د. صلاح فضل... الناقد والإنسان

د. صلاح فضل... الناقد والإنسان

في قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية كانوا يناقشون المخطوطات الشعرية، ويستدعون نقادًا من القاهرة، إلى جانب نقادٍ من الإسكندرية لمناقشة تلك المخطوطات. قالت لي المشرفة الثقافية عواطف عبود، تريد مَن مِن النقاد يناقش بعض قصائدك المخطوطة؟ كذلك سألت الشاعر محمود عبدالصمد زكريا. اتفقت مع محمود على اسم الناقد الدكتور صلاح فضل. اتصلت عواطف عبود بالدكتور صلاح فضل تليفونيًا، فوافق على الحضور والمناقشة، على أن تُرسل إليه الأعمال المخطوطة قبل حضوره بأسبوع، وهو ما فعلته عواطف عبود.

 

حتى منتصف السبعينيات لم أكن قد التقيت الدكتور صلاح فضل، لكني كنت أقرأ له مقالاته في بعض المجلات وبعض كتبه.
قبل حضور الناقد الراحل د. صلاح فضل بيوم واحد أُصبت بوعكة صحية منعتني من التحرك والذهاب إلى عملي وإلى قصر الثقافة. أرسلتُ صديقًا لي هو السيد حسن للاعتذار للدكتور صلاح فضل، وتسجيل ندوة المناقشة على شريط كاسيت قبل بداية الندوة، قال له: المفروض أن يجيء ولو زحفًا على الأقدام، فأنا سأقول كلامًا جيدًا عن قصائده. في نهاية الندوة قال له:  لولا ضيق الوقت لذهبت لزيارته.
بعد أيام تحسنت صحتي وذهبت إلى قصر الثقافة، وأخذت رقم تليفون الدكتور صلاح فضل من عواطف عبود، واتصلتُ به فردتْ عليّ زوجته الراحلة الدكتورة قدرية (أستاذة اللغة العربية بكلية الألسن)، فأخبرتها أنني أحمد فضل، سألتني: هل أنتَ من عائلة الدكتور صلاح؟ ضحكتُ وقلتُ لها:  كنت أتمنى، لكن الاسم الثالث يؤكد عدم القرابة. 
جاءني صوت الدكتور عبر الهاتف، فاعتذرتُ له عن عدم حضور الندوة، فقال المهم الآن صحتك، كيف هي؟ قلت له: الحمد لله، تحسنت كثيرًا.
وعندما صدر لي كتاب «جماليات النص الشعري للأطفال»، وكان هناك عرض موسَّع عنه في جريدة «الوفد» بقلم الكاتب الصحفي حنفي المحلاوي، التقيتُ د. صلاح فضل صدفة في مصعد الإذاعة والتلفزيون بماسبيرو في القاهرة، فسألني عن الكتاب وأنه يريد نسخة منه لأن قليلين مَن يكتبون في هذا المجال، فسألتُه كيف عرف خبر صدوره، فأخبرني من الجريدة التي قدمتْ عرضًا جيدًا له.
أدركتُ أن الدكتور صلاح فضل يتابع الجديد من خلال تصفحه الجرائد والمجلات، وأنه ناقد لا ينغلق على نفسه ومكتبته وكتبه الجامعية وغير الجامعية، وأن العمل الأكاديمي لم يأخذه إطلاقا من المشاركات الثقافية والمجتمعية سواء في مصر أو خارجها.
رأس د. فضل في الإسكندرية مؤتمرًا عن «العقاد»، وكنت عضو أمانة هذا المؤتمر، وأعددتُ بحثًا عن العقاد والفنون الجميلة. قرأ البحث وسألني: قبل أن نعرف علاقة العقاد بالفنون الجميلة، أريد أن أعرف علاقتك أنت بالفنون الجميلة. وما إن بدأت أتكلّم حتى قال لي: إننا الآن في اجتماع اللجنة التحضيرية للمؤتمر ولا أريد إضاعة وقت الزملاء في الإجابة عن سؤالي، لكن بعد الاجتماع سنجلس معا لتحدثني عن علاقتك بالفنون الجميلة.  بعد الاجتماع اصطحبته إلى إحدى الكافيتيريات الشهيرة بشارع سعد زغلول، وأخذنا نتحدث، واستفدت كثيرًا من ملاحظاته وآرائه، ما أثرى البحث الذي تقدمت للمشاركة به في مؤتمر «العقاد».
التقيتُه غير مرة خارج مصر، في أبوظبي على سبيل المثال أثناء مشاركته في تحكيم قصائد برنامج «أمير الشعراء»، كنتُ أحضر إحدى الحلقات كإعلامي متابع للبرنامج الشهير، وقبل بداية إحدى الحلقات دخل ثلاثي التحكيم: د.صلاح فضل، ود.علي بن تميم، ود.عبدالملك مرتاض.  وقبل الهواء مباشرة توجهت للسلام عليهم ففوجئ د.صلاح فضل بوجودي، وسألني: هل أنتَ مشارك يا أحمد في البرنامج؟ ابتسمتُ ونفيتُ ذلك، وقلتُ له إن سني تجاوزت سن الشعراء المسموح لهم بالاشتراك، فضحك وقال: «مش باين عليك».
في الكويت كنت أعمل مسؤولًا للبرامج الثقافية في إحدى القنوات الأهلية، وكان هو مشاركًا في مهرجان القرين السنوي، وفي حفل الافتتاح اصطحبتُ المصور التلفزيوني لإجراء حوار ثقافي لصالح المحطة التلفزيونية. وطلبتُ التسجيل معه، فسألني عن ماذا سنتحدث، فأخبرته عن محاور اللقاء، فوافق من دون أن يسألني عن المكافأة التي سيتقاضاها، لكنني أخبرته قبل التسجيل أن المحطة لا تعطي مكافآت للضيوف، فنظر إليّ نظرة عتاب قائلًا: أنا لم أسألك عن المكافأة، ثم إنني قبلت التسجيل معك لأنك صديق أقدّره وأحترمه، وليس لأنك تعمل في المحطة، وأشار إلى أكثر من أربع كاميرات أخرى لقنوات مشاركة في تغطية الحدث، وقال لي: هذه المحطات كلها طلبت التسجيل معي وبعضها يدفع مكافآت مجزية فاعتذرت، ولكن لأنك صديق قبلت التسجيل معك، ساعتها خجلت منه ومن إنسانيته، وأشرت إلى المصور أن يبدأ في التصوير، وتحدث وقتها باستفاضة وحماسة عن بعض القضايا الثقافية والأدبية المثارة في ذلك الوقت، ومنها قصيدة النثر، ودوره في برنامج الظبياني «أمير الشعراء»، وفي التراتب الأدبي بين الشعر والرواية، وغيرها من القضايا.
أصدر الدكتور صلاح فضل الكثير من الكتب النقدية المؤثرة خلال حياته الأدبية والثقافية، ومن هذه الكتب كتابه المهم «تحولات الشعرية العربية» وهو كتاب يسهم في رسم خارطة للتحولات الشعرية العربية، وبخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين، هذا القرن الذي شهد العصر الذهبي الثاني للشعر العربي، وقد صدر الكتاب عام 2002 عن سلسلة مكتبة الأسرة بالقاهرة.
كان د. صلاح فضل يرى أن الشعر هو الذي يحمل جينات الروح العربية الوراثية، وهو الذي يجدّد اللغة ويضمن لها البقاء، وأن اللغة هي بنك الذكاء القومي، والشعر في نهاية الأمر هو جوهر الفنون، ولا بد أن يتوهج بازدهارها. 
تبدأ هذه التحولات منذ ارتحالات شوقي المبكرة ما بين الإخبارية والإيحائية، معتمدًا على عدد من التقنيات الشعرية الفعالة لتوليد الدلالة عبر تجانس التراكيب ومفارقات الصياغة وآليات التكرار والتصوير وطرائق الاشتقاق والتجسيد، وهو ما أشبع الحس الجمالي لقارئه وأرضى توقعاته الموضوعية والفنية.
أما تحولات منتصف القرن فتبدأ من ضمير الأنثى في شعر نزار قباني ومديح النساء، حيث تنتشر ظاهرة التمثيل الأنثوي المباشر في شعر نزار، والتي تبلغ ذروتها في ديوان «يوميات امرأة لا مبالية». ومن ثم يبرز السؤال التالي: إلى أي حد استطاع نزار قباني أن يتمثل موقف المرأة خالصًا، ويعبر عن وجهة نظرها كاملة في لفتات الشعور وخبايا العواطف؟ 
وفي رأي ناقدنا الراحل د. صلاح فضل، أن نزار قباني تصدَّى بجسارة فائقة لأداء رسالة تاريخية هي التعبير عن المسكوت عنه، والتصريح بضمير الأنثى العربية والبوح بمواجدها والتمثيل الدقيق لخباياها. وقد حاول أن يجمع بين وضعين عسيرين في آن واحد: الشعر، والتعبير عن الضمير المكنون للمرأة. لقد مدح نزار النساء وهجاهن، انتقل بهن من التعشق الواله إلى الامتهان الفاضح، لكن محبوبة فريدة ظلت إلهة وحيه وقبلة صلاته، هي القصيدة الشعرية الكبرى التي كتبها بآلاف الأوضاع، ومن مختلف الزوايا، فكشف بها عن جوهر إبداعه وحقيقة إنجازه الجمالي الفاتن.
ومن ضمير الأنثى في شعر نزار إلى استراتيجية الخطاب الشعري عند خليل حاوي، حيث تكوير الشعر وهندسة الجمل من خلال الصور النحوية والبطانة الفلسفية، مرورًا بشعرية الوطن عند عبدالوهاب البياتي، من خلال عراقه، وبغداده، والتمهل عند شعرية الشاعر الكويتي محمد الفايز، حيث يقر ناقدنا بأن ديوان «مذكرات بحَّار» للفايز لو كان صدر في أحد المراكز العربية (بالشام أو العراق أو مصر) لأصبح موازيًا لمطالع السياب ونزار والبياتي وعبدالصبور والفيتوري، ولو أتيح له أن ينمي اتجاهه الأقرب إلى الملحمة منه إلى القصيدة الغنائية أو الدرامية، لبلغ شأنًا بعيدًا يفوق نظراءه من الشعراء العرب المعاصرين.
ثم توقف الناقد عند الخطاب القومي في الشعر الأردني المعاصر، من خلال تجارب عبدالرحيم عمر، وعزالدين المناصرة، وإبراهيم نصرالله، فالأول يكمن سر السحر الشعري لديه في البساطة العفوية الآسرة. والثاني يجيد القصيدة المطولة والتوقيعة الموجزة، ويعرف كيف يسكب رحيق تجربته في كلا الإطارين دون تعسف أو إسراف.  والثالث قادر على خلق وقائع شعرية جديدة وصنع متخيل متميز.
أما شعرية حسن عبدالله القرشي (عاشق النيل) فتزخر بالأصالة وما يثيره شعره من أسئلة نقدية عن تجاور الأشكال الشعرية، وما يشبعه من حس قومي عروبي متجذر، على الرغم من إيمان الناقد بأن قصيدة التفعيلة هي التي تمثل الوسط الذهبي الحامل لرسالة الروح، والقادر على تشكيل الموروث العربي الجيد.
ومن السعودية إلى اليمن، حيث توقف د. فضل عند التحولات الشعرية الراهنة لدى عبدالعزيز المقالح من خلال كتاب صنعاء، ففي هذا الكتاب ينتقل المقالح بخطاب المدينة إلى أفق لم يشهده من قبل، عبر مسلك تقني مُدهش يعتمد على حوارية منتظمة في إيقاع جميع القصائد، بين التفعيلة المازجة بين المتقارب والمتدارك من ناحية، والجملة المتحررة من الوزن المألوف، وإن كانت مفعمة بكسر التفاعيل من ناحية ثانية.
أما كمال نشأت، فيتيح لنا فرصة جميلة لاستجلاء صفحة رائقة من الشعرية العربية في شبابها الفتي، ونسقها الغنائي المفقود في وعثاء الحداثة الضاربة بأطنابها في مشهد اليوم. ويذهب ناقدنا إلى أن امتلاء حروف كمال نشأت بالنغم الجميل وارتواء الكلمات بالمعنى النبيل يرشحان أشعاره كي تكون منبعًا للطرب ومادة للغناء.
ومن العالم الشعري لمحمد إبراهيم أبو سنة يختار ناقدنا ديوان «شجر الكلام»، ويصفه بأنه ديوان طازج، تتجلى فيه نكهة سنوات النضج في تجربة الحياة، ومذاق خبرة اللغة المعتقة، وهي تستقطر من نبع الإبداع العربي رحيقها المصفى، فتطرح على ذاكرة القارئ أطياف التعبير وأصوات الماضي، وقد صار مفعمًا بالحضور الراهن.
وعودة إلى إبراهيم نصر الله واكتشاف شعرية الحياة من خلال ديوانه «باسم الأم والابن»، حيث تظل تجربة السيرة الشعرية للفرد/الوطن فتحًا مهمًا في الشعرية العربية المحدثة؛ تكتشف جماليات الوجود المأساوي للإنسان الفلسطيني وتحفر دربًا عميقًا في مسار الإبداع العربي المعاصر.
ويبشر ناقدنا بشاعر جديد يراهن عليه، ما لم تختطفه حوريات الغواية وشياطين الضياع، هو أحمد بخيت.  أما الألوان عندما ترتعد بشراهة، فلا بد أن يكون وراء ارتعادها شريف الشافعي، الذي كتب نصًا ضخمًا يستغرق ما يربو على ألف صفحة، يفتك فيه بالتوزيع القديم، أو يتجاهله ببساطة، دون أن يؤسس لنفسه توزيعًا مقطعيًا جديدًا للنص المتطاول، مما يتحدى صبر أي قارئ على الاستمرار والمتابعة.
وتحت عنوان «شعرية فرسان الثغر»، توقف الناقد د. صلاح فضل عند عدد من أبرز الشعراء وأكثرهم خصوبة وثراء في الفضاء الإبداعي للثغر المصري.  وهؤلاء الشعراء هم: فوزي خضر، وأحمد فضل شبلول، وصلاح اللقاني، وفوزي عيسى. أما فوزي خضر فقد تماهى بشكل بديع مع تقاليد الفروسية النبيلة في الثقافة العربية عندما تمثل صوت الجواد الذي يحدث نفسه ويخاطب محبيه ويجسد انكسارات روحه وانتصارات نضاله في صورة متوهجة متلاحقة، من خلال ديوانه «من سيرة الجواد المعاند». أما ديوان «الطائر والشباك المفتوح» لأحمد فضل شبلول فيقدم نموذجًا دالًا لشعره وإشارات كاشفة عن عالمه، حيث الإسكندرية بالنسبة له ليست مجرد مكان للميلاد أو الإقامة، لكنها وعاء روحه وجسد شعره ومَجلى حياته، وحين يأخذ في تعداد مفردات «الثغر» والإمساك بملامحه يصبح شعرُه أكثر طلاقة وأقل تعثرًا، فلغته بحريّة، ومعجمه اسكندري بحت وبيت شعره الأساسي هو ما تبنيه عروس البحر بين أمواج الإيقاع.
أما صلاح اللقاني، فيتسم ديوانه «تاسوعات» بطابع تجريبي مُغرق في توظيفه للأساطير والموروثات القديمة. وفي تعليقه على ديوانه «ضلَّ من غوى وسرَّ من رأي»، يقول ناقدنا: ما زلت لا أفهم جيدًا لماذا يتخلى الشعراء المتمكنون من توظيف الأبنية الموسيقية في التعبير القوي عن تجاربهم، عن هذا الشكل ويعمدون إلى تعطيل طاقاتهم قصدًا فيقطعون بقصد حبال التواصل الممتع مع جمهرة القراء وهم قادرون عليه.
أما فوزي عيسى، فإن وضوح الهدف التعبيري لديه وإيثاره عمليات التواصل والفهم يجعلان شعريته من ذلك النوع الذي يُشبع القارئ المتوسط من دون أن يثير فضول القارئ المثقف المتطلع إلى أفق جديد مفعم بتوتر التجارب المحدثة.
بهذا الكتاب «تحولات الشعرية العربية» الذي جاء في 256 صفحة يكون ناقدنا الراحل د. صلاح فضل قد أسهم في رسم خارطة للتحولات الشعرية العربية، وبخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين، هذا القرن الذي شهد العصر الذهبي الثاني للشعر العربي، بعد العصر العباسي، غير أن نهايته شهدت ضياع أهم معلمين بارزين في الشعرية العربية، هما: الموسيقى والدلالة، بحيث أصبحت نسبة كبيرة مما يكتب باسم الشعر هذه الأيام تضرب في غياهب من عماءين: عماء الإيقاع وعماء المعنى، وهو ما لا يغري أحدًا بقراءتها سوى كتابها، ويترك المسافة فارغة بين الشعر والجمهور.  ولا بد لحركة إبداعية ونقدية عارمة من تنظيم هذا الطوفان وحفر أخاديده وحصر تياراته وإبراز مستوياته المختلفة وأشكاله المتعددة.
هذا هو ناقدنا الراحل د. صلاح فضل الذي كان يتابع ويكتب ويشارك وينقد ويرأس المؤتمرات والجلسات العلمية في مصر وخارجها، ولا أنسى آخر مشاركة معه في ملتقى الشارقة السادس عشر للسرد العربي الذي عُقد بالعاصمة الأردنية عمَّان خلال الفترة من 17 - 19 سبتمبر 2019 وكان بعنوان «الرواية التفاعلية الماهية والخصائص»، وكنت مشاركًا ببحث «الرواية التفاعلية وأثرها في الرواية التقليدية»، وقال لي بعد الجلسة التي تحدثتُ فيها وأمام بعض المشاركين: نحن نعوِّل عليك كثيرًا في هذا المجال النقدي الجديد ■