د. صلاح فضل... وقلق الإناخة

د. صلاح فضل... وقلق الإناخة

لا شك أن أي حديث عن الراحِلِين مباشرة بُعَيْدَ غيابهم سيكون مُبقّعا بالخدوش، ما لم نقل مجروحًا، جراء التنازع بين سياقين: سياق الحضور وسياق الغياب، بل للسطوة التي قد يكتسيها سياق الغياب في سعيه ليجُبَّ كل سياق قبله. ولئن كان للموت جلالُه الذي لولاه ما كانت ستنبُتُ، فجأة، لبعض الأشخاص المتوفين أجنحة من نور، كأنهم قيْد حياتِهم، ملائكةً، فإنه في المقابل يقف حائلًا دون بعضهم والدفاع عن أنفسهم ضد من يحاولون تصفية الحساب معهم، أو طمْرَ ذكراهم في الوحل والتراب، بمعنى أن انتفاء المسافة الزمنية والنفسية، والحال هذه، من شأنه أن يجعل من أي خطاب بَعدي مجرد انطباع شخصي تعوزه الموضوعية إلى حد كبير.

 

نستحضر سيرة الفقيد الراحل د. صلاح فضل، الحافلة بالعطاء في مجالات الفكر والنقد، والمشاركة الفعلية في إثراء الحياة الثقافية المصرية والعربية، ولم يكن ذلك بالغريب على رجل مثله جمعَ فأوعى، كما يقال، وراكمَ من المعارف والخبرات ما جعله يحتل مكانة مرموقة بين أبناء جيله من النقاد والمفكرين الموسوعيين الذين زاوجوا بين التحصيل العربي الأصيل والثقافة الغربية الحديثة، فساهموا في إغناء المكتبة العربية إلى جانب المشاركة في تدبير الشأن العام والقيادة ضمن مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.

أزهري التكوين
  نحن نعلم أن د. صلاح فضل كان في صباه أزهري التكوين والنشأة، لكن وعيَه سيتفتحُ، ثم يتشكلُ وينمو في أحضان اللغة الإسبانية والمنجز الإبداعي والفكري الهيسباني، مع ما يطبع هذين القطبين (الأزهري والإسباني) من تقاطع وتنابذ، فكما يتواشج الموروث الثقافي الأندلسي مع المنظور النقلي للفكر العربي الإسلامي، عمومًا، فإنه قد ينزاح عنه بكيفية أو أخرى، لاسيما إذا ما استحضرنا الإرث «العقلاني» الرشدي والميموني (نسبة إلى ابن رشد وابن ميمون، على التوالي) لذلك فقد كان تبني أفكار الغرب، ولايزال، لدى المؤسسة الأزهرية، والمجتمع التقليدي عمومًا، بمنزلة الخروج عن بيت الطاعة. وهو «خروج» قد يجرُّ على أصحابه الغضب والأذى، إذ يكفي أن نشير إلى الثمن الباهض الذي كلفَ علي عبدالرزاق التجريدَ من شهادة العالمية، والمنع من ممارسة القضاء(هو القاضي الشرعي)، وإلى محنة طه حسين الذي تم إحراق كتبه وجرجرته أمام المحاكم، هذا عدا الأذى الذي حاق بآخرين. وبخاصة من الأجيال القديمة حين كان الأزهر أكثر تشددًا وانغلاقًا.  بيْد أن ليبيرالية الراحل الدكتور صلاح فضل لم تتعارض مع الأزهر إلا قليلًا، لا لأن هذه المؤسسة أضحت أكثر انفتاحًا على ما كان يطبع توجهها من انغلاق تأصيلي، وإنما لأن الرجل ما خاض، إلا بحذر، في أمور تتجاوز اللغة والإبداع من منظورات أكاديمية، أما حين لامس إشكالات معرفية وفلسفية، تتصل بالدين والسياسة والتابوهات الاجتماعية، فإنه ظل محافظًا على خط الرجعة، انسجامًا مع خلفيته المرجعية الأولى.  ورغم ذلك، فإن هذا التردد لم يجنبه بعض الانتقادات من خارج المؤسسة، ومن داخلها على الرغم من أنه كان جزءًا منها في محطات كثيرة.
لقد قضى الراحل أكثر من نصف قرن في خدمة الثقافة، تدريسًا وكتابة وتدبيرًا قياديًا. وكما أصدر د. فضل عددًا مهمًا من الكتب المرجعية في التعريف بالمناهج النقدية الحديثة ومواكبة التجارب الإبداعية على اختلافها والمرافعة على الثقافة العربية والإسلامية ، ونقلَ إلى اللغة العربية عينة من النصوص المسرحية الإسبانية والإسبانوفونية، فقد تقلد أيضًا مناصب رفيعة في التدريس وإدارة الشأن العام ضمن مؤسسات الدولة والمجتمع بمصر وخارجها، عدا تحقيق شهرة تليق بمكانته العلمية والاعتبارية وفرتها له القنوات التلفزيونية بالأساس، حتى إن اسمه وصورته غدَوَا مألوفين لدى شريحة واسعة من الطلاب والمثقفين العرب.  ولأن مؤلفاته عَبَرت الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج، فقد أصبح من النادر أن يخلو بحث  جامعي عربي، وبخاصة في اللسانيات ونظرية الأدب والنقد، من الإحالة على  الدكتور صلاح فضل، سيما وأن أسلوبه  في الكتابة تعليمي سلس وعبارته فصيحة لا يشوبها غموض أو عوار.
الجدير بالذكر أن الثقافة المغربية (والمغاربية)، كغيرها من ثقافة الأطراف العربية، وبحكم السبق التاريخي الذي جعل المشرق مركزًا وما سواه هوامش، لا تنفي كونها مدينة للمعلمين الكبار من المشارقة الرواد: اللبنانيين والعراقيين، والمصريين، تحديدًا، كطه حسين ومحمد مندور وغنيمي هلال وشكري عياد وجابر عصفور وصبري حافظ وغيرهم كثير، إلا أن حظ الراحل فضل، في هذا الصدد وقياسًا إلى غيره وكما نظن، كان يسيرًا معهم (أي مع المغاربيين)... ليس لعدم أحقيته في التأثير والانتشار، وهو الكبير بلا ريب، بل لأسيقة سوسيوثقافية جديدة أعادت رسم الحدود الثقافية في الوطن العربي.  فبدل مركزية مشرقية تقليدية تدور حولها الهوامش، كما في السابق، أضحى كل قطر يبني مركزيته الخاصة، حسب وضعه الجيوسياسي في المنظومة العربية والدولية.  ونظرًا لهذه الملابسات صار المغاربيون يجدون ضالتهم الكبرى في المصادر الفرنسية بدل الترجمات والمراجع الشارحة والتعريفية المكتوبة باللغة العربية،  وربما كان هذا من بين أسباب عدم استلطافه المساهمات النقدية المغاربية، واعتبارها مجرد مصفوفات وترسيمات معقدة. ومما قال بشأنها «أعرف، وأنا على علاقة حميمة ببعض النقاد المغاربة والتونسيين والجزائريين، أن بعضهم مولع بالغموض الشديد جدًا، فأبسط المناهج اليسيرة الجميلة تتحول في قلمه إلى لوغاريتم يصعب فك لغزه، وبعضهم الآخر ليس لديه قدرة كبيرة على الاستيعاب النظري والتطبيق العملي». حتى إنه يذهب في أحكامه إلى أبعد من ذلك ليقول «أما المبدعون منهم فيحتاجون إلى مثقفين مشارقة لكي يضيئوا أعمالهم، لأنهم قد يتملكون زمام الأفكار الكبرى لكنهم لا يعرفون - في مجملهم - كيفية تبييئها ولا تطبيقها على الواقع الإبداعي» والواقع أن هذا الحكم التعميمي، على نبرته الاستعلائية، كان ينسجم  ونزوعه «الشرقي» البياني في مقابل رؤية «المغرب» البرهاني، وفق التصنيف الذي تبناه الدكتور محمد عابد الجابري، والذي لا علاقة له بالمحددات الإقليمية ولا بالمفاضلة، وإنما هو إجراء منهجي بين سرديتين مختلفتين قد تتقاسمان أحيانًا المجال الجغرافي ذاته، لذلك فهما طريقتان في النظر تخللتا العالم العربي مشرقًا ومغربًا على السواء، بحيث تم الاصطلاح على مفكري مناطق خراسان وبغداد ومصر، ومن سار في فلكهم، أنهم مغربيون، فيما تم نعتُ مفكري خراسان ونيسابور وغيرهم بالمشرقيين. ولا غرابة في أن يتموقع د. صلاح فضل، وهو «الحداثي الأزهري» ضمن هذا التيار الذي كان يعتبره أفلاطون العدو النمطي للفلسفة، أي التيار«الخطابي» البياني المعتمد على فخامة الدوال لا كثافة المدلولات. 
صحيح إن التعقيد لم يكن يومًا مؤشرًا على العمق، بيْد أن التبسيط من جهته، لا ينماز بفضيلة كونه واضحًا في مطلق الأحوال. فإذا كانت لغة المنطق والرياضيات والتنظير الفلسفي والنقدي مفاهيمية ومعقدة، مادامت في جوهرها نخبوية تخاطب الأذهان، وهذا ما تبنته المدرسة المغربية (بالمعنى الذي أشرنا إليه سابقًا) منذ القديم، وكما سيتبناه النقد المغربي الحديث، فإن «النقل الديداكتيكي» لهذه اللغة إلى المستوى البياني (الشرقي) قد يوقعها في مطب الإخلال بالمراد.  والغريب أن هذا الإخلال، على مساوئه، قد يؤدي في بعض الحالات إلى مفاجآت سارة، كما أدت بعض الترجمات الفرنسية المُخلة لفلسفة الأنوار الألمانية، إلى فتح آفاق ما كانت الأصول الألمانية نفسها لتفتحها.  ويبدو على من استغربوا تأرجح د. صلاح فضل بين ادعاء الحداثة والسير في ركاب التقليد، أنهم لم يفهموا طبيعة تكوينه، فبقدر انفتاحه على التجديد فهو مشدود إلى نقطة ارتكاز تجره إلى الأصول «لكالطِّوَل المرخى وثنياه باليد»، إذا ما استعرنا قول الشاعر طرفة بن العبد. و تلك «إناخة مريحة» في «مجال قلق» عاشتها كوكبة من المفكرين العظام، قد يكون د. صلاح فضل أحد أواخرهم.
إن د. صلاح فضل الذي كان يبشر في كتاباته بالتجديد هو ذاته من كان ينتصر لشعرية قد يراها بعضهم متجاوزة. كما تمثلت، مثلًا، في «مسابقة أمير الشعراء» التي كانت تبث على قناة أبو ظبي الفضائية، والتي كان الدكتور د. فضل ضمن لجنة تحكيمها.  والواقع أنه كان فقيها لغويا، وبهذه الصفة كان يتبوأ رئاسة «المجمع اللغوي المصري»، بل إنه لم يكن يجد غضاضة في نعته بـ«شيخ النقاد العرب». 
لقد خُلِق د. الراحل صلاح فضل ليكون ناقدًا، بلْ «عين النقد» كما صرّح بذلك في سيرته الثقافية.  وهذه الثقة لديه، المبررة بكل تأكيد، جعلته لا يكتفي بنقد مخالفي ذائقته في التلقي، وإنما كان لديه من الجرأة ما يكفي لنقد ما كتبه والده نفسه، إذ يقول «بعد أن بلغت مبلغ الرجال وأكملت دراستي الجامعية عاودت دفتر أشعاره (الضمير هنا يعود على والده) في نوع من محاولة الوفاء لذكراه.  وما يكنه الابن لأبيه من إعزاز، وعندما قرأت شِعر أبي وَجَدته متوسطًا أو دون المتوسط... وقلت إنه لا يستحق أن أطبعه».
لا يتعلق الأمر هنا باعتداد نفسي مبالغ فيه وإنما هو ثمرة رصيد راكمه صاحبه طوال حياته الفكرية التي قد تصلح، على قسوتها، مثالًا للاقتداء، فجدير بطفل تيتم وهو في الرابعة من عمره وصعد المنبر وهو ابن إحدى عشرة سنة ليلقي خطبة الجمعة، أن يقطع أشواطًا في المجد لبلوغ مشيخة النقد ويوقّع بآثاره، تأصيلًا وتحديثًا، في مجمّع الخالدين ■