لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

يتكون المتن القصصي من خمس عشرة قصة متفاوتة في حجمها وأدائها. ينتمي كُتّابُها إلى سبع دول عربية؛ يأتي في مقدمتها المغرب بخمس قصص، ثم مصر بأربع قصص، ثم الجزائر بقصتين، ثم قصة واحدة لكل من لبنان والعراق والكويت وتونس. يصعب أن نحسم التمييز بينها لتقارب المستوى أداء ولغة وتمثيلًا للواقع، ولمراهنة أصحابها على التجريب باعتماد نمطين سائدين في الفن القصصي كونيًا، هما: القصة ذات الحبكة والقصة - اللحظة.
هناك من ركبوا الموجة الأولى (النمط الأول) ليُسرها وسلاستها، وهذا ما رفع عنهم الكلفة، ومهد لهم الطريق دون عناء بالنظر إلى قلة التجربة وصعوبة الرهان. في المقابل، تجشم قاصون ركوب غوارب النمط الثاني؛ فاعترضتهم مصاعب جمة لا يقوى على مقاومتها وتجاوزها إلا من خبر الحياة، وجال وصال في الفن، وتحكم في رقاب الصنعة القصصية. ففضلًا عن الطابع المثالي أو الاستثنائي للقصة-اللحظة ( ما يسميه النقاد «الوحدة النوعية للحظة»)، تتسم أيضًا بالموقف المفاجئ، والإضاءة الخاطفة والتوتر النفسي والتصوير الشعري. 
يبدو - من خلال النماذج القصصية - أن القاصين المرشحين يميلون إلى نمط قصصي معين تلقائيًا ودون دراية بمعاييره أو اطلاع على عيون الأدب العالمي؛ ومن ضمنه الأدب العربي. اكتفوا - بحكم الارتجال والحماسة - بنمطين، في حين غابت عنهم أنماط أخرى، فضلًا عن عدم عناية جلهم بالصياغة لتفادي الأخطاء اللغوية وبالشكل حتى تستوفي القصة حقها وشروطها.

المرتبة الأولى: « طير الحب» لناظم حسين/ العراق
كانت أم السارد تعتني بطير الحب أو الكناري باعتقادها أن روح ابنتها المتوفاة حلّت في روح الطائر. وبمرور الأيام خارت قواها، وشحب لونها؛ فنقلت إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية تحت الرعاية المكثفة. بعد أن تفقد السارد حال أمه، عاد إلى البيت ففوجئ بنفوق الطير؛ وهو ما حفزه على البحث عن نظيره لكنه لم يفلح في مسعاه. فجأة سقط طائر نادر الوجود من السماء في حضن السارد. وبمجرد أن وضعه في القفص هاتفه أخوه ليبلغه نعي أمهما وفناء الحياة، لحظتها صدر عن الطير صوت يشبه أنين الفقيدة.
فضلًا عن تميز القصة بسلاسة اللغة، وانسياب السرد وكثافته، والقلق الوجودي، استُخدم رمزُ الطير بحلوله في روح الآخر لبعثها من جديد، وضمان استمرارها في الحياة (الأخت/ الكناري). وعندما سجن الطائر السماوي أسلمت الأم الروح إلى بارئها، وصدر عنه أنين بل حشرجة الاحتضار. ماتت الأخت فحلّ الطير في روحها، وماتت الأم فحلت روحها في الطير، إنها معادلةٌ قائمةٌ على الحلول باتحاد جسمين، وذوبان أحدهما في الآخر، ومُرْهصةٌ - في الآن نفسه - بدوام الحياة والحب على أنقاض الفناء والجفاء.

المرتبة الثانية: «رياض العشاق» لرفعت الكنياري/المغرب
ما يعكر رونق «رياض العشاق» وبهاءه هو تربص المعتوه (المقذور) بالمتنزهين عند المخرج. يتحاشاه بعضهم لقذارته وعفونته، ويحرص بعضهم الآخر على لقائه ومعانقته. صادف السارد - الذي ينتمي إلى الفئة الثانية - في طريقه إلى المدرسة المعتوه، فعانقه عناقًا حارًا. حاول سدى أن يتخلص من النجاسة التي علقت بثيابه، ويتطيَّبُ بالعطر الفوّاح لإبعاد الرائحة الكريهة عنه، وهو ما جعله مثار سخرية زملائه ونقدهم، ومصدر عتاب الأستاذة التي أخرجته من الفصل الدراسي طالبة منه الاستحمام في منزله قبل الرجوع إلى المدرسة. عندما عاد في اليوم التالي تأفف زملاؤه ونفروا منه وتقززت الأستاذة منه أيضًا طالبة منه الخروج للاستحمام رغم أنه بريء الذمة بالفرار من المعتوه واتقاء شره.
وفضلًا عن قدرة القاص على سرد الأحداث بلغة عربية سليمة، امتثل أيضًا لمعايير «فن الواقعة» (Art du fait)؛ أي تمثيل حدث ما بلغة بسيطة وتلقائية ودون تصنع أو تنميق سعيًا إلى استيعاب خشونة اليومي أو التافه وفظاعته، وبيان تأثيره في السلوك والمتخيل البشرييْن. وبهذا المعنى، تستمد القصة نُسغها مما يعرف بفن الغروتيصك (Le grotesque) (ما يوحي بالسخافة والسخرية) الذي يعنى بإضفاء الغرابة والتنافر والرعب والهُجْنة على الوسيط الفني عمومًا بطريقة ساخرة، والنأي به عن المعتاد والمتداول والحس المشترك (الخروج عن المعيار Le hors-norme).
ما يثير في القصة - رغم بساطتها وتلقائيتها - هو «العدوى» بالمعنى الذي منحه إريك لاندوفسكي للمفهوم الذي لا يعني به انتقال مرض أو فساد من طرف إلى آخر، بل يقصد به تقاسم إحساس ما بين البشر ( عدوى الفرح مثلًا) أو توطّد وهم بينهم (كما ترسخ في ذهن الزملاء والأستاذة عن قذارة السارد)؛ وهو ما يؤدي - في نظره - إلى تعزيز علاقة الوصل أو الفصل بين الطرفين. ستبقى صورة البشاعة عالقة بالسارد ولو استحمّ مرات أخرى؛ ما يؤشر إلى تأزم علاقته بالواقع وانفصاله عنه، ومن ثم يتخذ «الغروتيصك» مفارقة بين الألفة (جمال المنتزه، الانضباط للمعتقدات المشتركة، مجاراة الحس المشترك) والغرابة (قذارة العالم، العتاهية، التهميش، الإقصاء)، وتمثلًا ثقافيًا للغيرية بصفتها وعيًا باختلاف الذات عن الآخرين، وتجسيدًا لما تشعر به من منافرة ومسخ وتحول ونبذ في عالم استقوت فيه العدوانية والكراهية المجانيتين.

المرتبة الثالثة: «حادث بوح» لتامر سمير سراج/مصر
استقل السارد سيارة أجرة في الواحدة بعد منتصف الليل، ثم حاول أن يحفز السائق على الدردشة لتزجية الوقت. في الطريق أقلت السيارة فتاة كانت تجهد على إخفاء تنهيداتها المسموعة. انتبه السائق إلى أن سيارة تطارده بجنون لِحثِّه على الوقوف، وهو ما امتثل له، فاقترب القادم من الفتاة لإجبارها على مرافقته. توسلت - قبل ذلك - من السارد أن يحميها ويقدم لها المساعدة حتى تنجو من قبضة المُتربِّصين بها، لكنه - برفقة السائق - لم يحرك ساكنًا، وظلّا مشدوهين أمام الأمر دون أن يجدا له تفسيرًا أو تعليلًا مناسبًا.
تقوم هذه القصة على التشويق البوليسي الذي أنقذها من رتابة عوالم سيارات الأجرة وأحاديثها المكرورة والمبتذلة، ما تستوعبه «الوظيفة الانتباهيَّة» بمراهنة المُتكلِّم على توطيد التواصل مع غيره بحشو الكلام وفضْله. وفي خضم بحث السارد والسائق عن موضوع مناسب يعزز تواصلهما، ويتقاسمان من خلاله معرفة مفيدة، فوجئا بسيارة تطاردهما بسرعة فائقة لحثهما على الوقوف. أجبرت الفتاة تحت التهديد على مصاحبة راكبي السيارة الأخرى. تتناسل أسئلة كثيرة بحثًا عن الجواب المناسب: أيتعلق الأمر بتصفية الحساب مع الفتاة أم بالانتقام منها أم بعملية اختطافها أم باستعادتها إلى أهلها؟ بقيت نهاية القصة مفتوحة على احتمالات عديدة، تحفز القارئ على تأطيرها وفق خلفياته المعرفية والثقافية.
من الأمور المحيرة والمثيرة في الآن نفسه، أن الفتاة غادرت المكان مخلفة آثارًا (بصمات أحمر الشفاه) على جاكيت السارد وأصابعه بالتوسل إليه. وهو ما يورطه - برفقة السائق - في حال التحريات والتحقيقات البوليسية خاصة إذا ما تعرضت الفتاة إلى مكروه ما. هذا احتمال من الاحتمالات التي تملأ بياضات النص وفُرجاته بسبب استبداد الصمت والحذف من جهة (على عكس ما يوحي به العنوان الخدَّاع)، وعدم دراية السارد بما يَسردُه باعتماد «الرؤية من الخارج» من جهة أخرى (يكون فيها السارد أقل معرفة من الشخصيات وأقل دراية بما يحاك في الخفاء). فضلًا عن ذلك، نعاين وعيًا بالتمثيل الأدبي للغة، خاصة تهجين أقوال الشخصيات (اللغة الفصيحة والعامية المصرية) على قدر فهمهم ومداركهم وأصولهم الاجتماعية وتطلعاتهم.