعيد لطيفة المسكيني، ضمن أسئلتها الحارقة، استدعاء أو استحضار  سؤال آخر  من الماضي ومن التراث الشعري العربي للمتنبي كذلك: «بم التعلل»؟،  هو السؤال الفاجع الذي يضعه المتنبي عنوانًا ومطلعًا لقصيدته الشهيرة «بم التعلل لا أهل ولا وطن؟»، متممًا القصيدة: «بمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ / وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَن / أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني / مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ»، هو السؤال الذي لا يَقل أهمية أو درامية عن سؤال شكسبير في المناجاة أو الحيرة الوجودية لـكينونة «هاملت» وشكسبير نفسه، مع فارق بسيط هذه المرة، وهو أن «لطيفة» تتجه باستحضارها سؤال المتنبي، نحو جور الزمن وغربة الذات وغربة القصيدة. 
ـــــــ 4 ـــــ
في آخر الديوان أو آخر الرحلة أو السَّفرة (لا فرق)، تَصِلُ الشاعرة من خلال قصيدتها أو شذرتها الشعرية العميقة «نفَس» إلى المرتبة الأخيرة والقصوى من تِرحالها أو تِطوافها الصوفي في المعاني والحروف، تَصِلُ إلى مرتبة الانخطاف والتجلي والانكشاف:
«تجلّى / حَرْفا / وأَحرقَ / الألواحَ». (الديوان) ■