حياة - سعاد - طيبة - عائشة ومريم فنانات الكويت القديرات ألا تشيخ تلك الصبايا أبدًا؟!

حياة - سعاد - طيبة - عائشة ومريم فنانات الكويت القديرات ألا تشيخ تلك الصبايا أبدًا؟!

هكذا، من دون مناسبة، وفي تطبيق عملي مباشر لنظريات التداعي الحر والفوضى الفكرية، أكتب عن فنانات الكويت القديرات؛ حياة الفهد وسعاد العبدالله وطيبة الفرج وعائشة إبراهيم ومريم الصالح ومريم الغضبان. 
لا أدري لماذا شعرت فجأة - و دونما أية استثارة ذهنية ذات علاقة - بالرغبة في الكتابة عنهن. ولا دلالة معينة في عنوان المقال؛ أي في كون أولاهن حياة وآخرهن مريم. من حيث المحبة، احترت فعلًا في ترتيب أسمائهن في العنوان أعلاه، فاضطررت إلى أن أستعين بوظيفة الترتيب الهجائي الآلي في حاسوبي (هذه  هي وصفتي المركبة للتطور العلمي والنكوص العاطفي). 

لن أتناول أعمالهن، فأنا لست متابعة جيدة للإنتاج التلفزيوني. لكن ذلك ليس ضروريًا، فأنا لا أحتفي هنا بمسيرتهن الفنية، أترك ذلك للنقاد، وللتاريخ. أنا أكتب اليوم لأسجل تعجبي الصادق من قوة الانطباع الذي تركنه في قلوب أجيال كاملة من الكويتيين والعرب. قد يكون السبب هو إحساسي بالاضمحلال التدريجي لفكرة الجمال الصادق، الحقيقي والبسيط من حياتنا (من يختلف معي في كونهن يرتبطن في أذهاننا بكل ما هو جميل: الشباب، الصدق، الضحك، البساطة؟).
إننا - وخصوصًا السيدات - نراهن كما نحب أن نرى أنفسنا: صبايا جميلات دائمًا. أو ربما كان السبب أكثر تعقيدًا، ربما تعلق بالهوية: قد يعود الأمر إلى كون تكتلهن يمثل الذاكرة النسوية الحية، الواضحة، الصاخبة، والدافئة لبلادنا. ألا يؤكد المؤرخون أن الذاكرة النسوية في الأمم المقارنة هي الانعكاس الخصب اللطيف للذاكرة الجمعية ككل؟ لا أدري، و ليس لي رغبة في أن أتفلسف. الموضوع بسيط وخال من التعقيد، لأنهن بسيطات وخاليات من التعقيد: هن صبايا شابات في أعيننا دائمًا.
غادرتنا عائشة إبراهيم بغتة، ولحقتها طيبة الفرج باستعجال مماثل، وانضمت إليهن مريم الغضبان في تضامن رفاق الدروب القديمة. انتقلت عزيزاتنا الثلاث - في سياق حزين من المرض والمعاناة وخيبة الأمل - إلى فضاءاتٍ إلهيةٍ لا أشك في كونها أجمل وأرحب، ومع ذلك فأنا لا أتذكرهن إلا شابات جميلات.
تقدمت السن بالباقيات فصرنا نرى سعاد بالشال، وحياة بالعباءة، ومريم بالنظارة الطبية؛ إنها الصورة الكلاسيكية لسيداتنا الوقورات. ومع ذلك، ورغم أعمالهن الفنية الغزيرة التي لم تنقطع حتى اليوم، فإن صورهن لا تحضرني إلا من حيث هن صبايا يافعات، يفضن بالحياة والخفة والملاحة. 
لتلك العزيزات منظومتهن الخاصة لمعايير الجمال. إنهن من جيل لا يعرف دورات التطوير الشخصي ولا كتب المساعدة الذاتية، ومع ذلك فثقتهن راسخة وحضورهن ملحوظ. 
وهن يُغبَطن حقًا لأنه لا مبرر لقلقهن من الشيخوخة أو التجاعيد. لقد حزْنَ إكسير الشباب الدائم، الذي لا أظنه سوى خليط من تقْدِماتٍ من طرفين: الصدق من جانبهن، والحب من قبلنا، أو ربما كان الانعكاس الجميل لصورهن في أذهاننا يعود إلى طمأنينتهن الداخلية. 
لم يُغرقن أنفسهن في بحور مساحيق التجميل الفجّة، ولم يستسلمن لإغراء مشارِط الجرّاحين التجارية، وبذلك لم يشكل التبرّج المبالغ فيه أو العمليات البلاستيكة قط طبقةً عازلةً أو حائطًا صلدًا باردًا بينهن وبيننا. تعابيرهن تصلنا ساخنة، موجعة، مضحكة، مملة؛ لا يهم، لأنها - على أية حال - طبيعية وتشبهنا دائمًا.
حقًا، ما هو مشتركٌ من ملامحهن يعلنهن كويتيات صميمات: 
شعورٌ سوداء، بشرةٌ سمراء، عيونٌ نافِذة، نظراتٌ جانبيّةٌ ماكرة، إشاراتٌ حادة، كُحلٌ كثيف، إيماءاتٍ عصبيّة، تلميحاتٌ لاذعة، وابتساماتٌ ساخرةٌ تحمل معاني شقيّة؛ نفهم بعضها ويفوتنا من بعضها الكثير.
ونحن نحبهن، مهما تقدّم بهن السن. 
ربما يكمنَ السبب في أنهن دخلن مجال الفن في زمنٍ صعب (يقال إن للرّيادة سحر المغامرة دائمًا). أو ربما كان يعود إلى سيرتهن العطِرة في وسطٍ لا نعرف عن دواخله التي يصورها لنا الإعلام إلا أنه شائك. وبالمنطق الفرويدي، ربما كان السبب هو أنهن يذكرننا بأمهاتنا اللاتي لايتغيّرن في أعيننا أبدًا، رغم الزمن والألم والبعد والتجربة والمرض (ومع ذلك، فأنت إذا ما فكّرت في الأمر، وجدت أن أمهاتنا - في الواقع - يكبُرن أمامنا فعلًا، بينما تلك الصبايا لا يهر من في بالنا أبدًا).
ثم ما هذا العناد وتلك القوة التي يتّصف بها جيلهن وجيل أمي وأمك؟ من أين أتين بكل هذه الثنائيات المانوية المتباينة المتجانسة، المخلوطة بانضباط المعايير الخيميائية القديمة: الثقة والشك، العِناد واللّين، الرّقة والعصبية، القسوة والانكسار، الحزم والتردد، خفة الظل والرزانة، الخبث والطيبة، التديّن والانفتاح؟!
من المُجحِف لمسيرتهن تصنيفهن كفنانات فقط، هذا التصنيف قاصر، لأنه لا يستوعب تحديات المرحلة الزمنية الانتقالية التي ظهرن خلالها في تاريخ بلادنا: هن مغامرات، ثوريات، مؤرخات لمحطات مجتمعية، رائدات نسويات على مستوى الكويت والخليج، ثم إنهن بعد ذلك وجوهٌ حيةٌ نابضةٌ من أوجه الصف الأول للحركة الفنية في الكويت.
لا أعتقد بإمكان نسبة تأملاتي هذه إلى التأثير الطاغي للنجومية، فالنجومية هي أن تكون بعيدًا عن الجمهور، مع إطلالاتٍ مدروسة. لكن تلك السيدات قريبات منا فعلًا، معنويًا وجغرافيا، نصادفهن دائمًا في المناسبات الاجتماعية وفي المرافق العامة. 
صادفت حياة الفهد في إحدى الجمعيات التعاونية منذ بضع سنوات، لم أقترب منها (وندمت على ذلك بعدها) لكنني ظللت أتابعها بنظري من بعيد وأرصد ردود أفعال الناس على وجودها بينهم: التفاتاتٍ متفاجئة، تعقبها إشاراتٍ متوارية، فابتساماتٍ عريضة، ثم تحياتٍ حارة. احتواء شعبي من عيار دافئ، تـُغبط - ويُغبَطن - عليه. أظن أن تأملاتي هذه يمكن أن تـُعزى إلى تأثير آخر، إنه صورتهن التاريخية، الجميلة والصافية، في الذّهن الجمعي للكويتيين.
فقدنا طيبة وعائشة ومريم قبل أن نحتفي بهن
ليتنا نُسعد سعاد وحياة ومريم كما أسعدننا، وكما يستحق مثلهن. لا أتحدث عن دور حكومي؛ أنا أعلم أن الحكومة الكويتية لم تنظر لهن إلا بعين التقدير الذي يليق بهن دائمًا. وعلى أية حال، هذا ليس مهمًا، فالفن لا يستقي قيمته من الحكومات؛ الفنان ليس موظفًا محبطًا في أرشيفٍ رسميٍّ كئيب حتى نطلب من مديره الالتفات إليه. الفنانون قيمٌ ديناميكيةٌ حية، وقيمة الفن تكمن في مدى اتصاله بالشعور الإنساني. أنا أتحدث عن تقديرٍ مجتمعيّ يعبر عن نفسه بصورٍ أكثر صدقًا، تلقائية وبساطة، لعل منها هذا المقال.
رحم الله عائشة إبراهيم وطيبة الفرج ومريم الغضبان، وأطال في عمر سعــاد عبدالله وحيــاة الفهد ومريــم الصالح، وأدام عليهن الصحة والعافية.
ولا خوف من اقتران صورتهن الفنية بدعواتي لهن بالعمر الطويل: 
لتتقدم السن بعزيزاتنا الغاليات ما شاء الزمن. عندما تكون محبوبًا فإن عيون محبيك لا تراك إلا نضرًا جميلًا ■