الفلسفة والسينما سؤال الإمكانات

الفلسفة والسينما سؤال الإمكانات

اهتم عدد من الفلاسفة المعاصرين بفن السينما، مما يوجب بحث معالم العلاقة الممكنة بين الفلسفي والسينمائي، خصوصًا أن الفلاسفة المقصودين هم فلاسفة من العيار الثقيل، ونخص بالذكر هنا كلًا من: برغسون، فوكو، دولوز، بنيامين، موران وفيتغنشتاين. وقد تأرجح هذا الاهتمام بين أطروحتين، أطروحة الانفصال وأطروحة الاتصال.

 

تشكل السينما حسب العديد من الفلاسفة موطنًا لتعميق ونشر ثقافة سلبية مرسخة للهوس بالرفاهية والفرجة، بشكل يُذهب الهموم الفكرية والسياسية ويقوم بتغييبها من الفضاء العمومي، مما يسهم في تعميق البعد الاستهلاكي لدى الإنسان، وفي مثل هذا السياق تخدم السينما البرجوازية والنظام الرأسمالي وثقافة السلعة والسوق، وبذلك ينهار أمل حملها رسالة الفلسفة السامية والنبيلة، فالسينما تشكل خطرًا على الفلسفة حاول إدغار موران رصده من خلال مسألة النجومية قائلًا إن «آلة التصوير التي كانت غايتها نسخ الواقع سرعان ما انصرفت إلى فبركة الأحلام، فما كان منها إلا أن زودت القرن العشرين بأنصاف آلهة؛ أعني بهم النجوم». فتركيز الإنتاج السينمائي على أشخاص بعينهم وجعلهم أبطالًا قاد إلى صناعة للنجوم، وهي صناعة لا تفهم إلا من خلال ربطها بحضور الإنسان على الشاشة وعلاقة المتفرج بالاستعراض، وبالاقتصاد الرأسمالي والتصور الاجتماعي للحضارة البرجوازية.
إن الاستعمال التجاري للنجم ينقل العبودية إلى السلعة بشكل سلس، بحيث تعمد شركات الإنتاج إلى خلق التماهي بين السلعة والنجم وصفاته وملامحه وبنيته الجسمية، وهي الأمور التي يتم صُنعها من قبل أطباء ومراقبين، حيث أنقذت النجوم شركات عديدة من الإفلاس، بعد أن تصدرت وجوههم اللوحات الإعلانية.  تجاوز دور النجم إطار شاشة السينما، وأصبح فاعلًا في تسيير حلقات البرامج الإذاعية، والترويج لمنتجات، والعمل الصحفي، وحتى الانتخابات.  إن ولادة النجم تعتبر الحدث الأكبر ضخامة الذي عرفته الصناعة السينمائية، فعصرنا هذا هو عصر النجوم الذين اخترعتهم السينما وسلطت الضوء عليهم، وهكذا انقلب أمل تمثيلها للواقع إلى نسيان الواقع عبر إفراغه من الهم السياسي والثقافي.

الفيلم الوثائقي والسينما
هكذا نجد من يدافع عن الفيلم الوثائقي ضدًا على السينما، بحيث تقول دزيجا فيرتوف إن «السينما الروائية مسممة وهالكة، والمستقبل للأفلام الوثائقية»، إذ بإمكانها تمثيل الواقع، حيث إن الفيلم الوثائقي هو فيلم عن الحياة الواقعية، فهو «يسعى حثيثًا لعرض الحياة الواقعية ولا يعالجها». إن وصل الفلسفة بالسينما تعترضه العديد من العراقيل بسبب التعارض القائم بين الفلسفة والسينما الذي يتجسد في شكل اعتراضات على القول بإمكان عمل سينما فلسفية، يحددها توماس ورتنبرغ في: اعتراض الشمولية والصراحة والتفاهة. إن شمولية القول الفلسفي تتعارض وتجزيئية الفيلم السينمائي، وصراحته تتعارض وواقع الفبركة والتضليل الذي تجسده الأفلام السينمائية، ومقاربة الفلسفة للإشكالات التي تهم حياة الإنسان تتعارض وثقافة الفرجة والاستهلاك التي تنشدها السينما. 
حسبنا هنا أن نأخذ مثالًا على اعتراض الشمولية، حيث يسترشد ورتنبرغ بمحاورات أفلاطون قائلًا بأن سقراط كان «يبحث عن تعاريف شمولية للعديد من المفاهيم الفلسفية من قبيل: العدالة، الأخلاق، والحقيقة.  في محاورة مثل الجمهورية حاول سقراط تعريف العدالة، رافضًا القول بأنها إرادة الأقوى، وطرح رؤية جديدة بشكل راديكالي، فكانت بذلك العدالة هي قيام كل واحد بالدور المنوط به». 
إن شمولية التعريف الفلسفي التي جسدها سقراط لا تعكسها السينما، فالعدالة السقراطية - الأفلاطونية تعكس الطبيعة الحقة والعقلية لهذا المفهوم، بشكل يجعله يحوي كل الحالات الجزئية ولا يرد إلى واحدة منها، أو يتحدد على أساسها كما هو حال التعريف السفسطائي القاضي بما هو سائد والمتمثل في كون العدالة تجسيدًا لإرادة الأقوى، متماهيًا بذلك مع الواقع في نسخته المشوهة.  لكن إلى أي مدى يصح الحديث عن السينما بصيغة المفرد؟ وكيف يمكن للفلسفة أن تتشبث بأداء رسالتها وهي تتموضع كنقيض لعالم الصورة الذي يشكل طريق وصول إلى الجمهور، دائمة التجدد؟ وهل يمكن أن تشكل الصورة مفهومًا يفكر من خلاله فيلسوف اليوم، حتى لا تبقى الفلسفة غريبة عن شباب العصر ونسائه ورجاله؟

السينما تجريب فلسفي
نهض طرح بديل حاول النظر إلى السينما كتأويل وكتجريب فلسفي؛ تعمل من خلالهما الأفلام السينمائية على توضيح النظريات الفلسفية، فتكون بذلك نقدًا للمجتمع على الطريقة الفلسفية. في هذا الصدد يعتبر فيلم «ماتريكس» مثالًا جيدًا يثير إشكالات فلسفية تقود إلى طرح فرضية شك يقض مضجع الراحة التي يكنها الإنسان للتقنية.  وبهذا، ينهار إمكان الحديث عن السينما بصيغة المفرد، فلابد أن تعمل السينما على الوقوف على التأويلات الفلسفية المثمرة للفيلم بشكل يعكس تفكيرًا فلسفيًا. 
إن الفلسفة صديقة السينما، تتوحد لديهما الغاية وإن اختلف المنهج، ففي السينما حسب دولوز هناك «صور- زمن، أي صور- ديمومة وصور- إضافة، وصور حجم فيما وراء الحركة نفسها»؛ أي إن السينما تحايث الدفق المتجسد في الحياة. فالفلسفة ليست نسخًا للواقع، إذ كلاهما يشكل تدخلًا فيه، الفلسفة مثل السينما تنطلق من هذا الواقع لكن لا تُرد إليه، إنهما ينطلقان منه بغرض نفيه وتجاوزه، مادامت غاية الفلسفة هي التجاوز المستمر لعلاقات القوة والسلطة التي تتخذ أشكالًا مختلفة تُحل فيه تعاقبيًا، بحيث تنتقل من الشكل الذي كُشِف عنه فلسفيًا إلى شكل لا يزال لم يُكشف عنه بعد، الأمر الذي يطبع مهمة الفلسفة بالتجدد، ويطبع السينما بناءً على ذلك بطابع الفلسفة،  فـكاليكليس وسقراط نقول إن بينهما علاقة، لكنها في الحقيقة ليست بعلاقة، إنها نفي العلاقة، لأن معنى أن تكون مع قول سقراط هو ألا تكون مع قول كاليكليس، فالفلسفة لحظة قطيعة تعكس طبيعة التفكير. 
إن علاقة الفلسفة بالواقع كما هي علاقتها بالسينما، علاقة مفارقة تقود إلى إبداع تراكيب على الشاكلة الهيغلية والدولوزية، تنطلق من بساط المحايثة دون أن تنتهي إلى إعادة نسخه على شاكلة المفهوم الفلسفي عند دولوز، فالفلسفة اختراع لتراكيب جديدة، وعبر هذه التراكيب تحدث القطيعة، والسينما مهمة جدًا لأنها تعدد من التراكيب الممكنة، وتشكل علاقة فريدة تجمع بين الاصطناعي والواقعي.  السينما على الحقيقة تنسخ الواقع في الوقت نفسه الذي تصنع فيه لنفسها بُعدًا تامًا عن هذا النسخ.

استخلاص
هناك لحظات سينمائية/ فلسفية اضطلعت فيها السينما بحمل رسالة الفلسفة، فمثلًا «في أمريكا حيث الملايين من المهاجرين الجدد لم يكونوا يعرفون اللغة الإنجليزية بعد، كانت السينما الصامتة هي التسلية الأكثر ملاءمة لثقافتهم المحدودة ورغبتهم في المتعة الهروبية بعد يوم عمل شاق». فقد جسّدت حسًا جماليًا به توحدت الألسن الناطقة بلغات مختلفة، وأسست فضاء للتلاقي والتشارك، فهي توسع من قدرة الفلسفة على أداء مهمتها، من خلال جعلها تفكر بالصورة التي لا ترتبط بلسان، وإذا لم تستسغ الفلسفة هذه الرسالة التي توجهها لها السينما فسيكون عليها أن تتحمل نتائج ذلك، والتي لا يمكن أن تتجسد إلا على شاكلة نسيان للفلسفة، فلابد من فيلموسوفي، حيث إن التعدد الهائل لوسائط الصورة المتحركة في القرن الواحد والعشرين يعني أن الفيلم قد أصبح بالنسبة لنا هو العالم الثاني الذي نعيش فيه، عالم ثانٍ يغذي إدراكنا وفهمنا للواقع.

السينما وعصر الصورة
لقد بات الفلاسفة اليوم يدركون أن طبيعة التجربة الجمالية كشكل من أشكال المعرفة هي بنفس فعالية الفكر المنطقي، وأن عصر الصورة يتطلب تفكيرًا جماليًا، وهو التفكير الذي جسدته العديد من الأفلام السينمائية التي جعلتنا نفقد أجسادنا لتستولي عقولنا علينا، وتعمل وحدها وقد اشتبكت مع العالم الفيلمي وتعلقت به، لذلك تنطبع عودتنا إلى الواقع كما هو بقلق ناتج عن العشوائية السائدة فيه، وبذلك يمكن القول بأن السينما لم تكن أبدًا ولن تكون مجرد نسخ مباشر للواقع. إن السينما علم قائم بذاته، وفي ذلك قدرة مكتنزة تتيح إمكانية تغيير الواقع. 
إن السينما تعمل على إعادة تشكيل لقائنا بالحياة، وتوسع من إدراكاتنا وتجعلنا بذلك نسأل عن الطريقة التي تدرك بها عقولنا. يقول ولتر بنيامين: هناك طبيعة مختلفة تفصح عن نفسها للكاميرا أكثر مما تفصح عن نفسها للعين المجردة، فالسينما ليست مجرد تصوير آلي، وليس في ذلك عيب كما تبادر إلى الذهن في الطرح الأول القاضي بفصل الفلسفة عن السينما، وفي ذلك أيضًا فهم مغلوط لعلاقة الفلسفة بالواقع، ومن ثم علاقة السينما بالفلسفة. 
إن السينما تضيف إلى الواقع لقطات متخيلة ومخلوقة بقوة الإبداع الكمبيوترية. فأنطولوجيا الفيلموسوفي هي تحويل الواقع، حيث إن تقييد كل السينما بالواقع يحرمها من إمكانية الشعور السينمائي، الذي يجعل السينما تبدو كأنها تصنع واقعًا، هو عالم المستقبل، بذلك يكون للسينما عالمها الخاص المتحرر من الواقع كما هو، إنها حرة، لها كينونتها الخاصة، وكأنها إله مشغول بالتفكير في عالمنا ومصيره، وهي إذ تبتعد عن الواقع تتجه نحو العقل الذي يخلق هذا التحول في الشكل، يعيد خلق العالم بطريقته الخاصة، فالفيلم يصنع مكانًا مقصودًا من خلال تفكير منطقي وغير منطقي. 
هكذا يكون بالإمكان بعد الإقرار بوجود كينونة سينمائية الإقرار بأن لهذه الكينونة عقلًا تفكر به تفكيرًا سينمائيًا، وهو العقل السينمائي الذي ينفلت من قبضة الأنساق الصورية، فمع الفيلموسوفي ينبغي أن يعاد بناء الأنساق بحيث تكون أكثر مرونة وانفتاحًا، فتكون السينما على هذا الأساس نوع من الفكر، مفاهيمه صور، غايتها خلق إمكانات جديدة للعيش، بشكل لا تكون معه الحقيقة إحالية قائمة على المطابقة، ولا برهانية، بل آتية مستقبلًا. وبهذا ينبغي الحديث بلغة الفيلموسوفي، لا بلغة الفلسفة والسينما التي باتت مرتبطة بالتفكير الكلاسيكي، بمعنى أنه ينبغي الاعتراف بتداخلهما اللامحدود، الذي يجعل السينما تقدم الفلسفة. 
ختامًا، لابد من العمل من خلال السينما على نحو فلسفي يسمح بالحديث عن سينما فلسفية وفلسفة سينمائية غايتها خلق المفاهيم، حيث إن الفيلموسوفي مصممة باعتبارها فلسفة عضوية للسينما، فالعقل السينمائي يسمح للمتفرج بمعايشة الفيلم كدراما تنبع من ذاتها، تجعلنا أمام كينونة سينمائية وظاهراتية سينمائية وسرد سينمائي وعقل سينمائي وتفكير سينمائي بما هو فعل الشكل السينمائي من أجل التشكيل الدرامي لهدف العقل السينمائي ■