«السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا»

«السطحيون: ما تفعله  شبكة الإنترنت بأدمغتنا»

صدر بالآونة الأخيرة عن دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع كتاب مترجم بعنوان «السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا»، للصحفي الإنجليزي نيكولاس كار، ترجمة: وفاء يوسف. والكتاب من الحجم المتوسط، وعدد صفحاته 288. ويتكون من تمهيد بعنوان «كلب الحراسة واللص»، وعشرة عناوين رئيسية: «أنا وهال - المسارات الأساسية - أدوات العقل -  الصفحة المعمقة - وسيلة ذات طابع عام للغاية - صورة الكتاب بحد ذاتها -  دماغ البهلوان - كنيسة غوغل - البحث، الذاكرة - شيء يشبهني»، وخاتمة بعنوان «العناصر البشرية»، إلى جانب قائمة من الاقتراحات لمزيد من القراءة والاستفادة. وقد صدر الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2010، ووصل إلى القائمة النهائية للكتب المرشحة لجائزة البوليتزر عام 2011.

 

يحاول كار في كتابه أن يستكشف تأثير التكنولوجيا على الدماغ، من خلال عملية التصفح على شبكة الإنترنت، حيث يظهر أن «القراءة عبر الإنترنت» تؤدي إلى فهم أقل من قراءة الصحف والكتب المطبوعة. كما يجادل كار بأن النقر على شبكة الإنترنت قلل من قدرتنا على التركيز المستمر والتفكير بطريقة خطية. وبدلًا من ذلك أصبحنا نقوم بالقفز على سطح المعرفة؛ أي إننا لا نتعمق في أعماق البيانات والمعلومات، وإنما أصبحنا نرضى بالخوض في المياه الضحلة.

كيف تؤثر تكنولوجيا الاتصال على طريقة تفكيرنا وتشتيت انتباهنا؟
يستشهد كار ببعض من أحدث الأبحاث في علم الأعصاب لدعم ادعاءاته، قائلًا: «في كل مرة نقوم بمهمة ما أو نشعر بإحساس ما، سواء أكان ذلك الشعور جسديًا أم نفسيًا، تنشط حينها مجموعة من الخلايا العصبية في أدمغتنا (...) وكلما تكررت التجربة الشخصية ذاتها تزداد قوة روابط المشابك العصبية بين الخلايا العصبية، ويكثر عددها بفعل التغيرات الفسيولوجية، كإفراز النواقل العصبية بتركيز أعلى...» (ص: 43). إذ يحاول كار أن يفهم كيف تؤثر تكنولوجيا الاتصال على طريقة تفكيرنا وتشتيت انتباهنا، «فالمراهق الأمريكي يرسل أو يستقبل 2272 رسالة نصية في الشهر، وهو عدد مهول فعلًا» (ص: 116). زيادة على ذلك، هناك دراسات أكدت ارتفاع أعداد مشاهدة التلفزيون بمعدل 5 ساعات في اليوم في المتوسط، والهواتف المحمولة التي تدعم الويب. وعليه، يؤكد كار أن هذه المشتتات المستمرة تسبب تغيرات في الدماغ، حيث تؤدي مثل هذه الممارسات إلى جعل المرء أكثر انسجامًا مع الإلهاء، وبالتالي أقل قدرة على أداء الأنشطة التي تتطلب تركيزًا كبيرًا واهتمامًا مستديمًا.
وعلى الرغم من أن شبكة الإنترنت تمثل خروجًا جذريًا عن باقي وسائل الإعلام التقليدية من نواح كثيرة، فإنها تمثل أيضًا استمرارًا للاتجاهات الفكرية والاجتماعية التي ارتبطت بالإعلام الجماهيري في القرن العشرين، والتي شكلت حياتنا وأفكارنا منذ ذلك الحين، وهو ما يعني أن هناك العديد من الوسائل التي كانت وما زالت تلهي حياتنا، علما أنه لم يكن هناك وسيط، مثل شبكة الإنترنت، التي تمت برمجتها بغرض تشتيت انتباهنا على نطاق واسع والقيام بذلك من دون وعي منا.
لقد خصص كار في كتابه فصولًا للدراسات الحديثة التي تهتم بوظائف الدماغ، من خلال تجميع مجموعة من المعطيات للدفاع عن حجته بأن الوسائط الإلكترونية المتعددة تؤثر كثيرًا على العقل البشري، مثل انخفاض الفهم والتركيز وقلة القدرة على التحليل أو التفكير الإبداعي، فهو يعارض ادعاءات عشاق التكنولوجيا بأن شبكة الإنترنت سوف تعمل على توسيع العقل البشري وأنها ستعزز التفكير العميق وتجعله أكثر إبداعًا، حيث يظهر كار أن البحوث العلمية دحضت هذا الافتراض الذي كان مقبولًا لوقت طويل، ذلك أن هذه الوسائط الإلكترونية تعمل على تشتيت فهمنا واستيعابنا لأشياء، ويقول كار: «يجهد تقسيم الانتباه الذي تقتضيه الوسائط المتعددة قدراتنا الإدراكية أكثر فأكثر، فيتضاءل بسببه تعلمنا، ويضعف فهمنا»(ص: 171). ومع ذلك، يشير كار إلى أن استخدام الويب يعزز من سرعة اتخاذ القرار وحل المشكلات والتناسق الذهني، لكنه في الوقت نفسه يتساءل حول ما إذا كانت هذه الإيجابيات أكثر من السلبيات. 

شبكة الإنترنت تشجع على السطحية 
بالنسبة إلى كار، إذا كانت شبكة الإنترنت توفر للمستخدمين سرعة الوصول إلى عدد كبير من المعلومات، فإنها تشجع أيضًا على السطحية في انتقاء المعرفة والمعلومات. ولتأكيد موقفه فإنه يستشهد بمجموعة من الدراسات.  على سبيل المثال، في دراسة قام بها جيكوب نيلسون عام 2006 وجد أن الغالبية قرأت مقالًا على الويب بطريقة تشبه الحرف (F) والتي ترمز إلى السرعة، تمت قراءة الأسطر القليلة الأولى من النص بالكامل، لكن بعد ذلك تراجع القراء لقراءة بضعة أسطر أخرى، ثم بعدها تنخفض أعينهم ليتفحصوا الباقي، مع التركيز بشكل أساسي على الجانب الأيسر من الصفحة، إذ لم يقض معظمهم أكثر من 4.4 ثانية في كل صفحة(ص: 178).
إن الفكرة التي تتكرر في الكتاب هي أن الدماغ البشري مرن ويمكن تشكيله من خلال مجموعة من الإجراءات التي ترتبط بالوسائط الرقمية. فوفقًا لكار، نحن في خطر فقدان قرون من التقدم على مستوى بناء مهاراتنا في التفكير والتعلم، فهو يبين أن الأدمغة تعمل بشكل مختلف بعد استخدام الوسائط الرقمية. وقد تكون بعض النتائج إيجابية، مثل القدرة على الحكم بموثوقية المعلومات الموجودة على الويب بسرعة وتحديد كمية المعلومات، جنبًا إلى جنب مع التحسينات المذكورة غالبًا في «التناسق بين اليد والعين، ورد الفعل المنعكس، ومعالجة المنبهات البصرية» (ص:182). ورغم ذلك، فإن النتائج الأخرى قد تكون سلبية، فقد تكون الكفاءة التي تحتكم إلى الآلة التي تساعد في اكتشاف المعلومات واسترجاعها «مدمرة للنموذج الريفي القائم على التفكير التأملي» (ص: 218).
نتيجة لذلك، فإن اعتمادنا على الإنترنت بكثرة في أداء المهام يؤثر بدوره على الذاكرة، وكما يقول كار: «كلما استخدمنا الشبكة أكثر مرّنا أدمغتنا أكثر على التشتت، أي على معالجة المعلومات بسرعة كبيرة وكفاءة عالية، لكن دون انتباه مستمر» (ص: 251).  
وبالتالي من المحتمل أن يكون لاستخدام الإنترنت آثار جانبية حتى على الأكاديميين والباحثين الذين لديهم القدرة على التحكم في استخدام الحاسوب والإنترنت، فهناك دراسات تؤكد أن الأدوات التي نستعملها في الإنترنت لغربلة المعلومات تؤثر على عاداتنا العقلية وتعمل على تأطير تفكيرنا. وقد نشر عالم الاجتماع جيمس إيفانز دراسة في مجلة Science جاء فيها أن «عدد الاقتباسات في المقالات الأكاديمية المطبوعة والقديمة قد انخفض بشدة مع الاعتماد بشكل أكبر على المقالات الحديثة المنشورة على الإنترنت» (ص: 277).
وما لا يمكن الشك فيه هو أن شبكة الإنترنت تغير طريقة تفكيرنا، وأن التغييرات يمكن أن تشمل أشياء قد لا ندركها في عالمنا المعاصر. وعلى ما يبدو فإن الكتاب مهم جدًا للمثقفين والباحثين والطلبة، ونقترح قراءته ورقيًا، بسبب القضايا التي يثيرها حول شبكة الإنترنت، إلى جانب الأسلوب المقنع في عرض الأفكار، حيث نجد كار يدعم آراءه من خلال الرجوع إلى التاريخ والفلسفة والعلوم، وبالاعتماد أساسًا على علماء الأعصاب، لذا فالكتاب فريد من نوعه، لأنه من نوعية الكتب التي تشجع على قراءة المؤلفات الورقية ■