المقدّمات الطَّلليّة في الشعر الجاهلي... قراءة بينيّة مقارنة

المقدّمات الطَّلليّة في الشعر الجاهلي... قراءة بينيّة مقارنة

  على الرّغم من قِدَمِ مقولة «الأدب ابن بيئته» النقدية، فإنّها لا تزال تصلح، في مقولاتٍ غيرها، لقراءة الظواهر الأدبية المختلفة، ومنها ظاهرة الوقوف على الأطلال التي عرفها الشعر العربي في العصر الجاهلي؛ ذلك أن طبيعة الحياة في بيئة معيّنة لابدّ أن تترك أثرها في الأدب بتجلّياته المتعدّدة لاسيّما الشعرية منها، وهذا ما ينطبق على البيئة الصحراوية بطبيعة الحال؛ فقلّة موارد العيش في هذه البيئة والسعي في طلبها والصراع القَبَلي عليها جعلت الحياة فيها تقوم على الارتحال الدائم طلباً للكلأ والماء أو تجنّبًا لغزوٍ وشيك، حتى إذا ما رحلت القبيلة عن مكان معيّن مخلّفة أطلالها فيه ومرّ بها شاعر كانت له سابقة حب مع إحدى بنات القبيلة وقف على تلك الأطلال التي عبثت بها عناصر الطبيعة باكيًا، مستبكيًا، يسائل تلك الأطلال عن حبيبته الراحلة، لكنها لا تجيب عن سؤاله، فيعكف على لواعجه المستثارة ويصوغ تجربته شعرًا شجيًّا يكشف عجزه أمام الزمان والمكان، ويشي بأن الإنسان هو الحلقة الأضعف بين هذه الأقانيم الثلاثة.

 

 كان الوقوف على الأطلال غرضًا شعريًا تُفتتَح به القصيدة في العصر الجاهلي حتى إذا ما خلت منه اعتُبرت بتراء، وهو ما تؤكده المعلّقات السبع موضوع هذه القراءة المتأخرة لنصٍّ شعري متقدّم. 

 مقدمة القصيدة
  في الشكل، يرد الوقوف على الأطلال في مقدّمة القصيدة، ويتراوح عدد الأبيات في المقدمة الطللية الواحدة بين صفرٍ بيتًا كما نرى في معلّقة عمرو بن كلثوم التي يبدأها بمقدمة خمرية: 
ألا هبّي بصحنِكِ فاصبَحينا     
 ولا تُبقي خمورَ الأنْدَرينا
مشعشعةً كأنّ الحُصَّ فيها     
 إذا ما الماءُ خالطَها سَخِينا
وبين خمسة عشر بيتًا كما نرى في معلّقة لبيد بن ربيعة، فضلًا عن أبيات متناثرة في ثنايا هذه المعلقة أو تلك. على أنّ الوقوف على الأطلال غالبًا ما يقترن ببكاء الواقف وذكر الحبيبة وتحديد المكان ووصف ما طرأ عليه من تحوّلات بفعل عناصر الطبيعة ومرور الزمن. 
في المضمون، ليس الوقوف على الأطلال مجرّد بكاءٍ «على رسم درس» كما رأى الشاعر العباسي أبو نواس، ذات قصيدة، ساخرًا، مستبطنًا نوعًا من الشعوبية الأدبية، ولا مجرّد بكاءٍ من ذكرى عابرة أو مكانٍ متحوّل، بل هو أبعد من ذلك بكثير، إنه بكاء الإنسان نفسه التي ستدرس ذات يوم، وتعبيرٌ عن عجزه في مواجهة مصيره الحتمي الآيل إلى الزوال. وبهذا المعنى، لا يعود الوقوف على الأطلال طقسًا انفعاليًا عابرًا تُستهَلّ به القصيدة بل يصبح أفقًا مفتوحًا على الفلسفة، يطرح أسئلة الوجود والحياة والموت. ولعل الشاعر يرمي، من خلال هذه التقنية، إلى إثارة فضول المتلقي وإذكاء حساسيته العاطفية ودفعه إلى المشاركة والإصغاء، وهي تقنية مشروعة ومبرّرة.

قواسم مشتركة
  إلى هذه المشترَكات، في الشكل والمضمون، ثمة قواسم مشتركة تأتلف فيها المقدّمات، وثمة فوارق ذاتية تختلف فيها؛ فهي تأتلف في المرور بالديار والوقوف على أطلالها ورصد التغيير اللاحق بها وذكر الحبيبة. وتختلف في موقع الديار ودرجة التفاعل وسبب التغيير وعدد الواقفين على أطلالها واسم الحبيبة، ممّا نعرضه في هذه العجالة.
جاء في تاريخ الأدب العربي أن «امرأ القيس أوّل من فتح الشعر واستوقف، وبكى الدمن ووصف ما فيها...» في معلّقته الشهيرة التي يبدأها بالقول:
  قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ  
 بسقطِ اللوى بين الدَّخول فحوملِ 
فتوضحَ فالمقراةِ لم يعفُ رسمُها
   لما نسجَتْهُ من جنوبٍ وشمألِ
 وهكذا، نراه يستهل معلّقته باستيقاف رفيقيه، واستبكائهما من ذكرى حبيب ومنزل في منقطع الرمل الواقع بين الدَّخول وحومل وتُوضِحَ والمقراة، ولا تزال رسومه ماثلة للعيان بفعل تعاوُرِ ريحين اثنتين، جنوبية وشمالية، عليها، تهبّ الأولى فتحجبها، وتهبّ الثانية فتكشفها من جديد، في نوعٍ من العبث تقوم به العناصر الطبيعية بالمكان. وبذلك تبقى الرسوم شاهدة على حبيب راحل وزمان آفل ومكان متحوّل، وتعكس عجز الإنسان الزائل أمام الرحيل والأفول والتحوّل، فيلجأ في مواجهة العجز إلى البكاء عندها علّها تشفيه ممّا يعاني منه، غير أنه يعلم علم اليقين أن الرسوم الدارسة لا يُعوّل عليها:
وإن شفائي عبرةٌ مُهراقةٌ   
هل عند رسمٍ دارسٍ من معوَّلِ؟
لذلك، يلجأ الشاعر إلى الشعر، ويتحرّر به من عجزه البشري، ويشهره في وجه الموت الذي يتربّص به، عاجلًا أو آجلًا.

وإذا كان امرؤ القيس وقف واستوقف، وبكى واستبكى، على أطلال حبيبته المسمّاة بعنيزة والملقّبة بفاطمة، واختلف عدد الواقفين معه بين مثنّى يشاركه البكاء في مطلع القصيدة وجمعٍ يطلب منه التجمّل بالصبر في بيت آخر منها، وتراوح تفاعله مع الموقف بين البكاء والتجلّد، فإن طرفة بن العبد يقف على أطلال خولة ببرقة ثهمد في جمعٍ من صحبه يطلب منه التجلّد:
    لخولةَ أطلالٌ ببرقةِ ثهمدِ    
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ 
وقوفًا بها صحبي عليَّ مطيّهم  
  يقولون لا تهلك أسًى وتجلَّدِ
والمفارقة أن البيت الثاني في هذه المقدمة ورد هو نفسه عند امرئ القيس باستثناء الكلمة الأخيرة منه، في إشارة إلى مقولة «وقوع الحافر على الحافر» التي عرفها النقد العربي القديم. 
على أن تشبيه الأطلال بباقي الوشم في ظاهر اليد، وعملًا بالمقولة نفسها، نجده في معلّقة زهير بن أبي سلمى التي يستهلّها باستفهام إنكاري تليه صيغة خبرية يستخدم فيها المشبّه به نفسه:
أمنْ أُمِّ أوفى دمنةٌ لم تكلَّمِ   
بحومانة الدرّاج فالمتثلّمِ
ودارٌ لها بالرقمتين كأنها   
مراجعُ وشمٍ في نواشرِ معصمِ
غير أن زهير بن أبي سلمى في وقوفه على أطلال أمِّ أوفى يختلف عن زميليه السابقين في زمن الوقوف وردّة الفعل، فهو يفعل ذلك بعد عشرين عامًا من رحيل الحبيبة عن الدار، ويلقي التحية على الرّبع ويدعو له بالسلامة:
وقفْتُ بها من بعدِ عشرينَ حِجَّةً
فلأيًا عرفْتُ الدار بعدَ توهُّمِ
فلمّا عرفْتُ الدارَ قلْتُ لربعِها  
ألا انعِمْ صباحًا أيّها الرّبعُ واسلمِ
- وهو ما يفعله الشاعر الجاهلي الآخر عنترة بن شداد حين يقف بين يدي دار حبيبته عبلة مناديًا إياها، طالبًا منها الكلام، ملقيًا عليها التحية وداعيًا لها بالسلامة:
يا دارَ عبلةَ بالجَواءِ تكلَّمي   
وعِمي صباحًا دارَ عبلةَ واسلمي
فوقفْتُ فيها ناقتي وكأنها  
 فَدَنٌ لأقضي حاجة المتلوّمِ
وهكذا يلتقي ابن شداد مع ابن أبي سلمي في إلقاء التحية على الدار والدعاء لها، ويفترق عنه في المكوث عندها ليقضي حاجته من الجزع والبكاء رغم شجاعته، فالبكاء ليس وقفًا على العاديّين من بني البشر، والشجاع حين يدلّهه الحب لا يكون بمنأى عن الجزع والبكاء، ولنا في عنترة خير مثال. على أن هذا الأخير لا يكتفي بتحيّة دار كانت عامرة بأهلها ذات يوم، بل يتعدّى ذلك إلى تحيّتها بعد أن خلت منهم وتحوّلت إلى طلل قديم العهد:
حُيّيْتَ من طللٍ تقادمَ عهدُهُ  
أقوى وأقفرَ بعدَ أُمِّ الهيثمِ

ولئن كان طرفة بن العبد قد وقف على أطلال خولة ببرقة ثهمد مصغيًا إلى نداء صحبه بالتجلّد، فإن صنوه الحارث بن حلزة وقف على أطلال أسماء ببرقة شمّاء باكيًا عندما لم يرَها في تلك البرقة، ورغم علمه أن البكاء لا ينفع، لكنّ للدَّلْه أحكامه:
آذنَتْنا ببينِها أسماءُ   
ربَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثّواءُ
بعدَ عهدٍ لنا ببرقةِ شمّا
ءَ فأدنى ديارِها الخَلْصاءُ 
لا أرى من عَهِدْتُ فيها فأبكي الـ    
يومَ دلْهًا وما يُحيرُ البكاءُ
هذه السلوكيات المتفرّعة عن ظاهرة الوقوف على الأطلال، المتفرّقة على المقدّمات الطلليّة المذكورة أعلاه، تجتمع في مقدمة لبيد بن ربيعة الطللية، بدءًا من عَفاء الديار وتوحّشها وتعرية رسومها، مرورًا بتشبيه الأخيرة بالكتابة والوشم، وصولًا إلى سؤالها عن الأحبة الراحلين وعيّها عن الجواب؛ ففي معرض وصفه الديار العافية وتوحّشها ومثول رسمها للعيان وتشبيهه بالكتاب المحفور على الحجر، يقول:
عَفَتِ الديار محلُّها فَمُقامُها    
بمنًى تأبّدَ غولُها فرجامُها
فَمَدافعُ الريّانِ عُرِّيَ رسمُها   
 خَلَقًا كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
وفي معرض تشبيه الطلول، يضيف إلى المشبّه به الآنف ذكره مشبَّهيْنِ بهما اثنين هما الكتابة التي تُجدّدها الأقلام ورجع الواشمة على الجلد:
وجلا السيولُ عن الطلولِ كأنها 
  زُبُرٌ تُجِدُّ متونَها أقلامُها
أو رجعُ واشمةٍ أُسِفَّ نؤورُها   
كِفَفًا تَعَرَّضُ فوقهنّ وِشامُها
وفي معرض سؤاله الأطلال يدرك أنّها لا تجيب وقد عَرِيَتْ من المقيمين فيها، لكنّه لا يتورّع عن طرح السؤال، لعلّه يسمع جوابًا:
فَوَقَفْتُ أسألُها، وكيفَ سؤالُنا   
صُمًّا خَوالِدَ ما يَبينُ كلامُها
عَرِيَتْ وكانَ بها الجميعُ فَأبكَروا  
 منها وَغُودِرَ نُؤيُها وَثُمامُها
وهكذا، يجمع لبيد بن ربيعة في مقدّمته الطلليّة الطويلة ما تناثر من عناصر ظاهرة الوقوف على الأطلال الأدبية في مقدّمات الشعراء الآخرين، ولعل هذا الجمع هو ما يفسّر طول المقدّمة مقارنةً بالمقدّمات الأخرى.
 وبعد، وعلى الرّغم من أن ظاهرة الوقوف على الأطلال شكّلت مجالاً خصبًا للشعوبية الأدبية في العصور اللاحقة لاسيّما العباسي منها، وتمَّ تناولها بالسخرية والاستخفاف من شعراء كثيرين ينزعون مَنْزِعًا شعوبيًا في منظورهم الشعري، فإن التعمّق في فهم الظاهرة بما يتخطى السطح واعتبارها مجرّد بكاءٍ على رسم درس ينطوي على قدر كبير من السطحية وسوء الفهم، ذلك لأن الوقوف على الأطلال هو في العمق نوع من مساءلة الوجود والشعور بوطأة الزمان ورصد تحوّلات المكان والتعبير عن عجز الإنسان في مواجهة الموت.  وبهذا المعنى يغدو الوقوف على الأطلال ظاهرة حداثية بامتياز، ونحن كنّا، ولا نزال نمارس هذه التقنية بشكل أو بآخر، وسنبقى ■