سلفادور دالي

موت الخالدين

بين العبقرية والجنون خيط رفيع.. إنها المقولة الأكثر انطباقا على الفنان الراحل سلفادور دالي الذي شغل العالم بفنه المتميز وصرعاته المجنونة ونظريته حول الخلود وأشياء أخرى أهمها وأكبرها هي "غالا" زوجته التي أحبها لدرجة الهوس والجنون.

كان دالي فنانا غريبا وإنسانا مفاجئا غير متوقع. في شهر نوفمبر 1988 حينما ظن الجميع أنه سيموت، وقف يهاجم الموت ويتحداه رغم خوفه الواضح. وفجأة جاء الخبر بأن دالي مازال حيا وبصحة جيدة وقد غادر المشفى إلى قصره في مسقط، رأسه فيغيراس. وفي دخوله الثالث خلال شهرين ونصف لمشفى كغيرون في برشلونة بسبب أزماته القلبية، جاء إلى غرفة العناية المركزة الملك خوان كارلوس ليعود واحدا من أكبر فناني هذا القرن، جلس بجانبه ووضع يده فوق يد دالي الذي قال بصوت مؤثر: "أعدكم يا جلالة الملك أنني سأرسم ثانية لكم ولمملكتكم إسبانيا". ولم يكن وعدا في فراغ، فقد تعافى دالي بعد فترة وبالرغم من إصابته بمرض باركنسون "ارتجاف اليدين" فإن يديه توقفتا في الأشهر الأخيرة عن الرجفان، بل صارتا أكثر استقرارا وقوة، حتى إنه حاول عمل عدة كروكيات ومخططات أولية. قال: "لا أعلم لماذا يحومون حولي بهذا الشكل، لعلهم تناسوا أنني خالد لا أموت. الأطباء حمقى معتوهون، ومن حسن حظي أن هناك تلفازًا يعلمني بالضبط عن حالتي الصحية". وبالفعل فقد تابع دالي القناة الثالثة لتلفاز كاتلونيا التي كانت تبث أخباره الصحية دائما. لقد سمع كل تلك الأخبار ما عدا الأخير الذي أذيع يوم 23 يناير:

لقد مات سلفادور دالي

دعوة إلى السماء

يقال إن العد العكسي لحظ دالي السيئ قد بدأ في 10 يونيو 1982 حينما ماتت غالا، زوجته الشرعية المعشوقة، ملهمته غزالة طروادة، غازلة شباكه، توأمه المتكون وإياه من انقسام بويضة واحدة. وإذا كان العالم سيذكر دالي بنظرياته وتصريحاته حول الخلود، وهو ما كرسه بلوحاته الخالدة، فإن المقربين منه يتفقون على أن الموت الصامت - لأفضل رسام على وجه الأرض كما يقول البعض أو لمهرج القرن العشرين كما يقول آخرون - قد ابتدأ فعلا منذ موتها عام 1982. لكنه آمن أن الخلود شيء ممكن بطريقة النشاف الكامل للجسد والعودة إلى حياة الشرنقة. لكن أكثر ما كان يخافه هو فقدان النطق. يقول "كما اكتشف فرويد مناطق الجنس في جسم الإنسان اكتشفت أنا مناطق الاهتزاز به" ومهما نظرت إلى أعماله وسيره وأقواله فسوف تجد دائما "المرأة التي تدعوني للسماء". إنها حكاية حب غير معقولة حصلت في إسبانيا قبل ستين عامًا.

كيف أصبحت معتوهًا؟

في ربيع عام 1929 جاءت مجموعة من الأصدقاء البوهيميين المرحين، إلى بيت سلفادور فيليب دالي، بينهم كان شاعر الموجة ما بعد الواقعية بول إيلوار بصحبة زوجته، اسمها الحقيقي يلينا دايكونوف، روسية الأصل. كل ما يقال عنها وعن الوقت الذي عاشته في روسيا القيصرية قبل الثورة هو أنها كانت طفلة لعبت في أحضان تولستوي، وأنها عولجت في مصحة، ثم استقرت في باريس تحت اسم جديد هو غالا، وأصبحت ملهمة فناني تيار ما بعد الواقعية. كانت غالا "36 عاما" ذات شخصية غامضة أهداها زوجها الشاعر جل قصائده. المهم أن تلك المرأة التي تكبر دالي بأحد عشر عامًا أصبحت بالنسبة له - وهو الشاب البسيط لابن كاتب حكومي في كاتلونيا واقع تحت ضغط نفسي مرهف لمرض العنة - وكأنها صاعقة تفجرت في سماء صاحبه.

يقول دالي: "كله ابتدأ من الباب، في أحد الأيام دخلت الغرفة وكان الباب مفتوحا ورأيتها: تفجر الحب في داخلي، ومنذ تلك اللحظة قررت أنها يجب أن تكون لي" حلق شعره، ولون جسمه بالأزرق والأحمر، ووضع حلق أخته آنا ماريا - التي كانت إضافة لغالا والنادرات من الموديلات اللاتي رسمهن، الوحيدة التي أدخلها إلى مرسمه - ووضع قرنفلة حمراء وراء أذنه، وقف أمامها. تفاجأت مستغربة، معجبة بعينيه، خائفة من منظر الجنون الذي احتواه، وهو يضحك بصورة هستيرية دون توقف. وبالفعل عندما انتهت زيارة الأصدقاء عاد الشاعر إيلوار بمفرده، وظلت غالا مع دالي. هدده أبوه بالطرد من البيت - إن هي بقيت معه، وأجبرها على العودة إلى باريس، وبقي دالي وحيدا غارقا في دموعه وأحزانه، يقول: "النساء عطاء رائع قادر على تحويل الرجل إلى معتوه، وأنا لا أفكر بأي شيء سيئ حينما أقول ذلك، أنا أحب المعتوهين خصوصا عندما يكونون في حالة الهذيان لأنهم وقتها أشبه بالملائكة، وهكذا بفضل النساء فإن رجالا مثل دانتي يصبحون معتوهين، ويكونون في وضع يؤهلهم ليكتبوا الكوميديا الإلهية".

ذهب إلى باريس وتزوجها، هدية الزواج، قطعة مجوهرات كبيرة، بجعة منحوتة من الحجر الروسي الكساندريت، وبه بيضة كبيرة الحجم من الزمرد حينما تقلبها تصبح فيلاً، وبعد شهر عسل في إسبانيا استقرا في بورليكاتو عند كوستابرافا، وعاشا في بيت متواضع لصياد سمك "مليء بالحب والعبقرية" بيت شاءت له جغرافيته العجيبة أن يتوسع يوما بعد يوم "غالا إلهة ذلك البيت وحارسته، بفضلها يغنى البناء ويتكاثر".

دالي الكبير، وغالا

على أمواج فن ما بعد الواقعية، الباحث عن الإلهام في غياهب الروح، الموشح باللاوعي والأحلام والغرائز المدفونة، كان خيال غالا يتألق في كل الرسوم، كما هو متألق في حياته اليومية. كانت ببساطة المهتمة بكل أعماله ومقابلاته، وإمضاء تلك العقود الغالية مع تجار اللوحات وجامعيها، تقرأ له الكتب وتلخص له ما يجب، وحينما يكون الطقس جيدا كانت تبحر بقاربها وتنصب الشباك لصيد سمك الحنكليس، حتى أن القوارب الثلاثة المستعملة لنقلهما إلى المرفأ القريب حملت كلها نفس الاسم: غالا واحد، غالا اثنين، غالا ثلاثة.

قضيا معا أكثر من نصف قرن، ومازالا حتى الآن مع بعضهما مرسومين "على طريقة ميكل أنجلو" على سقف متحف دالي في فيغيراس وحينما اشترى قصر بوبول أهداه لها مع عبارة "بوبول مثل غالا قلعة لا تقهر".

يعتبره النقاد آخر ممثلي تيار ما بعد الواقعية، المنتسب لجيل هز عروش الفن من جذوره في الثلاثينيات، وهو إضافة لبيكاسو أكبر وأغلى فنان في القرن العشرين. هو الشهير والمحتقر، الصاخب والهادئ، الذي أهدى ملهمته عددا كبيرا غير معقول من الرسوم، حتى أنه سوف يذكر بذلك: "أحبها أكثر من أبي وأمي، أكثر من بيكاسو، بل وأكثر من النقود" حتى أصبح كل معرض من معارضه رمزا وتجديدا للزوجة المعشوقة والتصقت به عبارة: دالي الكبير هو غالا.

النشأة والتطهر والمتحف

ولد سلفادور دالي في 11 مايو 1904 في فيغيراس البعيدة عدة كيلو مترات عن أجمل شواطئ إسبانيا كوستابرافا. ورسم أول منظر طبيعي حينما كان عمره ست سنوات، وعرض لوحاته في مسرح بلدته حينما كان عمره أربعة عشر عاما. درس الرسم في أكاديمية مدريد للفنون، وكان وقتها يكتب لمجلة ستوديا مقالات عن ميكل أنجلو، وآل غريكو، وفيلاسكيز، وديرير، وغويا، وليوناردو دافنشي. ويذكر أن تصرفاته الغريبة المفاجئة قد جلبت له حكما بالسجن لمدة 35 يوما. أقام أول معرض خاص في قاعة دالمو في برشلونة جلب له دهشة وإعجاب بيكاسو وميرو، في العام التالي يقتحم باريس، وفي عام 1927 يقوم بعمل الديكور والملابس لمسرحية فردريك غارسيا لوركا. ابتدأ دالي ككل الفنانين كلاسيكيا واقعيا ثم تحول إلى الانطباعية والتكعيبية ليستقر أخيرا في منهجه المتميز "السريالية"، في الثلاثينيات يفتتح معرضه الكبير.

عاش في مرحلة فرانكو وأحبه، وأيد الديكتاتورية مما جلب له صداقة فرانكو وعداوة الكثيرين خصوصا الاشتراكيين، وكان مع بيكاسو الذي أحب الديمقراطية خصما سياسيا وزميلا في الفن والصرعات. حينما بدأت الحرب الكونية الثانية غادر دالي وغالا فرنسا واستقرا لمدة ثماني سنوات في نيويورك، يكتب دالي عن تلك الفترة تحت عنوان "الحياة السرية لسلفادور دالي" بأنه قطع صلته بالفن ما بعد الواقعي وفنانيه، وأنه يعمل باليه الدهليز في أوبرا مترو بوليتان، ويقيم معرضا ضخما لأعماله السابقة، ثم يحطم عمدا واجهة محل "بون فيت وتيلر" ذي السمعة الكبيرة في نيويورك مما جلب له انتباه وتقدير الصحفيين الذين كتبوا: دالي ليس بحاجة إلى من يعلمه ما هي الدعاية الذاتية والتصريحات الصحفية. يقول دالي: "أنا أكبر فرسان القصور في هذا القرن ومعشوقها الأكبر"، أهداه فرانكو في عيد ميلاده السبعين مسرح فيغيراس ليجعل منه "مسرح متحف دالي"، علما بأن متحفي بيكاسو وخوان ميرو في برشلونة.

في الساحة أمام المتحف ترى تمثالا مصنوعا من أشياء قديمة ودواليب ورأسا ذهبيا وسلاسل، على جدرانه الخارجية تماثيل جبصية هي طبق الأصل عن تماثيله الأصلية. وتترتب قاعات العرض في ثلاثة طوابق حيث وضع دالي مجموعة عدسات تنظر من خلالها لتفهم مواضيع فنه، التي شارك فيها بين الرسم والنحت والتصوير والكومبيوتر، وعندها يمكنك أن تكتشف أفكاره النهائية لرسوم وأشياء لا تفهمها من النظرة الأولى، ومن الكاديلاك إلى ليدا أتوميكا، إلى الغرفة التي تتنفس ومعركة تطوان، إلى الطبقات الدائرية الخشبية كمسرح فوقه مقعد أحمر وخلفه لوحة نفذها بالكومبيوتر، إلى السلم على سنام جمل، إلى وجه الحرب إلى رسوماته السريعة وكروكياته، إلى الزرافة المحترقة والحرب الأهلية، إلى بقايا العظام والأشياء والألعاب، إلى القاعة التي رسم على سقفها نفسه وزوجته، إلى تماثيل من الحجارة التي وضع بجانبها حجارة عادية ليقارن نفسه بالخلود، فكما شكلت الطبيعة هذه الحجارة بمياهها وطقسها فقد شكل دالي من الحجارة فنا خالدا. لقد زود المتحف عام 1986 ب 160 لوحة من أعماله القديمة ليصبح أكثر المتاحف زيارة بعد برادا.

آخر مرة أربكا فيها باريس كانت في أواخر 1979: غالا بشعر أبيض معقوص بالمخمل وهو بشاربيه المعقوفين الرفيعين المنشيين "إنهما هوائياي للفضاء والخلود" والاثنان ملفعان بجلد النمر، في حفل افتتاح معرضه المتميز في صالة بوبور. لقد شاهد المعرض 1.258991 زائرا وهو الرقم القياسي في تاريخ المعارض، احتوى المعرض على : 168 لوحة، 219 رسما، 2000 وثيقة مختلفة، أربع منحوتات، 38 قطعة من أشياء مختلفة، كاديلاك في المطر، غرفة تتنفس، ملعقة كبيرة، صليب متحرك، ساعات مائعة، كلب أندلسي صوره قبل ستة عقود مع صديقه لويس بونيويل.

متناقضات عمرها 80 عاماً

تصريحات دالي اللاواقعية حول ضخامة عبقريته، والعقد المكبوتة والرغبة الدائمة لاستفزاز الآخرين، نجد جذورها في نشأته وذلك الخلاف الدائم بينه وبين أبيه. "لقد أثرت عائلتي على تطوري العقلي بشدة، ولم يكن تأثير والدي كبيرا كتأثير أخي الذي مات قبل ولادتي وهو في سنته الخامسة، وهكذا عاملوني وكأني شخص آخر، كأنني هو. أنا لم أكن أنا بل كنت الميت، وحتى أثبت شخصيتي توجب عليّ أن أشحذ كل طاقتي. لهذا جننت، اعتمرت قبعات مجنونة، لبست ثيابا غريبة، أطلقت تصريحاتي اللا معقولة المتوترة، كله لكي أقتل أخي الميت وأثبت أني لست هو، بأنني حي أرزق" لهذا كان دالي فارسا ومهرجا ومقلدا أعمى وحبيب الجماهير رغم نرجسيته: "أنا نفسي لم أعد أعرف متى أتغير وأكذب ومتى أكون صادقا" . أما عن حبه اللا محدود تجاه المسرح والتمثيل يقول صاحب أشهر شاربين في العالم: "كل ما أفعله هو جزء لا يتجزأ من المسرح المستقبلي، انظروا إلى التاريخ والعادات: لقد كان المسرح قريبا دائما من الشارع وهذه هي غاية السيرك الروماني، أول عروض الخوف والرهبة كانت للعربة التي تجرها خيول وهذه هي غاية صراع الثيران ، أما حقيقتي فتكمن في مسرح دالي المتنقل! ".

ويبقى دالي آخر فنان نجم، كانت يده لعقود طويلة عصا سحرية. كان إمضاؤه كافيا لانتعاش السوق، حيث تبدأ الطلبات بالاشتعال من كل الجهات، ليس فقط لرسومه وصوره، بل لحفرياته على النحاس، للمنحوتات والتماثيل للصحون المزينة "للبارافانت" للملصقات والدعايات، للسجاد والنسيج والحلي، للعطور، وكل الأشياء الممكنة التي كان يخترعها هذا المعلم، كان يردد دائما "أرغب في شيئين: أن أحب غالا وألا أموت نهائيا". وعندما ماتت غالا دفنها في مقبرة قصر بوبول حيث عاش حزينا مكسورا دامع العين مع ذكرياته حتى موته، وهو يلبس عباءة وثيابا بيضاء تعبيرا عن حزنه الأبدي عليها، وبالرغم من مرضه وتحركه على عربة بعجلات فقد استطاع النجاة من الحريق الذي شب في بيته عام 1984، حتى مات أخيرا كما أراد: كرجل من المسرح.

آخر وصية صرح بها لمحاميه ومدير متحفه وأقرب أصدقائه وهو يعاني سكرات الموت كانت الأغرب: وهو ألا يدفنوه في بوبول بجانب غالا كما كانت رغبته سابقا، بل أن يحنطوه ويضعوه تحت قبة بلورية في متحفه، محاطا بالصور والأشياء الثمينة التي من بينها الكاديلاك. لقد عادت كل تركته الفنية إلى إسبانيا وحكومة كاتلونيا. أما الجزء الآخر من الوصية فسوف يقرأ عام 2004 في ذكرى ميلاده المائة، حيث تقدر أمواله غير المنقولة ب 400 مليون دولار.

تصوروا رساما يرقد رقدته الأخيرة على عرش فني، محاطا بما كان يحبه. فهل يوجد مكان أفضل لإنسان جعل من حياته الخاصة عملا فنيا خالصا؟