د. صلاح فضل جهود نقدية في السرد والشعر

د. صلاح فضل جهود نقدية في السرد والشعر

رحل الأستاذ الدكتور صلاح فضل عن عالمنا، تاركًا وراءه إرثًا ثقافيًا عربيًا، وآراء نقدية تتلمذنا عليها في مراحل دراستنا الجامعية وما بعدها، لتشّكل منصات انطلاق لكثير من وجهات النظر النقدية التي قدمناها في مختلف المحافل الثقافية العربية، إلى جانب الدراسات والقراءات النقدية لعدد من الأعمال الأدبية، سواء تقاطعنا مع أفكاره أو أضفنا إليها، مستعينين بوعينا النقدي. 
يتميز الفكر النقدي للدكتور صلاح فضل بالجانب الموسوعي لديه، لاطلاعه الدائم على الجديد في النقد الأدبي، عربيًا وعالميًا، ورغبته في طرق أبواب جديدة لعلم النص الأدبي، سرديًا أو شعريًا، وهو ما تعزز بجملة الإصدارات والدراسات والندوات وغيرها من الاجتهادات النقدية التي رفد بها الناقد الراحل المكتبة العربية، الأكاديمية والعامة.

 

يؤكد د. صلاح فضل في مقدمة كتابه (علم الأسلوب... مبادئه وإجراءاته) الصادر عن دار الشروق بطبعته الأولى عام 1998، على أهمية التعرف على تطور الغرب في الدراسات اللغوية، مع الاستزادة بمعين التراث اللغوي العربي، لتكييف الجديد مع الأصيل: 
«ومع أن مستوى الدراسات اللغوية الحديثة في العالم العربي المعاصر قد يؤذن بإمكانية احتضان البذور الأولى لعلم الأسلوب، بعد الجهود المضنية لجيلين من العلماء الذين تصدوا لاستنباطه وتعميق جذوره في أرضنا الصلدة، فإننا ما زلنا نعاني حقيقةً من قحط فلسفي جمالي، لم ترو غلته قطرات الغيث الندية التي انصبت عليه في السنوات الأخيرة إذ ما فتئ يحتاج إلى صوب هتون لا تبدو دلائله حتى الآن في الأفق، إلا أنه من الحتمي أن يتولد العلم لدينا بالطريقة نفسها التي نشأ بها في الغرب، بل إن تجربة البلاغة العربية القديمة تدعونا إلى الاعتداد بطرقنا الخاصة في التوليد والاحتضان». ومع اجتهاد أستاذنا فضل في محاولة ربط الجديد بالقديم، فإنه لاينسى جهود من سبقوه من نقاد عرب كان لهم قصب السبق في تدعيم النظرية النقدية العربية، فيذكر في المقدمة ذاتها سالفة الذكر بما يؤكد على أخلاق الباحث في احترام واستذكار من سبقه من أساتذة في مضمار الدراسات الأسلوبية:
«وحسب هذه الدراسة أن تكون امتدادًا لجهود الرواد الأوائل في فن القول والأسلوب في أفقنا العربي، أمثال الأستاذين الكبيرين أمين الخولي وأحمد الشايب، وأن تكون تحقيقًا جزئيًا لما راود خيال مؤسس النقد الجامعي الحديث الدكتور غنيمي هلال ولم يمهله القدر لإنجازه، وأن تلقي حفنة ولو يسيرة من الضوء على تطور الدراسات الأسلوبية الحديثة، وتشعب مبادئها اللغوية والجمالية قبيل العقد الأخير من القرن العشرين، وأن تكون مجرد مؤشر صائب لفجر صادق في الدراسات العربية الحديثة». 

ديمومة النص السردي
في كتابه (أساليب السرد في الرواية العربية) الصادر عن دار سعاد الصباح بطبعته الأولى عام 1992، يتناول د. فضل ديمومة النص السردي وديناميكيته في تجاوز ما هو تقليدي من الاتجاهات النقدية:
«لم يعد بوسع النقد المعاصر، أن يتحدث عن المادة القصصية اعتمادًا على مضمون الخطاب السردي وتوجهاته المذهبية، فقد انتهت سيادة الأيديولوجيا وشعاراتها القديمة، ولم تعد النوايا الطيبة هي التي تحدد مستويات الأعمال ودرجة أهميتها، فقد اتضح أن مستويات التوظيف ترتبط بالإنجازات التقنية والجمالية. ودخلت بصرفها ونحوها ودلالتها ومباحث الأسلوب بإشكالياتها المتعددة وأدواتها الإجرائية، ثم علم النص بما أسفر عنه من طرق تحليلية للأبنية الصغرى والكبرى وكيفية تراتبها، جاءت كل هذه العلوم لتصنع خرائط جديدة للحقول الإبداعية، واستحدثت معها مصطلحاتها وآلياتها». 
قدم د. فضل في الكتاب اقتراحًا بفرضية أولية هي وجود ثلاثة أساليب رئيسية في السرد العربي خاصة، وهي:
الأسلوب الدرامي: يسيطر فيه الإيقاع بمستوياته المتعددة من زمانية ومكانية منتظمة، ثم يعقبه في الأهمية المنظور وتأتي بعده المادة.
الأسلوب الغنائي: تصبح الغلبة فيه للمادة المقدمة في السرد، حيـث تتسق أجزاؤها في نمط أحادي يخلو من توتر الصراع، ثم يعقبها في الأهمية المنظور والإيقاع.
الأسلوب السينمائي: يفرض فيه المنظور سيادته على ما سواه مـن ثنائيات، ويأتي بعده في الأهمية الإيقاع والمادة.
وقال مع أنه لا توجد حدود فاصلة قاطعة بين هذه الأساليب، إذ تتداخل بعض عناصرها في كثير من الأحيان، ويختلف تقدير الأهمية المهيمنة من قراءة نقدية إلى أخرى، ما يجعل التصنيف غير مانع بالمفهوم المنطقي.
ويؤسس أستاذنا الدكتور صلاح فضل الفكرة المحورية في هذا التصنيف على عناصر السرد:  إن الفكرة المحورية في هذا التصنيف تقوم على سلم قياس متدرج ومتراتب من عناصر السرد وفق نموذج مركب من عدد من التقنيات الفنية التي يتم شرحها بمناسبة كل عمل إبداعي تطبيقًا. والذي يحدد طابع كل رواية هو العناصر المهيمنة على ما سواها، فكل رواية تتضمن قدرًا من الدرامية والغنائية الذاتية أو الملحمية والسينمائية، لكن تفاوت النسب، وتراتبها، ومستويات توظيفها في النص ككل هي التي تحدد موقعها، كما أن المقاربة النقدية لكل نص على حـدة تهدف إلى اكتشاف شعريته الخاصة وما يثيره من مجـالات تتجاوز نطاق العناصر الأسلوبية المعتمدة في هذا السلم؛ بحيث لا تصبح الدراسة جدولًا برهانيًا لفرضية التصنيف، تعمي عما عداه من مناطق الإثارة الجمالية والدلالية في النص. أما فيما يتعلق بجملة الإنتاج الروائي لهؤلاء الكتاب أنفسهم أو لغيرهم ممن لم تتح لنا فرصة التوقف أمامهم، فإن البحـث التطبيقي وحده هو الذي يكشف عن مدى التزامهم بأسـلوب واحد أو تحركهم عبر أكثر من أسلوب في مسارهم الإبداعي بأكمله وبمراحله المختلفة، مما لا يمكن الفصل فيه إلا بعد البحث التجريبي».  
يطرق الدكتور الراحل أبواب التحليل السيميولوجي في شعرية القص والقصيد في كتابه (شفرات النص) الصادر عن دار الآداب بطبعته الأولى عام1999، حيث يذكر في مدخل الكتاب سبب اتجاهه نحو التحليل الغربي في قراءة النصوص العربية، منطلقًا من أنها محاولة لارتياد أفق جديد في التحليل النقدي، من منظور تطبيقي، ما يجعل التجربة العملية في وعيها وتوظيفها المحك الفاصل في مدى الجدوى والجدية، كما أن هذا المنهج السيميولوجي في تناول الظواهر الأدبية والثقافية قد حظي ببعض التأسيس النظري في لغتنا العربية. وجاء الكتاب ضرورة لما يدور في الحياة الأدبية العربية من فواعل وإبداعات. وإذا كانت السيميولوجيا - كما يقول إيكو في مفارقته الطريفة - هي العلم الذي يدرس كل ما يمكن استخدامه من أجل الكذب، فإنها بذلك - في تقدير المؤلف - مهيأة لأن تختبر درجات الصدق الفني في الأعمال الأدبية.   
يعد كل هذا من عناصر تجديد مصادر ومنابع البحث العلمي في تقصي كل ما هو حديث ومستجد من النظريات الفلسفية التي تزوّد الباحث بأدوات غير مستهلكة في قراءة النص وتأويله.  ولعل الدكتور فضل يعي جوهر النقد في أنه منهج يختبر توافق نظرية الأدب، أي المفهوم المعرفي المؤسس للأدب، فيمارس النقد فاعليته ويتم تداوله عبر جهاز اصطلاحي يحمل قنوات تصوراته ويضمن كيفية انطباقها قربًا أو بعدًا مع الواقع الإبداعي، لهذا شغل المنهج فكر الدكتور فضل عن إشغاله في النقد، سواء في الحقل السردي أو الشعري، بحثًا عن مكامن الثورة المنهجية التي شهدها الغرب، وتأخر النقد العربي في مواكبة التغييرات النقدية الحديثة، وهو ما عبّر عنه في مقدمة كتاب (نظرية البنائية في النقد الأدبي) الصادر عن مؤسسة مختار بالقاهرة بطبعته الأولى عام  1992، وهو أشبه ما يكون بنقد الذات:
«والواقع إن أسوأ عاداتنا النقدية هي كسلنا الذهني الذي يصل إلى درجة البلاهة وجهلنا الذي يختلط بالسذاجة وتسرعنا في التعرض إلى ما لا نحسن، وافتقادنا إحدى أهم أدوات البحث الرئيسية وهي الإعداد المنهجي الشاق»، الأمر الذي دفعه إلى وضع كتاب عن البنائية محاولًا عرض أحدث نظريات الفكر وأدقها وأوسعها انتشارًا في العالم اليوم. 
ويبقى المرحوم الدكتور صلاح فضل قامة كبيرة في مجال النقد العربي، حيث قدّم الكثير من الآراء التي ربما تكون حداثية مغايرة عن كثير من الأدباء والنقاد العرب. وقد دخل الكثير من المعارك الأدبية والنقدية في ظل تطوير نظرية نقدية عربية، لذلك له إسهامات كبيرة من خلال إصداراته وندواته ومحاضراته وإسهاماته الكثيرة في مختلف الميادين الثقافية العربية خاصة منها الأكاديمية والنقدية.
وكناقد مهتم بتطوير النظرية العربية للنقد، سنفتقد حقيقة وجود هذا الإنسان في السنوات القادمة، إلا أنه سيكون حاضرًا بما تركه من أثر وإرث لكننا سنفتقد حضوره الإنساني بيننا كأستاذ ناصح وحاضن للشباب من المبدعين ■