حدث في ساحة المدرسة

في مدرستنا الزهراء توجد ساحة فسيحة تحتضننا جميعًا، كلٌّ منّا يميل إلى التسلّي بلعبته المفضّلة، كنّا مجموعة من التلاميذ في السنة الخامسة من التعليم الابتدائي، نحب اللعب، ونهوى مدرستنا الجميلة.
في أحد الأيام خرجنا لِساحة المدرسة على عادتنا، بدا الجميع منغمسًا في لعبته المفضّلة، كان محمود شغوفًا بالنطِّ فوق الموائد المنتشرة في أرجاء الساحة، كان يفوقنا قوّة، وكان بارعًا في النطّ، يقف الجميع مشدوهًا إليه! وغير بعيد عن ذلك الضجيج يتراءى لك رامي ممسكًا كتابًا يطالعه، كانت عادته أن يقرأ عشر صفحات من كتاب يختاره في الفسحة قبل الالتحاق بالدائرة الكبيرة، كان صديقاي مختلفين تمامًا، وكنت أوسطهما قامةً، تستهويني المطالعة كما تغريني مغامرات محمود، أقف حائرًا أحرّك الخبز الذي أحمله معي إلى المدرسة من شدق إلى شدق.
 بينما كان الجميع يستمتع بحركات محمود، كما العادة، سقط من على المائدة، ونحن على مشارف العودة إلى الفصل، كانت إصابته مؤلمة جدًا، نُقل على إثرها إلى المشفى، وفي اليوم الموالي علمنا عن طريق رامي الذي نقل لنا خبرًا عن أبيه الطبيب يفيد بأن محمودًا لن يلتحق بالدارسة إلا بعد خمسة عشر يومًا من اليوم! نزل عليّ الخبر كالصاعقة، ودبّ صمت مخيف في الساحة التي فقدت ضجيجها، بدا الكلّ مشدوهًا لما حصل، وأذكر أننا زرنا محمودًا في المشفى، أدرك خلالها أن الجميع يحبه.
 وبعد أيام بدأت أزهار ساحتنا تستعيد نسمة الحياة، ترى الورود متفتّحة، كما ترى الندى في كل مكان من ساحة مدرستنا الجميلة، كان محمود مصدر الفوضى التي تعمّ الساحة، فوضى ينتج عنها غبار لا يُطاق، لم يسلم منه أحد، كانت الكتب في خزانة صغيرة مُتاحة للجميع، لكن لا نطّلع عليها إلا قليلاً، وفي اليوم الثالث  شرع رامي في تنظيف الكتب، كنت أجانبه دون أن أحمل معي خبزًا هذه المرّة، لأن غصّة مفارقة محمود تسكنني إلى اليوم. في اليوم الرابع تهيّأ رامي لتنظيف الركن الثاني من الخزانة، ركن خاص بمجلّة العربي الصغير، ومن فضولي فتحت عددًا من أعدادها الكثيرة، فوقعت عيناي على قصّة «وليد وأصدقاؤه» التي حملتني إلى عالَم آخر. لقد ملأت تلك القصة الجميلة كياني، وأحسست بإحساس جميل، قرّرت بعدها أن أساعد رامي في تنظيف كل الكتب. ظهر علي التحفّز فحملت نفسي على رعاية كتب مدرستنا ومطالعتها بدءًا من اليوم.
عاد محمود إلى المدرسة بعدما تماثل للشفاء، فوجد أزهار المدرسة متفتّحة، والأشجار مورقة نستظلّ بظلّها على غير العادة، وفي الفسحة أحسّ محمود أن كل شيء في المدرسة  قد تغيّر، ووجد أصدقاءه منغمسين في القراءة. عاتب محمود نفسه قبل أن يعاتبه الجميع، فانصرف قبلنا إلى الفصل مطأطئ الرأس، وقرّر أن يسير على درب أصدقائه، فبدأ يلتهم المجلاّت والكتب. قرأ جميع أعداد مجلّة العربي الصغير، فلما وصل إلى العدد الأخير، أخذ ينشد قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
أنا من بدّل بالكتب الصحابا
لم أجِد لي وافيًا إلا الكتابا
هكذا صار محمود مطالِعًا بارعًا، وقارئًا وفيّاً، وكان له حظ المشاركة في تحدّي القراءة العربي، نال المرتبة الأولى في مدرسة الزهراء، فأصبح مضرب المثل بين أقرانه.