أحمد زكريا الأنصاري رحلته من العمارة للفن ومن الحياة للعزلة

أحمد زكريا الأنصاري رحلته من العمارة للفن ومن الحياة للعزلة

 عرفته الصحافة رسامًا توضيحيًا في نهاية الأربعينيات، ومعماريًا في نهاية الخمسينيات، وفنانًا تشكيليًا في الستينيات من القرن الماضي. بدأت مسيرته التعليمية عام 1945م، عندما انضم إلى البعثة التعليمية المكونة من 45 طالبًا إلى مصر، ولم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره.
 تعود نشأة أحمد الأنصاري (1931-2020م) في بيت علم ودين وأدب، والده الملا زكريا الأنصاري، الذي خصص جزءًا من بيته عام1895م لتكون مدرسة أهلية لتعليم أبناء الحي والأحياء المجاورة الكتابة والقراءة وحفظ القرآن ومسك الدفاتر المحاسبية البسيطة، كي تعينهم في عملهم فوق سفن السفر الشراعية وما تطلبه التجارة السائدة آنذاك في اتصالها مع الموانئ الهند. تطورت المدرسة مع مرور السنين، وأضافت إلى مناهجها مواد: مبادئ اللغة الإنجليزية والتاريخ والجغرافيا، وسميت فيما بعد بمدرسة الفلاح.

لعل هذا المناخ التعليمي والفكري داخل الأسرة كان له دور في نشأة الأبناء، وصقل موهبتهم، وتكوين شخصيتهم، أكبرهم محمد الذي عمل مدرسًا في المدرسة المباركية، أما شقيقه عبدالله فله العديد من الكتب الأدبية، أشهرها نشره ديوان شاعر الكويت فهد العسكر الذي حفظه من الفقدان والضياع، في حين عمل شقيقه علي بالسلك الدبلوماسي وكان له اهتمام بالموسيقى الذي برع فيه، فألف العديد من المؤلفات الموسيقية، التي قدمتها الفرق العالمية في لندن وموسكو، إلى جانب خاله الشاعر محمود شوقي الأيوبي، الذي تولى التدريس بمدرسة المباركية، وأصدر عدة دواوين شعرية، ووالد الفنان التشكيلي صفوان الأيوبي.

مراحل دراسته
في البداية، تلقى أحمد الأنصاري تعليمه بالمدرسة التي أسسها والده زكريا، لكن نظرًا لتقدم سن والده وعجزه عن مواصلة أدائه التدريس التحق أحمد بمدرسة «المباركية» في عام 1941م وبها أنهى مرحلته المتوسطة، وبعدها بعث إلى مصر عام 1945م لاستكمال دراسته الثانوية في المدرسة «السعيدية»، وفيما بعد واصل دراسته عام 1951م بجامعة الإسكندرية في تخصص العمارة، لأنه «يؤمن بأن العمارة فن قبل أن تكون هندسة»، وكذلك شهدت جامعة الإسكندرية ميلاده كفنان تشكيلي بعد مشاركته بالمعارض الفنية. 
 وفي عام 1954م قطع مواصلته الدراسية بجامعة الإسكندرية، تضامنًا مع زميل له أهين من قبل الأستاذ، حيث يرى أن الجامعة مكان لتلقي العلم في جو يسوده الاحترام والترغيب لا القسوة والترهيب، ومنها انتقل للدراسة في جامعة أكسفورد في إنجلترا، حيث واصل دراسته بتفوق ونجاح، وفي عام 1956م قطع دراسته لظروف طارئة استجدت بسبب تعارضها مع لوائح البعثة، فعاد إلى الكويت ليعمل بوظيفة «مساعد معماري» في القسم الهندسي التابع لدائرة المعارف (وزارة التربية في وقتنا الحاضر) حيث أسهم في تصميم عدة مدارس، منها روضة «جول جمال» التي سميت فيما بعد بمدرسة حولي للبنات.
تركت تجربته في تصميم روضة «جول جمال» أثرًا في نفسه، وقادته فيما بعد ليختار مسار دراسة تصاميم المدارس، وكذلك التخصص في الرسم الجداري، حيث يروي عن سبب اتجاهه إلى هذا اللون من الفن في مقابلة صحافية نشرت في جريدة العراقية عام 1977م: التصميم الجداري ملازم للعمارة على مر التاريخ، وقد عرفه قدماء العرب وقدماء من سكن الوطن العربي: الفراعنة، الآشوريون، البابليون، الحميريون... إلخ، وكذلك عرفه العرب أثناء الدولة الإسلامية... وأصبح هذا الفن ضروريًا بالنسبة للعمارة الحديثة. ويذهب الأنصاري إلى القول بأن يغطي الحائط بأكمله ومن دون إطار ليتناسب مع العصر ويمكن أن يكون مسطحًا أو نافرًا أو متحركًا، مثل السجاد أو السيراميك أو الموزاييك أو الزجاج الملون. 
وفي عام1958م ذهب في بعثة دراسية إلى إيطاليا للتمرن على الديكور في أكاديمية «بربيرا» والتمرن على التصميم المعماري للمدارس في مكاتب هندسية.  كذلك التحق بجامعة «بيروجيا» لدراسة اللغة والفن الإيطاليين. وبعد عودته عام 1959م، انتقل كمصمم معماري في القسم الهندسي لدى وزارة الأشغال. وتشجيعًا لإنجازه وتفوقه الملحوظ، أرسل في بعثة دراسية مرة أخرى إلى لندن عام1962م، لدراسة التصميم الجداري، وحاز على شهادة التخصص بدرجة الشرف من كلية «بيام شو Byam Shaw» في الفنون الجميلة عام 1966م، تحت إشراف «موريس سوسماري Maurice de Sausmarie» مؤلف كتاب (ديناميكية الأشكال المرئية في التصميم) وعميد الكلية الذي أشاد بتجربة أحمد الأنصاري، وكتب عنه يقول: يملك شعورًا مرهفًا للإحساس بالألوان، وقدرة على التصميم، كما أنه أفلح في المحافظة على ميزات تراث بلده الثقافي، وتمكن في الوقت نفسه من استيعاب وتفهم التطورات الفنية المعاصرة بالغرب إلى حد بالغ جدًا. 

ملامح فنه
يعد الفنان أحمد زكريا الأنصاري أول معماري في الكويت وهو أيضًا من أوائل الفنانين التشكيليين، تحديدًا يأتي الثاني بعد الفنان معجب الدوسري الذي يعد أول من درس الفن التشكيلي دراسة أكاديمية، وقد زامله في بعثة بمصر واشترك معه في نشر رسم الكاريكاتير والرسوم التوضيحية بمجلة البعثة، لكن علاقة أحمد الأنصاري الوثيقة بالفن التشكيلي ارتبطت مع دراسته للعمارة، نظرًا لكون دراستها تتطلب أن تتوافر بالمتقدم مهارة الرسم وسعة الخيال، بغية نقل التصورات الذهنية للعمارة على الورق، لهذا جاءت رسوماته التي رسمها في بداياته، في هيئة «اسكتشات» مرسومة بالقلم الرصاص، والفلوماستر - أي بالقلم الأسود - والتي يجب لتنفيذها السرعة في النقل والدقة في التصوير، فغلب عليها الطابع المعماري في اختياره للمواضيع، خاصة تلك التي رسمها خلال دراسته في إنجلترا (أكسفورد) وإيطاليا، مثل: الجسور النهرية والميادين والطرز المعمارية للمباني المختلفة.
 تمثل مرحلة الستينيات أخصب مراحل الأنصاري في إنتاجه الفني، بما أنجزه خلال تخصصه للتصميم الجداري في لندن، حيث بدأ يتحرر من وطأة المناخ الأكاديمي، وبدت رسومه تأخذ مساحة أكبر في التعبير، واتساعًا في التشكيل، وتميزت بالمنحى التجريدي مع المسحة التعبيرية في تضمينه للموضوع، ويبرز ذلك خاصة في قطعتي النحت «امرأة» و«نبات وحيوان وإنسان» المشغولة من مادة الخشب، حيث نلمس بهما تأثره بالفنان الإنجليزي هنري مور في معالجته للفراغ، وفي تطويعه للخشب والانسيابية من كل الاتجاهات، بهدف أن توضع في هيئة نصب تزين بها الميادين العامة.
أيضًا، يعتبر الفنان أحمد الأنصاري من أوائل الفنانين الذين اهتموا بالحرف كتشكيل فني في منتصف الستينيات، وفي توظيف الحرف والكلمة بلوحات جدارية، ويتضح ذلك من لوحته الجدارية «ماء» بالحروف اللاتينية، واستخدامه اللون الأزرق بدرجات متباينة مع اللون الأخضر، حيث عالج حركة الماء بخطوط تجريدية موحية، والمتمثلة بالأشكال الهندسية في هيئة قطرات وخطوط متعرجة متوازية، ولوحة «نار» المرسومة بالألوان الصارخة - الأحمر والأصفر- حيث وظف بها الخطوط القوسية لتمثل ألسنة اللهب المتطايرة.
كان رصيد الفنان أحمد الأنصاري خمسة عشر معرضًا جماعيًا أقيمت في الكويت وعدة دول منها مصر، وسورية، وبريطانيا، والهند، والدنمارك، وإسبانيا، وهولندا والولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1952 إلى عام 1983م، منها معرضان خاصين: الأول في كلية «بيام شو» بلندن، والثاني في متحف الكويت عام 1967م.
 
عزلته
كان الأنصاري ذا طبيعة جادة وشخصية حادة في تصويبه للأخطاء بغية تحسين الواقع، وأحيانًا كان يلجأ للعزلة نأيًا عن سوء الفهم، والمشاكل المترتبة على صراحته وشجاعته الأدبية، فتوقف عن المشاركة في المعارض الجماعية، بعد استقالته من الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية عام 1968م.
ومما أسهم في تعميق عزلته ووحدته تلك المرارة والحرقة اللتان تتولد من مشاهداته اليومية للمباني الفاقدة للجماليات المعمارية، والتشويه الذي طال التطور العمراني للكويت، في عدم المحافظة على هويتها المحلية وتراثها العربي، والتي كانت لها بالغ الأثر على إحساسه المرهف، وشعوره بالإحباط والعجز عن إصلاح الذوق العام وإشاعة الجمال، حيث كان يطالب في المشاريع الجديدة التي تنفذ بأن تكون ملائمة للبيئة المحلية ومتماشية مع النفسية والشخصية الكويتية وتأخذ من التراث المعماري الكويتي، ولا تأخذ من التقنيات المادية الحديثة إلا بالقدر الذي نحتاج إليه مما يتوافق مع هذا التراث، أي مسايرة العصر، لكن ليس على حساب الثقافة والأصالة والشخصية الكويتية، ما دفعه دائمًا إلى أن يلح في المطالبة بإنشاء كلية للعمارة بالتزامن مع كلية للهندسة باعتبار أن  المعماري يختص بفن التصميم، أما المهندس فاختصاصه يتركز في تقنية ونسيج البناء وذلك لإصلاح التشوهات المعمارية.
 انعكست عزلته على مسيرته الفنية أوائل السبعينيات، بانتقاله من أسلوب التجريد إلى الأسلوب الواقعي في رسومه، ومن رسم الجدارية التي توضع في المباني والميادين، إلى رسم اللوحات التي تعلق في المنازل، مثل لوحة «نساء» و«الأم والبنت والحارس» و«لاعب القيثار» و«إيفا»، وبدت ألوانه تميل للصبغة الداكنة. ثم عاد الفنان الأنصاري للأسلوب التجريدي مرة أخرى من خلال مجموعة الأعمال التي رسمها عام 1979م، والتي تعتبر أنضج ما قدمه في مسيرته الفنية من ناحية البناء اللوني للموضوع في تضمينه لها موقفه الاجتماعي، وسخطه على اهتمام الناس بالشكل لا المضمون، ويتجلى ذلك في لوحتي «الحجاب» و«الدكتور».
 لعل لوحته الحروفية «الله يشهد ما أنا بالذليل المستكين» التي وظف بها نصًا شعريًا لفهد العسكر، تعبر عن لسان حاله أصدق تعبير، بما يشعر به من أسى ولوعة، والتي تميزت بالغنائية اللونية، حيث أسقط بها كل خبراته الفنية، من عمق في التشكيل، وغنى في اللون، وتلقائية في التكوين... ويأتي اختياره لنص العسكر كدلالة خاصة في نفسه، وفي البوح عن سر عزلته، يكشف عنه الشطر الأخير «أو رحت أحرق في الدواوين البخور لأنصفوني»!
 وفي عام1982م أصدر كتابًا بعنوان «أفكار وتصورات نحو تطور مستقبلي أفضل»، وذلك في النواحي الثقافية والعمرانية والتعليمية، ووضع به خلاصة فكره وتجربته المعمارية والتشكيلية، حيث يرى أن تذوق الفن يساعد على التوازن النفسي ويؤدي إلى تهذيب الذوق والأخلاق، وأن الفن ضرورة وليس ترفًا، والعلم يجب أن يكون في خدمة الفن، والآلة والاقتصاد في خدمة الإنسان، والمدنية في خدمة الحضارة ■