مونديال قطر 2022 اشتباك وارتباك بين كل الثقافات

مونديال قطر 2022 اشتباك وارتباك بين كل الثقافات

أجواء مثيرة وتجربة مختلفة عاشتها جماهير مونديال كأس العالم لكرة القدم قطر2022، في نسخة مليئة بالمفاجآت داخل الملاعب وخارجها، بثقافة عربية لم تعتد جماهير الكرة عليها كليًا، وغالبًا ما كان الغرب يسيء فهمها ويشيطنها بطريقة ما، لكن حتمًا ستحمل الجماهير معها إلى بلدانها ذكريات جديدة وغير مسبوقة ، حيث لم تكن هناك كأس عالم من قبل في قلب الشرق الأوسط والعالم العربي.

 

تواجد أكثر من مليون مشجع لكرة القدم في المدن القطرية الهادئة الصغيرة لأكثر من 29 يومًا لمشاهدة 32 منتخبًا لكرة القدم يتنافسون في 64 مباراة، بلغت ذروتها في المباريات النهائية. أحداث مشحونة عاطفيًا للعبة تجذب اهتمام 40 في المائة من سكان الأرض، وجمهور تخطى الخطوط الديموغرافية، بما في ذلك الأعمار والجنسيات والدخل والتعليم والمهنة. ووفقًا لإعلان الفيفا، فإن الحضور في جميع المباريات كان في المتوسط 96 في المائة من سعة الاستاد.

ثقافات مختلفة
كانت منطقة سوق واقف ومشيرب في قلب الدوحة هي الأماكن المزدحمة والمفضلة للجماهير، وأثناء تواجدهم استهوى الكثير منهم ارتداء الزي الخليجي المعروف بالدشداشة والغترة والعقال بألوان وأشكال جديدة متداخلة بالأعلام والأزياء الوطنية لبلدانهم، لترسم لوحة فريدة ونادرة تعكس ثقافات الشعوب من مختلف القارات. 
سلوك استثنائي لمشجعي كرة القدم من مختلف الدول في الدوحة،  وربما تكون البادرة الأكثر استحسانًا هي تلك التي أبداها مشجعو اليابان.  
بعد الفوز أو الخسارة أو التعادل أو حتى لدى حضورهم مباريات الفرق الأخرى، يقضي اليابانيون وقتًا طويلًا بعد كل مباراة في التقاط القمامة وتنظيف المدرجات. كذلك كان هناك سلوك اللاعبين اليابانيين، الذين كانوا يرتبون غرف ملابس الفريق في الملعب ويتركون ملاحظات الشكر لدولة قطر والمنظمين، كما منح الاتحاد الياباني لكرة القدم 8000 كيس قمامة زرقاء للجماهير، في حقيبة مغطاة برسائل «شكر» مكتوبة باللغات العربية واليابانية والإنجليزية. 

ترحيب شعبي
تمسك القطريون المحاطون بالزوار من جميع أنحاء العالم بتقاليدهم ومعتقداتهم حيث يرتدي الرجال والنساء والأطفال في المباريات والشوارع ملابسهم التقليدية مزينة بطلاء الوجه والأوشاح والأعلام. من جهة أخرى، ظهر كرم المواطنين القطريين للمشجعين بأشكال مختلفة منها حفاوة الترحيب والمساعدة وتقديم موائد الطعام والقهوة العربية، كما قام عدد من القطريين بالتعريف بتراثهم عبر عرض ما يملكون من تحف ومقتنيات قديمة للمشجعين في بيوتهم والمعارض في كتارا ومشيرب، والتي أنشئت خصيصًا للمونديال.
ومع بداية وصول الجماهير إلى الأراضي القطرية، أطلق القطريون حملة « اعزمهم في مجلسك» بدعوة أصحاب البيوت لاستقبال الضيوف ولاستضافة مشجعي كأس العالم في مجالسهم، وتعريفهم بالعادات والتقاليد القطرية. وقد قام عدد كبير من القطريين بالفعل باستضافة الجماهير في بيوتهم. وفتح مجالسهم وهو مكان في المنزل لاستضافة الضيوف الرجال يوميًا، مبادرة منهم للترحيب بالمشجعين من كل الجنسيات.

«كأس عالم» مثيرة للجدل
أثارت استضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر الكثير من الجدل، من حقوق الإنسان إلى قضايا البيئة، وقضايا أقل إلحاحًا مثل حقوق المثليين، وأيضًا بيع الكحول إحدى هذه القضايا منذ أن تم الإعلان عن قطر كدولة مضيفة لكأس العالم قبل 12 عامًا، بما أنها تعتبر دولة إسلامية محافظة وتنظم بإحكام بيع الكحول واستهلاكه.
 انتفض العديد من المشجعين لفكرة تقييد بيع المشروبات الكحولية بشدة قبل يومين من انطلاق المونديال، بعدما أكد الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) أنه لن يتم بيع أي كحول في الملاعب الثمانية التي ستستضيف مباريات البطولة. لكن بالنسبة إلى بعض المشجعين، أدى ذلك إلى أن تكون البطولة الأكثر أمانًا، تقول إحدى المشجعات الفرنسيات التي قابلناها في مشيرب (منطقة تقع وسط مدينة الدوحة حيث يوجد عدد من المقاهي الجميلة): «لم أكن أعتقد أنني سأكون بأمان هنا وأنه يمكن الاستمتاع بالمباريات من دون كحول». يقول أحد المشجعين الأرجنتينيين عن شعوره مع صعوبة الوصول إلى الكحول: «لم تكن مشكلة على الإطلاق. في الواقع أصبحت القهوة هنا مثل البيرة لدينا»،  أما عن تجربته مع الأكل القطري، فقال إنه اعتاد أكل الرز العربي واللقيمات، بالإضافة إلى أنه جرب شاي الكرك، وأصبح الشراب المفضل له يوميًا. 
ذكرت لنا إحدى المشجعات من البرازيل أن التجربة كانت جميلة لها وكانت تناقض تجاربها في بلادها عند حضور مباريات كرة القدم، والتي تصنف من بين أكثر البلدان خطورة بالنسبة للمسافرين من النساء. قالت: «لدينا معدلات جريمة عالية، ولا نغامر بالخروج بمفردنا ليلًا في بلدنا»، أما هنا فتقول «تجولنا أنا وصديقاتي حتى ساعات الفجر الأولى ولم يخفنا شيء ولا يمكنني أن أتخيل الذهاب إلى مباراة كرة قدم بمفردي في البرازيل أو أن أكون بالخارج في وقت متأخر من الليل، وأن أستخدم هاتفي في الأماكن العامة دون خوف.  هنا أشعر بالأمان وهذا شيء عظيم بالنسبة لنا نحن النساء أن نكون قادرين على الاستمتاع بالاحتفالات وكرة القدم بشكل آمن».

المساجد بكل مكان 
كانت المساجد في الأسواق والملاعب والمدن مزدحمة باستمرار. ومن الممكن سماع الأذان في كل مكان، وهو أمر لم تعتده الجماهير. وقد تم تخصيص غرف للصلاة في كل ملعب، بما في ذلك المراكز الإعلامية، والتي غالبًا ما تكون مكتظة عندما يقترب موعد الصلوات، وأثناء الصلاة كنا نشاهد استخدام المشجعين مجموعة الأعلام كسجادة صلاة. يوجد في محيط استاد خليفة الدولي أيضًا مسجد تم تشييده لهذا الغرض. وهو ما جعل الكثير من الجماهير لديهم الفضول لزيارة المساجد للتعرف على هذه الطقوس الإسلامية العربية. 

خدمات لوجستية
كانت الخدمات اللوجستية حول الملاعب مرنة للغاية ومنظمة بشكل دقيق، فكان هناك الكثير من الحافلات التي تنقل المشجعين إلى الملاعب من المترو وحافلات لإعادتهم. الطوابير طويلة لكنها تتحرك بثبات وسرعة وبالإمكان الوصول إلى الجهة المطلوبة بدقائق. قالت لي إحدى المشجعات من كرواتيا «أتيت لحضور جميع مباريات مجموعة كرواتيا ودور الـ 16 للبطولة، وما أدهشنا حقًا هو التنظيم وسهولة الوصول إلى الملاعب وإلى قلب العاصمة. والمترو كان رائعًا». 

كرنفال رياضي
خلال كأس العالم قطر 2022، كان يتم تنظيم مهرجان FIFA يوميًا للمشجعين في حديقة البدع وسط العاصمة القطرية الدوحة، والذي كان يقع بين منطقة الخليج وسوق واقف، ويمكن الوصول إليه عبر محطات المترو الكورنيش والبدع والقصر الأبيض، وسيرًا على الأقدام على طول الكورنيش، وهو أشبه بالكرنفال مليء بالاحتفالات والموسيقى الرائعة والعروض المختلفة بالإضافة إلى نقل المباريات على الشاشات الكبيرة لأولئك الذين لم يتمكنوا من شراء تذاكر لحضور المباريات.
الجدير بالذكر، أن قطر لديها معدل جريمة منخفض جدًا، لذا فإن التعرض للسرقة في الشارع أمر غير محتمل، لكن تم تعزيز الأمن بشكل كبير خلال البطولة من داخل قطر وبقوات مساندة من بعض الدول الخليجية، حيث كان يقوم الكثير من رجال الشرطة بالتجول في المترو والملاعب والأماكن العامة المكتظة. قال لي أحد المشجعين من فرنسا، إنه شعر بأمان أكبر هنا مقارنة بالبرازيل قبل ثماني سنوات، إذ تعرض للسرقة أكثر من مرة، وكان عليه دائمًا أن يتفحص حقائبه في كل مكان يذهب إليه. قالت لي مشجعة أخرى من إنجلترا: «كانت لدي مخاوف بشأن القدوم، لكنني استمتعت بهذه البطولة حقًا. إنه جو مختلف عما اعتدناه في كرة القدم في إنجلترا، هذه كأس عالم لا مثيل لها، إنها مختلفة تمامًا».

المشجعون الوهميون
كان الاختلاف الأكثر وضوحًا في هذه البطولة عند مقارنتها بالبطولات السابقة هو انخفاض عدد المشجعين الأوربيين،  في حين أن القاعدة الجماهيرية للبرازيل والأرجنتين كانت هي المسيطرة على الأراضي القطرية وحاضرة في كل مكان نذهب إليه. وبينما نتحدث عن المشجعين الذين اختاروا الحضور إلى قطر، هناك بالطبع العديد من المشجعين الذين ابتعدوا، مع قرار إقامة كأس العالم في بلد تحظر فيه المثلية الجنسية بشدة، حيث أكد المنظمون في قطر قبل البطولة، أن جميع الزوار سيكونون موضع ترحيب بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس، إلا أنهم «لا يعتبرون المشجعين المثليين جزءًا من المعادلة»، ويتوقعون احترام الجميع لقوانينهم وثقافتهم. 
في هذه النسخة تميز المشجعون أيضًا بأنفسهم، من خلال ظاهرة خاصة جدًا لفتت انتباه العديد من وسائل الإعلام الغربية تحت مسمى «المشجعون الوهميون». للوهلة الأولى يبدو أن بعض المشجعين من جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، كما تدعي وسائل الإعلام الغربية، تمت دعوتهم لزيادة عدد الجماهير في الملاعب وهو ما نفاه المنظمون في قطر. هذه الظاهرة تثير الفضول أكثر لأن هؤلاء الأشخاص أظهروا دعمًا قويًا بشكل يفوق الوصف للفرق الأوربية وأمريكا الجنوبية مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا والأرجنتين والبرازيل. 
وفي منتصف نصف النهائي وقبل مباراة الأرجنتين وكرواتيا، الثلاثاء 13 ديسمبر، تدفق العديد من المشجعين حول الملاعب وهم يرتدون الزي الأرجنتيني والكرواتي، وقد كنت أحد هؤلاء المشجعين على الرغم من عدم وجود صلة لنا بالمنتخبات المشاركة. 
المشجعون هم محبون لكرة القدم يظهرون تعاطفًا كبيرًا مع فرق لاعبيهم المفضلين، وليس فقط منتخبات بلادهم، ويتم التعبير عن هذا الحب من خلال الحضور في المدرجات والمشاركة والتشجيع. إلى جانب الجدل حول صدق دعمهم، فإن مشاركة هؤلاء المشجعين مثيرة للاهتمام من أجل فهم التشابك بين كرة القدم والهوية في عالم معولم، والتي يمكن أن تفرضها كرة القدم. في كثير من الأحيان تكون للجماهير علاقة خاصة مع لاعب مفضل وارتبطت به عاطفيًا كرمز للعبة، الأمر الذي يدفعه إلى الارتباط والانتماء إلى منتخب اللاعب الوطني. في قطر، على سبيل المثال ، يقول المشجعون العرب إنهم يدعمون الأرجنتين والبرازيل لأنهم قبل كل شيء معجبون بمارادونا ومفتونون بنيمار، كذلك بالنسبة إلى القاعدة الجماهيرية الكبيرة للاعب الأرجنتيتي ميسي.
بشكل عام، يمكن للمشجعين استخدام شعبية فريق وطني معين، أو لاعب مشهور، أو حتى شعبية حدث كأس العالم نفسه لصالح هويتهم،  وبالتالي، فإن المشاركة في كأس العالم أو دعم أي فريق ليس حكرًا على الجنسيات المشاركة. هذا ما يحدث في قطر، حيث قامت مجموعات وقواعد من المشجعين من الشرق الأوسط أو جنوب شرق آسيا برفع أعلام المنتخبات المفضلة أو لبس فانيلات مرتبطة بالفرق الوطنية الأوربية وأمريكا الجنوبية التي يدعمونها.
من جهة أخرى، يبدو أن ظاهرة المشجعين المزيفين تكشف عن تناقض قائم في عالم كرة القدم وأنه لا يزال ينظر إلى تنظيم كأس العالم على أنه ميدان تنافس بين الأمم والمجتمعات.  وبعبارة أخرى، فإن المباراة بمنزلة صراع وهمي يتم فيه استبدال العنف بين الدول بلقاء رياضي.
من ناحية أخرى، بدت كأس العالم في قطر بتجاوز المسألة الوطنية، لتصبح أداة لمشاركة واندماج الأشخاص البعيدين ثقافيًا عن عالم كرة القدم لكنهم يرغبون في أن يكونوا جزءًا من حدث له صدى عالمي، لذلك يبدو أن ظاهرة «المشجعين المزيفين» والقواعد الجماهيرية العالمية بشكل عام واضحة للعيان. ويجب أن يؤثر التشابك بين الهوية الوطنية والكروية للجماهير بشكل أكبر، على تطور كرة القدم.
لقد جمعت كأس العالم (قطر 2022) بين المشجعين من جميع أنحاء العالم للاحتفال بمهرجان حقيقي لكرة القدم في 29 يومًا لا مثيل لها مليئة بالإثارة من البداية إلى النهاية، من مباريات كرة القدم والاحتفالات والموسيقى والعروض في شوارع الدوحة والأنشطة الثقافية ونمط الحياة الدافئ.
في الختام، نقول إن هذه البطولة بنسختها العربية الشرق أوسطية ستبقى حاضرة لسنوات وسنوات في ذاكرة أولئك الذين يعشقون كرة القدم لعبًا ومشاهدة، فهي بحق بطولة استثنائية ■