قراءة في مجموعة «خنافس مضيئة» للهايكيست سامح درويش شعر الهايكو... جماليات وأسئلة

قراءة في مجموعة «خنافس مضيئة» للهايكيست سامح درويش شعر الهايكو... جماليات وأسئلة

اختار الشاعر المغربي سامح درويش منذ بداياته أن يكون حداثيًا كتابةً وموقفًا، مراهنًا على التجريب والقطع مع أشكال الكتابة التقليدية. وكان لافتًا عند سامح درويش الانحياز إلى قصيدة النثر باعتبارها الشكل الشعري المجسد لحداثة الكتابة بعيدًا عن الوزن العروضي والصيغ اللغوية التقليدية تركيبًا وتصويرًا.

 

كتب الشاعر سامح درويش القصة القصيرة والرواية والشعر، غير أنه استقر أخيرًا على تجربة شعرية جديدة في الشعر العربي وآمن بها... هي شعر «الهايكو» الياباني الأصل والتسمية. هذا الاختيار الشعري عند الشاعر سامح لا أسميه منعطفًا بل أراه امتدادًا لقناعاته السالفة المؤمنة بالتجريب والانفتاح على التجارب الأدبية الكونية والأخذ منها دون حرج أو تحفظ، وقد رأى في شعر الهايكو شكلًا يستجيب لقناعاته الإبداعية. ولعل قوله في افتتاح مجموعته «خنافس مضيئة» (الصادرة عن منشورات الموكب الأدبي سنة 2015) يفصح بجلاء عن هذا الأمر: «يأخذ فن الهايكو مكانه في مشهدنا الثقافي بوصفه أفقًا ممكنًا للمساهمة في تحرير الشعرية العربية من قبضة النموذج الجاهز، والتخلص بمقدار من أصباغ البديع وأثقال البيان لصالح زوايا جمالية جديدة تنبثق من فلسفة الاستنارة، وتستمد بناءها من عناصر المشهدية الحية والدهشة الخلاقة».

تعريفه وخصائصه
وعن تعريف الهايكو وخصائصه يقول في الافتتاحية نفسها: «ويسألونك عن الهايكو... قل إنه احتكاك تلقائي للإنسان بالطبيعة والمجتمع من حوله... إنه تدفق ضوء في جوف الظلمة من ثقب الرؤية... إنه بالنسبة لي أشبه ما يكون بالتماعة عيني قط في الظلام، عليّ أن أوصلها إلى المتلقي بما يعادل دهشة وجمالية وتلقائية تلك الالتماعة كما تحدث على حين غرة في الواقع... إنه شحنة دهشة خاطفة تنقشع في دفقة واحدة، لتبقى مثل نقش ضوء على صفحة الروح... ثم يسألونك عن مناجزة الهايكو كيف تكون، قل إنها لحظة استنارة كاشفة، تأتي بغتة كأي رعشة وجودية لم تكن في الحسبان، ثم تتشكل شهابًا مدهشًا، ما يجعل من ممارسة الهايكو مثل صلاة في الهواء الشعري الطلق، صلاة يلتحم فيها المشهد أو اللحظة بالحمولة الرؤيوية للهايكيست لتتفتق الدهشة بصفاء وبراءة... فلا يذهبنّ أحد للبحث عن الهايكو عبر تمرينات ذهنية أو فذلكات لغوية، لأن الهايكو عادة هو الذي يأتي بفجائية وبساطة من غير أي بهرجة أو كرنفالية زائدة». 
هذا التعريف تمتزج فيه لغة التقعيد بلغة التصوير، لغة الناقد بلغة الشاعر. وما يهمنا فيه هو اللغة التقعيدية لأنها إجرائية في ضبط هذا الشعر ومن ثم المرور إلى إبراز خصائصه. 
في التقعيد نقف على جملة خصائص في هذا الشعر هي:
الاحتكاك بالطبيعة والمجتمع، التقاط الواقع بتلقائية لكن بخلق الدهشة، الدفقة الواحدة، ارتباط اللقطة بالحمولة الرؤيوية للهايكيست، البساطة والابتعاد عن الفذلكات اللغوية والبهرجة الزائدة:
يأتيه صوت أبيه:
دعوا نصيب الطير،
حبات زيتون في الشجرة
هذا المقطع المقدم مثالاً لا حصرًا يجسد العناصر السالفة، فهو احتكاك بالطبيعة من خلال ملاحظة الهايكيست حبات من الزيتون متبقية في الشجرة، واحتكاك بالمجتمع وتقاليده من خلال صوت الأب الموصي بترك نصيب للطير في الثمار، كما يوصي أي فلاح بالصدقة والصدقة الجارية، والمشهد تلقائي تأتيه دهشته من الربط بينه وبين الصوت/الوصية، وهو دفقة شعورية موضوعية ولغوية واحدة لا تتشظى أو تتمطط، وهو مقطع بسيط اللغة لا تأنق فيه من صنعة بديع أو بيان مما يطبع الشعر العربي عادة. واللقطة ارتباط بالحمولة الرؤيوية للهايكيست، وهي رؤية فنية تقوم على ما ذكر، ورؤية فكرية تنتصر لقيم الرحمة بالمخلوقات. غير أن الرؤية الفكرية ليست حاضرة دائما في الهايكو، إذ يكتفي الهايكيست أحيانًا بتسجيل اللقطة دون موقف فكري مثل هذا المقطع:
على معطفه الكشمير،
شعرة طويلة 
تعلن قدوم العاصفة
فالمقطع موقفً ليس إثباتًا للخيانة أو شجبًا للشعرة الطويلة على الكشمير، وليس مع مثيرة العاصفة أو ضدها، إنما هو ملتقط للإشارة كي يحولها إلى إثارة.

بنية الهايكو
شعر الهايكو في ديوان «خنافس مضيئة» كما في الشعر الياباني والعربي محدد في بنية ثابتة لا تتغير، وهي مقاطع يتكون كل واحد منها من ثلاثة أسطر قصيرة، وكل مقطع ينتهي تركيبًا ودلالة ولا علاقة له بسابقه أو لاحقه إلا ضمن المعنى العام الواسع للمجموعة.
هذه البنية الثابتة خطًا تحكمها عناصر دلالية وتركيبية ولغوية تشكل جوهر صياغة الهايكو ورهانه الجمالي. البنية القصيرة للهايكو تجعل المناورات محدودة مكشوفة ومن هنا صعوبة الهايكو، وصعوبته هي قوته عند هايكيست كبير، واستسهاله هو ضعفه عند ممارس بلا زاد أو خبرة. مقطع الهايكو الثلاثي ينقسم دلاليًا إلى المشهد الذي يثير الانفعال وهو ما أسميه «الإشارة»، وردّة الفعل وهو ما أسميه «الإثارة». ونظرًا لقصر المقطع فإن ورود هذين العنصرين لا يخرج عن ثلاث صيغ هي:
البدء بالإشارة، أو البدء بالإثارة، أو مزجهما .
فمن صيغ الابتداء بالإشارة نقرأ هذا المقطع:
ببابكِ بيت عنكبوت
لكنّ قلبي 
يقع فريسة عينيك
إن بيت العنكبوت بباب الحبيبة هو المشهد أي الإشارة وهو مشهد عادي نراه في بيوت كثيرة. لكن هذه الإشارة العابرة التقطها الهايكيست لكي تثير في نفسه حضور الحب على باب المرأة وحضور الافتراس عند العنكبوت وربما حضور الضعف والوهن في خيوط العنكبوت ليربطها ضمنيًا بقلبه المثخن حبًا. هذه الإثارات توحدت في إثارة جامعة هي أن يكون قلبه مفترَسًا بعينيها.
ومن صيغ البدء بالإثارة نقرأ هذا المقطع:
ماذا تقصدُ الريح؟
أنا أُزَرِّرُ قميصي
 وهي تَفُكُّ
جملة «أنا أزرر قميصي وهي (الريح) تفك» التي تشير إلى ظاهرة عادية بين الثوب والريح تأخرت عن جملة الإثارة الاستفهامية «ماذا تقصد الريح؟» وهي حضور معنى التحرش والغواية ونسبته للريح، بل بحمولة نكتة شعبية عن سؤال أحدهم حول ذكورة أو أنوثة الريح، والإجابة بأن الريح ذَكر لأنه يرفع تنورة الأنثى كلما هبّ. والمعنى يقدم هنا عكسيًا لأن الريح هي التي تفك أزرار الشاعر. ومن صيغ مزج الإشارة بالإثارة أقدم هذا المقطع: 
جسدٌ تاكتيلْ 
بِسبّابَتي وإبْهامي 
أُكَبِّرُ نَمْشَ الصّدر
المقطع تركيبيًا مقسم إلى جملتين هما: «جسد تاكتيل» و«بسبابتي وإبهامي أكبّر نمش الصدر». الجملة الأولى إشارة وإثارة، فالجسد مشهد، لكنه مختلف عن الجسد في الواقع. هل هو ضوئي بمعنى جميل رقيق البشرة؟ هل هو ضوئي بمعنى صورة ضوئية لجسد امرأة جميلة؟ وهذه المجاورة المدهشة بين كلمتي جسد وتاكتيل تُخرج الجملة من المشهدية الطبيعية إلى مشهدية مجازية مثيرة. والجملة الثانية تحمل الإشارة من خلال مشهد عادي هو تكبير الصور على الهاتف، وتحمل الإثارة من خلال تكبير النمش على الصدر شهوة وافتتانًا. 

جماليات الهايكو 
 في التعريف الذي قدمه الشاعر سامح درويش للهايكو نجد العبارة التالية: «فلا يذهبن أحد للبحث عن الهايكو عبر تمرينات ذهنية أو فذلكات لغوية، لأن الهايكو عادة هو الذي يأتي بفجائية وبساطة من غير أي بهرجة أو كرنفالية زائدة». وهذه عبارة تنفي عن الهايكو البهرجة اللغوية والاستعراض اللغوي والبلاغي القريب من مفهوم التصنع في النقد القديم. لكن الهايكو يظل إبداعًا لغويًا ولا يمكن للإبداع أن يُدهش ويُمتع دون لغة تقدم نصيبها من الجماليات التركيبية واللغوية والبلاغية. لغة الهايكو لا يمكن أن تكون نثرية وإلا خرجت من الشعر وسقطت في النثرية الجافة القصدية والتواصلية. 

جماليات تركيبية:
معًا مساء السبت
يدًا في يد 
البحر والسماء
إن البناء النثري اللغوي السليم لهذا المقطع هو: «البحر والسماء معا يدًا في يد مساء السبت». لكن الهايكيست يكسر جماليًا هذا البناء السليم رغم حفاظه على المعنى. جماليًا، يتأخر المبتدأ والمعطوف ليتقدم الحال «معًا» والظرف والمضاف إليه «مساء السبت» ثم الحال «يدًا في يد». ولإحساس الهايكسيت باللغة تركيبًا وصوتًا، فقد أخّر كلمتين تقريريتين هما البحر والسماء، ليقدم جماليًا تكرار السين في مساء السبت وتكرار يد في السطر الموالي وتوالي تنوينين للنصب في معًا ويدًا، مع تقديم جملة احتمالية «معًا مساء السبت يدًا في يد» التي تفتح أفق التأويل ثم إغلاقه سريعًا بجملة الابتداء التقريرية «البحر والسماء».
هذا التحوير في بناء الجملة يتكرر كثيرًا في المجموعة بصيغ مختلفة منها صيغة هذا المقطع:
النافورة، 
يا لَلمكيدة
 لتعذيب الماء
واضح أن الصيغة النحوية السليمة والأصلية للجملة هي «النافورة (ترفع الماء) لتعذيبه». 
ومِلْحُ هذا المقطع وشعريته التركيبية هما الجملة الاعتراضية التي دسها الشاعر في خاصرة المقطع «يا للمكيدة». هي جملة تخرق البناء النثري وتبني المفارقة الدلالية بين جمالية الماء في النافورة كما نراه عادة ورؤية الشاعر التي تراه مسجونًا معذبًا فيها مقيدًا من حركته الطبيعية في الجداول والأنهار.
هذا التحوير في البناء التركيبي يدل على إحساس الشاعر الخاص باللغة وتموقعاتها بالتقديم والتأخير والذكر والحذف. ومن جميل الحذف ونباهته عند الشاعر/الهايكيست سامح درويش حذف هاء التنبيه في اسم الإشارة ليس لضرورة عروضية كما عهدنا في النصوص الموزونة، لأن الهايكو لا يخضع لأوزان العروض بل لإحساس خاص بما يقدمه هذا الحذف من خفة وانسيابية وطرافة في التعبير، فنجده يكتب:
ذِهِ الفراشة
ترفرف حولي أكثر فأكثر
ظننتني أكتم ناري

جماليات لغوية : تهجين المفردة الشعرية
ارتبط التهجين عادة بالكتابة السردية وظلت لغة الشعر لغة معيارية أحادية، غير أن الشعر الحديث، وبخاصة قصيدة النثر، قد توسع في تهجين اللغة بإقحام مفردات غير عربية ضمن التركيب اللغوي، تحقيقًا لجماليات صوتية أو دلالية لا تحققها المفردة العربية في سياق شعري معين، وتفاوتت قدرة الشعراء على حسن توظيف كلمات غير عربية بين الإقحام الفج أو السائد المكرور أو المدهش. 
ومن نماذج التهجين اللغوي في هذه المجموعة اخترت مثالين، الأول هو:
Manucure،
من على أظافرها 
يطير الفراش
إن توظيف كلمة manucure مُوَطّن جيدًا في سياق الجملة وبنائها، فالكلمة ترتبط متخيلًا بالجملة اللاحقة الحاملة لصورة الفَراش الطائر على أظافر المرأة. فعلى (الأظافر/المانيكير) يمكن أن نضع أي لون وأي صورة. كلمة المانيكير تحيلنا على المشهد العام،والجملة اللاحقة تحدد هذا المشهد بتفاصيله. ولم يكن لأي كلمة أخرى غير المانيكير بناء هذا المشهد الطريف بحقيقته أو مجازه، بحرفيته أو احتماله. الهايكيست هنا لم يُهجِّن اللغة اعتباطًا وادعاء للتحديث بل هجَّنها ضمن سياق يخدم الدلالة بتركيز واقتصاد وتوطين جيد في كلمة واحدة هي مانيكير. مثال آخر أسوقه تمثيلًا لا حصرًا على حسن التهجين وتوطينه يتجسد في كلمة «تاكتيل» في هذا المقطع الذي درسته في سياق آخر:
جسد تاكتيل،
بسبابتي وإبهامي
أكَبِّر نَمْشَ الصدر
كلمة «تاكتيل» هنا لا تكافئها كلمة أخرى عربية في خلق مشهد تكبير صورة الجسد، أو وصف الجسد الضوئي حقيقة أو مجازًا.

جماليات بلاغية:
الهايكيست يظل شاعرًا في تعامله مع اللغة، ولغة الشعر تصويرية بالتشبيه والمجاز والكناية والرمز. هذه الأشكال التصويرية حاضرة في المجموعة لأن بساطة الجملة لا تعني دائمًا غياب التصوير. ومن نماذج التشبيه أقدم هذا المقطع:
مثل بيوت السكن الاقتصادي 
متشابهةً،
تبدو هذه القصائد
طرافة التشبيه وجدّته تتحققان في الجمع بين متنافرين غير متوقعين هما السكن الاقتصادي والقصائد. القريب في التشبيه أن يكون السكن الاقتصادي عُلب كبريت أو زنازين سجون أو جيتوهات (Ghettos)، لكن أن يحملك الهايكيست إلى جانب آخر ليس ضيق المساحة وإنما النمطية وغياب اللمسة الإبداعية في البناء وربطهما بقصائد خالية من اللمسة الفردية المبدعة، فذلك هو الجمع الجمالي بين المتنافر البعيد لتحقيق تقارب دلالي طريف. ومن نماذج الاستعارة المدهشة أسوق هذا المقطع:
صيفًا على صيف،
تتجعد الشمس يا أبي 
على ظاهر يدك
إن عبارة تجعّد الشمس على اليد الاستعارية إضافة إلى طرافتها وجدّتها تتعزز بكناية زمنية هي «صيفًا على صيف» وبتناص مع بيت طرفة الشهير:
 لخولة أطلال ببرقة ثهمد 
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
هذا التناص الذي يبدو جليًا في لغة هذا المقطع قد يخفيه الشاعر بدُربته فلا نحدده تعبيرًا بل نستشفه من روح النص ومثاله هذا المقطع:
حصوات الوادي،
لم يصقلها
سوى حنان الماء
المقطع يلتمع في الذاكرة سريعًا باستحضار قصيدة «شِعب بَوّان» للمتنبي:
وأمْواهٍ تَصِلُّ بها حَصاها 
صَليل الحَلْيِ في أيدي الغَواني 
الحضور الاستعاري معززًا ومعجونًا جماليًا وبلاغيًا بالكناية في مقطع تجعد الشمس أستحضره كذلك في هذا المقطع:
على الباب،
يد النحاس خرساء
لا تكلمها يد
التعبير المجازي/الاستعاري الذي يتحقق في عبارتي: «يد النحاس خرساء. ولا تكلمها يد» لا تكتمل دهشته إلا في كناية الهايكيست عن الهجران وغياب الطارق قريبًا أو ضيفًا. مع التقاط تصويري لمشهد الأبواب بالمدن العتيقة حيث يد النحاس على الخشب التي يَدق بها كل زائر كي يفتح له ساكن الدار بيته.
لقد قدم لنا الهايكيست/الشاعر سامح درويش في «خنافس مضيئة» كتابة جديدة مبدعة نجد فيها لمسته الإبداعية من خلال التركيز اللغوي وتكتيكات البناء التركيبي واقتراف التصوير والتهجين متى حققا جمالية معينة. هي مقاطع هايكو لأحد رواده عربيًا لا تغيب عنها الرؤية واللمسة اللغوية لشاعر وسارد. غير أن هذه الكتابة الجديدة تستوقفنا بأسئلة وجب طرحها على كل كتابة أصبح لها حضور في المشهد الأدبي وأصبح لها مبدعون أو كتاب.

أسئلة عن الهايكو 
إن الحضور الحديث للهايكو في المشهد الشعري العربي وانتشاره كتابة وتلقيًا يبرران عندنا ما يسائله ويستشرف مستقبله، ويحصنه من عبث المستسهلين والمدعين، وبذلك أقدم ما يلي من ملاحظات وأسئلة:
تعريف الهايكو بأنه كتابة التقاطية دون بهرجة لغوية جعل هذه الكتابة مستسهلة من بعض ضعاف المواهب اللغوية، فجاءت لغتهم تقريرًا باردًا حول مشاهد عامة دون جهد لغوي يمنح التميز والمتعة. وبما أن مقاطع الهايكو العربية لا تخضع للوزن العروضي فقد انتقل إليه بعض ممن كتبوا قصائد نثر هزيلة بعد أن استهلكوا أنفسهم فيها. الالتقاط كشف ورؤية للعالم، وليس تسطيحًا واستعراضًا لمشاهد عامة. الهايكيست لا يكتب إلا من خلال العين الإبداعية النفاذة إلى إنسانية المشترك وقيمه في المشهد وعمق دلالته، مع استواء الأسلوب وشدة أسره في كتابة يُفترض أن تكون بمنزلة حمية صحية ضد الترهل، وفي الآن نفسه ضد فقر الدم الأدبي وهزاله.
 الهايكو كتابة قصيرة الكم محصورة في ثلاثة أسطر، وهذا الكم القصير يجعل المناورة باللغة محدودة، وأي اتفاق بين «شعراء» على مشهد معين وإثارته سيجعل الفروق بين الأسلوبين ضئيلة إلى حد التشابه في المعنى والمبنى، ومن هنا يصعب الحكم على السبق والتجديد، ويصعب التحقق من السرقة المتعمدة ووقوع الحافر على الحافر مصادفة بين شاعرين وأكثر، كما أنه يجعل سرقة المشاهد من كتابات أجنبية وترجمتها أمرًا ميسورًا وواردًا لاسيما أن التكلفة اللغوية ليست دائمًا مستعصية لبساطة البنية التركيبية وأحيانًا اللغوية.  والكم القصير يطرح تحديات حقيقية على الشاعر/الهايكيست لخلق بصمته اللغوية، ذلك أن العدد المحدود من المفردات والتراكيب القصيرة قد يستهلك نفسه سريعًا إذا كان الهايكيست محدود اللغة والتجارب.
الجيل الحالي لكتاب الهايكو نعتبره الجيل الرائد، وكل كتابة رائدة ميزتها أنها تفتح أفقًا أمام الأجيال المجوّدة لهذا الفن، لأن التجويد يتطلب زمنًا وتراكمًا، فهل سيمتلك الهايكو الاستمرار نفسه ؟ وهل سيكون له فرسان مجيدون مُجَوِّدون يرقون به ويرسخون جمالياته ويُقنعون بها ويأخذون مكانهم في المشهد الإبداعي العربي إلى جانب الشعر وباقي أشكال الكتابة الأدبية المبدعة؟ سؤال سيجيبنا عنه الزمن. 
الزمن نفسه سيجيبنا عن سؤال آخر: هل الهايكو ضرورة إبداعية عربية أم كتابة عابرة؟ الجواب طبعًا في قيمة وجودة وحضور ما سيكتب ■