مع الدكتور زكي نجيب محمود

مع الدكتور زكي نجيب محمود

عندما زرت الدكتور زكي نجيب محمود لأول مرة في منزله بالقاهرة روى لي حكاية تدور حول رأيٍ أبداه في بيروت الدكتور طه حسين في إحدى زياراته لها ذَكر فيه أن عاصمة الثقافة العربية انتقلت من القاهرة إلى بيروت.
قال لي الدكتور زكي نجيب محمود، إنه ذُهل عندما سمع بما قاله طه حسين في بيروت. وعندما استفاق من ذهوله وسعى إلى التفسير عزا وجهة نظر «العميد» إلى علاقة له كانت متشنجة في تلك الفترة مع جمال عبدالناصر وصحبه. وعندما جاء إلى بيروت - وكان ذلك في الستينيات من القرن الماضي - وسمع اللبنانيين يتحدثون اللغة الفرنسية بطلاقة، وهو فرنكوفوني في الأساس، أُعجب بما سمع. وكان معجبًا أصلًا بدور اللبنانيين في الثقافة وشتى فنون الأدب، لذلك أطلق تصريحه المشهور الذي أثار لغطًا كبيرًا يومها وبخاصة عند المثقفين المصريين.
لم يكتفِ زكي نجيب محمود بالذهول الذي أصابه، بل أضاف إليه حبّ الاستطلاع لمعرفة مدى دقة طه حسين في حكمه. قال لي إنه عندما عُيّن أستاذًا للفلسفة في جامعة بيروت العربية التقى في العاصمة اللبنانية جماعة من المثقفين وتناقش معهم في مسألة عاصمة الثقافة العربية هذه. أثنى هؤلاء المثقفون على رأي طه حسين، وقالوا إنه مبني على أساس سليم، ذلك أن بيروت تؤمّن للمثقف فسحة واسعة من حرية الرأي والتعبير، فباستطاعة المثقف فيها أن يقول ما يشاء بأي موضوع حتى ولو كان حساسًا، وهو ما لا يملكه المثقف في سواها. وأضافوا له ما يؤكد بنظرهم ما أدلى به طه حسين في بيروت.
لم يقتنع زكي نجيب محمود بما سمع لمن لجأ إلى التدقيق والمعاينة والمقابلة بين ما قدّمته بيروت للثقافة وما قدمته القاهرة. تساءل: أين نجد المكتبة الأدبية والفكرية والفلسفية والتاريخية والجغرافية العربية، في بيروت أم في القاهرة؟ قال لي: إننا ندرّس في الجامعات المصرية كل الفلسفات والنظريات، ولسنا بلدًا مثل بلدان الاستبداد في العالم وبئست الحرية إذا كانت تشمل التهجم على المقدّسات، فهذه ليست حرية بل انهيار في القيم والأخلاق.
وأضاف الدكتور: وأين نجد صناعة السينما العربية والمسرح العربي؟ في القاهرة أم في بيروت؟ ولو أردنا تفسير «ظاهرة الشّوام، وأكثرهم لبنانيون، الذين أمّوا مصر لتحقيق شخصياتهم فيها، ألا نجد أنهم جاؤوا: لواقع من الأطراف إلى المركز وهو القاهرة؟».
كان زكي نجيب محمود معجبًا أيما إعجاب بدور بيروت في حاضر الثقافة العربية وبخاصة في قطاع الطباعة والنشر، لكنه أراد أن تنزل الكلمات منزلها. لقد كان حكم طه حسين سببًا من أسباب موافقته على المجيء إلى لبنان لتدريس الفلسفة في جامعة بيروت العربية. أراد أن يتأكد مما إذا كان حكم طه حسين في محله، فتأكد له أنه حكم انفعالي مبني على مشاعر لا أكثر ولا أقل. فعاصمة الثقافة العربية كانت القاهرة على الدوام، ولم تنتقل هذه العاصمة يومًا إلى سواها ■