فيلم «ريش» صرخة المهمّشين وانتقام من المستبدّين

فيلم «ريش» صرخة المهمّشين  وانتقام من المستبدّين

لم يكن المخرج المصري عمر الزهيري - وهو ينجز عمله السينمائي (ريش) - يتوقع أن يتبوأ هذا الفيلم تلك الشهرة وهذا النجاح الذي وصل إليه محليًا وعربيًا ودوليًا، وكل هذا بتكلفة متواضعة وطاقم تمثيلي جلّ عناصره هواة لم يسبق لهم الوقوف أمام الكاميرا، ومجموعة من الأشخاص الذين لم يسبق لهم التمثيل من قبل، لكن عمر تمكن - بفضل طموحه الفني وبراعته الإخراجية ورؤيته الإبداعية - من جمع لحمة سينمائية راقية ضمت مجموعة من المتميزين في الأداء والتشخيص والتصوير وتقنيي الصوت والإنارة والديكور والموسيقى...إلخ. 

 

فيلم «ريش» إنتاج سنة2021، كتبه المخرج عمر الزهيري بمساعدة الكاتب أحمد عامر، وتدور أحداثه حول قصة عائلة فقيرة، يقرر الأب الاحتفال بعيد ميلاد أحد أبنائه فيُحضر ساحرًا لتقديم فقرات مسلية، يستعين الساحر بالأب فيدخله إلى صندوق خشبي كبير ويحوله إلى دجاجة ويختفي. ومن هذه المفارقة العبثية تنطلق أحداث الفيلم، إذ تلجأ الزوجة إلى كل السبل لاستعادة الزوج، وتبحث عن الساحر لكن من دون جدوى.  وبعدما تستنفد ما لديها تبدأ في الاعتماد على نفسها لتدبير متطلبات الأسرة، فتقرر البحث عن عمل لإعالة الأسرة، وتدفع بابنها الأكبر للاشتغال في المصنع الذي كان يعمل فيه أبوه لسداد ديونهم.
وبعد استقرار أحوالهم يظهر الأب من جديد، حيث ستعثر الشرطة عليه رفقة مجموعة من المتشردين وقد أصابه الشلل، وفقد القدرة على الكلام والحركة، وهذا ما سيجعله عبئًا جديدًا على الأسرة. وينتهي الفيلم بإقدام الزوجة على خنق زوجها، بعد أن فقدت الأمل في عودته إلى سابق عهده، وبعد أن يئست من صمته المطبق وشلله التام، لتنتقم بذلك من تسلطه السابق، واستبداده الأسري الذي فرض عليها الصمت والخضوع والاستسلام أمام أوامره وشروطه وتعليماته.

بداية الفيلم
يبدأ الفيلم بصورة رجل يقوم بإحراق نفسه بالنار، وهي صورة بليغة ترمز إلى حال المواطن العربي المأزوم والمهزوم في البلدان المستبدة والمتسلطة، وهنا يستدعي المخرج الحدث البارز الذي كان وراء ولادة الثورات العربية (حرق البوعزيزي نفسه)، وكأن الفيلم يريد أن يشبه لنا حال المواطن المقهور المستسلم لاستبداد الحكام بوضعية هذه المرأة الخاضعة لتسلط زوجها. تظهر الزوجة في الجزء الأول من الفيلم بمظهر الشخصية المستسلمة الخنوعة والقنوعة بحالها، والتي لا تقوى على مجابهة زوجها المتسلط لا في الحوار والكلام ولا في التواصل الحركي والإيمائي، فالكاميرا تظهر الزوجة بوضعيتين بارزتين توضحان بشكل جلي مظاهر ضعفها وهوانها أمام استئساد هذا المستبد: 
1 - صمتها المستمر، وانعدام ردودها على كلام الزوج، وغياب حوار لها أو ردة فعل تجاه ما يقوله.
2 - ملامحها الخاضعة وعيونها التي لا تقوى على رفعهما إلى الأعلى للنظر صوب زوجها، فهي دائمة النظر إلى الأسفل، وهذا تلميح فني من المخرج لمدى السيادة الكبرى للزوج وسيطرته التامة على شخصيتها. وحينما تتفوه البطلة ببعض الكلمات القليلة جدًا فهي تعبر ضمنيًا عن الرضا والخضوع والتسليم، فمثلًا حينما يأمرها زوجها بالاعتناء بالبيت وتجهيزه لاستقبال عيد ميلاد ابنهما تجيبه بكلمتين فقط: «ماشي، حاضر»، تعبيرًا عن تأكيدها طلبات الزوج، وانصياعها التام لهذه الطلبات، وطاعتها العمياء لتوجيهاته وقراراته. 
إذًا، فالمرأة لا تظهر في الجزء الأول من الفيلم إلا كخادمة تقوم بدور الأم، ربة البيت المطيعة التي تنفذ كل ما يطلب منها: الطبخ، الاعتناء بالأولاد، الرضاعة، التنظيف، غسل الملابس... إلخ، ولا تظهر أبدًا في وضعية استراحة أو ترفيه أو راحة إلا بحضور زوجها وبإذنه... إنه الجبروت الذكوري الذي يحاصر الزوجة، ويكبل حريتها، ويعاند أحلامها، ويقف حاجزًا أمام طموحها ورغباتها، وسدًا يعيق حاجياتها النفسية والبيولوجية. 
حتى الأمور المنزلية في الفيلم يتحكم في تخطيطها الزوج وليس الزوجة، وهذا التصرف معاكس للمتعارف عليه في البيوت العربية، حيث الزوجة هي المدبر الرئيسي لشؤون المنزل. ويظهر هذا جليًا حينما يقوم الزوج بتوزيع الأوراق المالية الكافية على الزوجة، من أجل قضاء مآرب البيت وشراء ما يلزم من طعام ومعدات، ليخبئ الباقي في صندوق صغير ويخزنه في رف من رفوف الخزانة المنزلية، بينما لا تساير الزوجة هذا التحكم إلا بالتلبية والمهادنة والإذعان، تعبيرًا عن ضعفها وقهرها أمام هذا الظالم المتعسف، أما زوار المنزل وضيوفه الذين جاؤوا لحضور عيد ميلاد طفلهما فهم من الطبقة المهمشة، الفئة المنسية، الثلة المحرومة، وهذا واضح على ملامحهم التي أعياها الزمن، وأثر فيها حزنًا وبؤسًا، همومًا وقساوة، ضعفًا وهوانًا.
لا شك أن تحويل بطل فيلم «ريش» إلى دجاجة يُذكرنا برواية «المسخ» للكاتب التشيكي العظيم «فرانز كافكا»، ففي أحد الأيام يستيقظ البائع المتجول المطحون ليجد نفسه قد تحوّل إلى صرصار، لكن الفارق بين العملين كبير، فالمسخ عند «كافكا» يواصل سرد قصته بنفسه، كاشفًا من خلال تأملاته للعالم عن الاغتراب الذي يُعد إحدى أهم سمات المجتمع الحديث الرأسمالي، لكن بطل المخرج عمر الزهيري في الفيلم يختفي تمامًا بعد تحوله إلى دجاجة، كأنه كان مجرد وسيلة درامية لمنح المرأة فرصة لاكتشاف قدراتها الكامنة فيها، والتي لم تكن هي نفسها تُدركها، وكأن الفيلم يقدم دعوة مبطنة هامسة للتمرد على السكون والخنوع. وإذا كان الصرصار في «مسخ» كافكا لم يكن مجرد حشرة، بل وُظف كرمز للإنسان المقهور، فإن اختيار الزهيري تحويل بطله الديكتاتور إلى دجاجة لم يكن عشوائيًا أو من فراغ، وإلا فلماذا مثلًا لم يحوله إلى ديك أو صرصار، أو أي شيء آخر، حيث تُوصف الدجاجة بأنها كائن ضعيف، ثرثار، غير فاعل.

تبدل الأدوار
بعد تحول رب البيت إلى دجاجة، تحولت وظيفة الزوجة من خادمة مطيعة يرعاها زوجها إلى فاعلة أساسية في الفيلم، بتحملها مسؤولية الاعتناء بهذا الزوج المتحول إلى دجاجة، فلم تعد رعايتها مقتصرة على الأبناء وأمور المنزل فقط، بل إن غياب صاحب البيت فرض عليها ولادة جديدة، قوامها ترسيخ الشخصية الأنثوية والتحرر من الوصاية الذكورية المتسلطة، وأخذ زمام المبادرة في تسيير شؤون المنزل. الأكثر من هذا أنها أصبحت تعتني بزوجها المسكين الذي لا حول له ولا قوة، بعد أن كانت في البداية مجرد مطيعة له ومسيرة حسب أوامره وشروطه.  ومشهد اعتناء الزوجة بالدجاجة وإطعامها فوق السرير مقطع سينمائي بليغ استهدف من خلاله المخرج إخبارنا بتحرر المرأة من سلطة زوجها، وتبدل الأدوار بينهما، حيث أصبحت هي الراعية والمعتنية به، بعد أن مسخه الساحر إلى دجاجة لا حول لها ولا قوة. 
استهدفت الزوجة بعد ذلك البحث عن الساحر الذي كان سببا في مأساة زوجها، لكنها لم تنجح في ذلك، واتجهت بعد ذلك إلى مخفر الشرطة بقصد الإخبار عن غياب زوجها، لكنها لم تجد ما تقوله عن هذه الحادثة العجيبة والغريبة.  المثير في هذا المشهد هو شكل المخفر، وهيئته الرثة والبئيسة بجدرانه المتسخة والقديمة، وكمية الغبار المنتشرة فوق المكتب والمحاضر، وعتمة المكان التي تثير الذعر والخوف، وعزلة هذا الفضاء المهجور الخالي من الناس... إنه اختيار رمزي من المخرج يلمح إلى فضاء ذكوري مليء بالتسلط والاستبداد والطغيان، شبيه بفضاء المنزل البسيط الذي كان يديره البطل المتعجرف والمتغطرس.
حاولت الزوجة، بكل الطرق، إعادة زوجها إلى هيئته الإنسانية، وذلك بالاستعانة ببعض المشعوذين والسحرة بعد أن صرفت كل مالها في ذلك، لكن كل جهودها باءت بالفشل، وانتهت بالعجز وعدم القدرة على ذلك، خاصة أن هذه المهمة مسألة مستحيلة، متعذرة النجاح. اهتمت الزوجة كثيرًا بدجاجتها (زوجها المتحول)، ورعتها، من أول يوم للتحول، عن طريق إطعامها وتنظيف فضلاتها والحرص على راحتها، وتخصيص غرفة كاملة لاستقرارها، والأكثر من ذلك الاعتناء بصحتها وسلامتها، وهذا ما شاهدناه في بعض المشاهد التي رصدت مجهودات الزوجة في سبيل إنقاذ الدجاجة من الموت، بعد أن لاحظت مرضها واحتضارها فوق السرير. فما كان منها إلا أن أخذت الدجاجة مسرعة إلى طبيب بيطري، قصد العلاج المستعجل، من أجل الحفاظ على حياة الزوج، وأملًا في عودته إلى حالته الطبيعية مستقبلًا. 
إننا أمام تحول في الوضعيات وتغير بالأدوار وتقلب في الوظائف، فالزوج الذي كان راعيًا للبيت بذكوريته المطلقة وتسلطه اللامحدود تحول إلى دجاجة مذعنة وحيوان خاضع لا حول له ولا قوة، بينما الزوجة التي كانت ذليلة مطاوعة طائعة، تحولت إلى حارسة حامية، ومسؤولة محافظة، مدبرة ومخططة، ومربية حاضنة ترعى أطفالها وتعمل على تربيتهم، وسد خصاصهم من كل شيء: الطعام والشراب واللباس والألعاب... وفي سبيل ذلك لجأت إلى العمل والاشتغال، كتحوير في وظيفتها الأنثوية الطبيعية (مربية بيت)، وانتقال إلى وظيفة ذكورية مناقضة (العمل). كما أنها تكفلت بعناء الاعتناء بزوجها الدجاجة، مضحية بالغالي والنفيس (وزعت ما تبقى من أموالها التي تملك على الطبيب البيطري) من أجل الحفاظ على سلامتها وصحتها وراحتها.
الملاحظ كذلك أن الهشاشة والعشوائية والقذارة والإهمال صفات بارزة في الفيلم بجميع مكوناته الفنية:
- الفضاء الهش والمتسخ والمبعثر الذي نصادفه في كل مكان بالفيلم، انطلاقًا من بيت البطلة ذي الهيئة القديمة والعتيقة، الخالي من النظافة والطهر والنقاء، المليء بالتشققات والحفر في جدرانه، المكتظ بضجيج الأطفال وصراخ الرضع، الوضيع بوضعه العشوائي ومعداته البالية وأثوابه السملة. لم تسلم أيضًا من هذه الهشاشة المباني الإدارية الخاضعة للدولة (مخفر الشرطة، الذي يعج بالغبار والتلوث والنجاسة، والعيادة البيطرية المهملة المليئة بروث الحيوانات وبقاياها الملوثة - قذارة الأسواق والطرق والمحلات...إلخ).
- هشاشة الشخصيات: معظم هذه الشخصيات من الطبقات المسحوقة والفئات المحرومة والمحتقرة اجتماعيًا، لهذا فقد اختار المخرج تصويرها في أوضاع يرثى لها، سواء في وضعيتها المهمشة أو في هيئتها البدائية أو في لباسها البالي والمرقع أو في مسكنها المهترئ الرميم. 
إنها صورة مغايرة للواقع المصري، والتي رسمها المخرج عمر الزهيري في هذا الفيلم الجميل، بطريقة إبداعية مختلفة عما عهدناه في السينما المصرية.  ساعدت الألوان الباهتة والإنارة الخافتة على رصد هذه الاختلالات الاجتماعية المزرية، والأوضاع الطبقية المتفاوتة التي يعاني منها المجتمع المصري، من خلال إلقاء الضوء على فئات منسية تم إقصاؤها تعيش الفقر المدقع والعوز المعسر والعجز المعدم، وتحيا على الهامش، مفتقدة حقوقها، ومحجور على كرامتها.  وتجابه بكل قواها في سبيل الحصول على لقمة عيشها.

جماليات القبح
في الفيلم، إذًا، حضور بارز لجماليات القبح، حيث إن الكاميرا لا تلتقط الأحياء الراقية والفيلات المعاصرة والسيارات الفاخرة... بل تعرض مواضع هامشية وأشخاص بسطاء وأماكن عشوائية وأشياء باهتة... إلخ، حيث يضفي المخرج السينمائي بفنيته الراقية جمالية وتعبيرًا فنيًا على هذه الأشياء القبيحة، المعبرة عن حالة الأسرة.  فهذه العناصر ورغم نفور المشاهد من صورتها البئيسة، إلا أن وراءها تعبيرًا إبداعيًا وتخييليًا رائعًا يلمح لمضمون الفيلم وسياقه الفني.
ركّز هذا العمل على مجموعة من الحيوانات الأليفة والوضيعة التي تنتمي إلى صنف القطيع، وكلها تدل على حالة الاستكانة والخضوع، الطاعة والانقياد، الإذعان والامتثال. اختار المخرج توظيف هذه الدلالات للتعبير عن حالة بطلة الفيلم (الخاضعة)، التي تسير وفق سير زوجها، وتلبي كل أوامره وتوجيهاته، وتتبع كل شروطه وطلباته. كذلك نصادف في الفيلم مشاهد متنوعة، تركز على قطع الدجاج المذبوح عند بعض محلات بيع اللحوم، وفيها إشارة إلى بطل الفيلم الذي تحول إلى دجاجة مقيدة، فاقدًا لإنسانيته وكرامته، ومفتقدًا سطوته وتسلطه.
إن الأم في «ريش» تؤدي دورًا رئيسيًا ووظيفيًا في الأحداث، كونها عوضت دور الأب في إعالة أبنائها والاعتناء بزوجها (الدجاجة)، وأصبحت تلعب دور ربة البيت التي تعاني وتقاسي في سبيل بيتها وزوجها وأبنائها، حيث تواجه مجتمعًا رجوليًا قاسيًا لا يحن، وتجابه أوضاعًا اجتماعية لا ترحم، تبحث عن العمل بداية، ثم يتم رفضها كونها امرأة، بينما صاحب العمل لا يشغل إلا الرجال. تستمر في البحث، وتخوض غمار عمل شاق في أحد المنازل الأرستقراطية. تتعب وتجاهد في سبيل لقمة العيش، ثم تطرد من العمل شرّ طردة بعد أن ضبطت وهي تسرق بعض الحاجيات البسيطة لأطفالها من بقايا طعام وحلوى. 

مجتمع طبقي متسلط
إننا أمام مجتمع طبقي متسلط لا يرحم الضعفاء والفقراء، مجتمع غارق في الترف والغنى يحاسب فقيرًا ويعاقبه على سرقته بقايا الطعام! كما تم الاستيلاء على أغراض الزوجة بعد عجزها عن أداء إيجار المنزل لشهور متتالية، ما دفع موظفي وزارة الإسكان إلى الحجر على ممتلكات المنزل: التلفاز، الثلاجة، المذياع... إلخ. وهذا المشهد صورة مأساوية لحالة المواطن المصري وهو المضطهد في أرضه وبلده، والمحروم من أبسط حقوقه (السكن)، والمحتقر من كل الهيئات في موطنه.
وتنجح أخيرًا محاولات البطلة في الحصول على عمل، وذلك بمساعدة صديق زوجها الذي يتوسط لها مع صاحب مقاولة تجارية لبيع اللحوم، لتتمكن بذلك من أداء قسط من ديونها، وتساعد أبناءها على سد رمقهم، وتعين زوجها الدجاجة على الاستمرار في مقاومة العودة إلى الوضع الطبيعي. 
هكذا يظهر أن قصة الفيلم قريبة من نمط الواقعية السحرية، التي اعتمدها كتاب كبار في العالم (غابرييل ماركيز وباولو كويلو وبورخيس...إلخ). وهي طريقة تعالج قضايا الفرد والمجتمع بأسلوب فني يمزج الواقعي بالمتخيل، الحقيقي بالحلم، المجسد بالمتصور. ومسخ الإنسان هنا إلى دجاجة هي طريقة متخيلة، اختارها المخرج لمعالجة قضايا واقعية: اجتماعية وأسرية، يعيشها المواطن المصري والمواطن العربي بصفة عامة.
في أكثر المشاهد كنا نصادف الأم وهي في حالة صمت وخضوع واستكانة، بحيث إنها لا تستطيع رفع عينيها إلى الطرف الآخر في جميع المشاهد الحوارية التي دارت بينها وبين الشخصيات الأخرى. ولهذه الوضعية رمزية مرتبطة بما عانته من تسلط وقاسته من قهر، في مجتمع ذكوري يقمع الصوت الأنثوي، ويرفض حضور المرأة في جل المرافق الرئيسية وشتى الميادين والمجالات، ففي المنزل عانت من صرامة زوجها وذكوريته الحادة وأوامره الجادة، أما حينما تخلصت من هذا العائق، فإنها صدمت بواقع مر يرفض حضور النسوة في مجال الشغل والعمل، أضف إلى ذلك المضايقات التي تعرضت لها من عديد الرجال: الساحر الذي تلاعب بمصير زوجها دون حس أو مسؤولية - صديق زوجها الذي تحرش بها - صاحب المقاولة الذي طردها وهددها بالسجن بعد ضبطها متلبسة بالسرقة - ضابط الشرطة الذي سخر من تبليغها باختفاء زوجها وتحوله إلى دجاجة... إلخ.
وأمام هذا الاضطهاد الذكوري، قاومت المرأة هذا الإقصاء، وحاولت تشغيل ذكرها الصغير وسندها اليافع (ابنها) بدل زوجها المتغيب، لكن رب العمل اشترط عليها إحضار محضر يثبت تغيب الأب عن العمل. ولما ذهبت إلى مخفر الأمن، من أجل طلب هذا المحضر فوجئت بعثور الشرطة على زوجها، رفقة مجموعة من المتشردين، وهو في حالة يرثى لها، من الشلل والمرض والجوع والاتساخ والشعر الكثيف في رأسه وذقنه.
قامت البطلة بالاهتمام بحالة الزوج البئيسة، بعد العثور عليه في حالته المزرية (التشرد). وهذه العناية تكشف عن دورها الريادي والقيادي في المنزل، الذي عوض خضوعها وتبعيتها لزوجها سابقًا (انقلاب الأدوار). أما في المنزل ومع غياب الأب، فقد قاست الزوجة بشكل كبير في تربية أبنائها وتنشئتهم، وكثيرًا ما كنا نسمع صوت صراخ الأطفال الصغار وبكاءهم في جميع مراحل الفيلم، وهذا تلميح من المخرج إلى جو التعاسة والحزن والأسى والألم الذي يغمر هذا المنزل التعيس جراء توالي النكسات والصدمات، من بداية الفيلم إلى نهايته:  تسلط الأب ، تحوله إلى دجاجة، الفقر الشديد، صعوبة إيجاد العمل، صعوبة الاعتناء بالأطفال والبيت، تعاقب الضرائب والفواتير والديون على المنزل، تشرد الأب، مرضه وشلله... إلخ.
ولتصوير هذه الحالة المأساوية التي تسيطر على البيت وتغمره بالسوداوية والبؤس والشقاء استعان عمر الزهيري ببعض الاستعارات السينمائية والرموز البصرية، حيث يدل الغبار الخانق الذي ينبعث بكثافة من النافذة، على الخنق الاجتماعي الذي تعيشه الأسرة المتأزمة، نتيجة تكدس المصائب والمشاكل والأزمات. ويوحي تلفاز المنزل، الذي تحطمت بعض أجزائه وتكسرت بعض قطعه، بالوضعية المحطمة للأسرة الحزينة، والحالة المنكسرة للعائلة التعيسة. 

إشارات بليغة
يحمل الحدث الأخير من الفيلم إشارات دالة ومعاني بليغة، كونه صور الزوجة وهي تقوم بخنق زوجها المصاب بالشلل بدم بارد، ثم تذبح الدجاجة التي احتفظت بها بعد مسخ زوجها من طرف الساحر. ويتبع هذا الحدث تركيز من الكاميرا على صورة الدماء الملطخة بعد ذبح الدجاجة، ثم انتقال من العدسة إلى رصد اجتماع الزوجة مع أبنائها في المائدة بفرح ونشوة، وهم يستمعون إلى أغنية منبعثة من التلفاز - بصوت مرتفع - مطلعها: «أهلًا بالحياة». إنها لحظة تلمح إلى الانعتاق والتحرر، الانفكاك والخلاص من السلطة الذكورية التي تحكمت في مصير الزوجة، وألجمت صوتها الأنثوي، وجعلتها خرساء مستسلمة أمام غرور الزوج وتغطرسه، أمام تحرش صديق الزوج واستغلاله وتحكمه، أمام جشع الإدارة وقمع السلطة وقهر الحكومة، أمام استعباد الأغنياء وإذلال الأثرياء، فكان فعل القتل هنا انتقامًا رمزيًا من هذه الوضعية البئيسة، وتخلصًا من قيود الأسر الذكوري وأغلال التسلط الفحولي، وإعلانًا عن الصوت النسوي والكبرياء الأنثوي والبوح الناعم في تركيبة المجتمع المصري.
على المستوى الفني، لعبت الأصوات الحادة واللقطات المكبرة دورًا بارزًا في الكشف عن التفاصيل والجزئيات، والأشياء الهامشية التي تعبر عن حالة الأسرة البئيسة، فأمام ضآلة حضور صوت الشخصيات في غياب التكثيف الحواري بهذا العمل نجد أنفسنا أمام صدى لأصوات بارزة تسهم في البنية الدرامية للفيلم: صراخ الأبناء، طرق الأبواب، صوت الأحذية، رنة الأدوات والوسائل المنزلية، منبهات السيارات، جرس الألعاب، أصوات إنسانية... إلخ. وهي أصوات تعوض الصمت المهيمن على الفيلم، وتعبر عن حالة الهشاشة التي تعاني منها الأسرة وهذه الفئة الاجتماعية التي تعيش البؤس والحرمان والفقر، في مجتمع مصري يعيش واقع التفاوتات الطبقية الشاسعة والممتدة. 
كذلك أدت اللقطات المكبرة والمكبرة جدًا وظائف فنية، حيث أسهمت في التعبير عن الهامش المنسي في المجتمع المصري، فقد سايرت اللقطات الموضوعة في التركيز على كل الجزئيات الهامشية والثانوية التي ترافق الأحداث: التركيز على ريش الدجاج، التركيز على الدماء، وجه الحيوانات، معدات منزلية، ألعاب، شعر الزوجة، فمها من الداخل، تجاعيدها، أعينها، مقود السيارة، عجلاتها، المفاتيح، مزلاج الأبواب... إلخ. 
وفي مجال التشخيص اعتمد المخرج المصري عمر الزهيري، على فنانين هواة وممثلين غير معروفين، انتقاهم من البيئة المصرية البسيطة، ليخلق نوعًا من الواقعية على أحداث فيلمه (ريش). وما زاد من هذه الواقعية، هو التلقائية التي ميزت سلوكهم وتصرفاتهم، والعفوية التي طبعت تشخيصهم وتجسيدهم للأدوار. فالفيلم لا يوجد به ممثل أو ممثلة معروفون من قبل، كلهم كومبارس وممثلون مغمورون، أو شخصيات حقيقية تؤدى نفس دورها في الحياة مثل أم ماريو أو دميانة نصار التي تصدرت صورها صحف ومجلات السينما العالمية، على الرغم من كونها مجهولة في سماء الفن والسينما، بالإضافة إلى أن كل الشخصيات في الفيلم كانت غير مسماة، لأن المخرج أراد التخلص من الحدود بين الممثل والمتلقي، حيث استهدف خلق حالة من التواصل بين المشاهد وشخصيات الفيلم البسيطة للغاية، التي - عادةً - لا يلتفت لها أحد في الحياة الواقعية، فكان اختياره عدم تسمية الأبطال تأكيدًا على انعدام أهميتهم بالنسبة للمجتمع، كما أنه لم يقم باختيار الزمن، وترك كل ذلك مبهمًا للمشاهد.

فضاء هش
جاء الفضاء في الفيلم هشًا بئيسًا بحالة مرثية، تكشف عن المكانة الاجتماعية الفقيرة لهذه الأسرة التي تعيش على هامش النسيان والإهمال، وهذه هي وضعية العديد من الفئات الطبقية المحرومة من كرامتها والمهضومة من حقوقها، فكل الأمكنة التي نصادفها في هذا العمل تتسم بالقذارة والإهمال، بدءًا من السكن العشوائي للأسرة وبقايا الدجاجة الملوثة للغرفة، مرورًا بمخفر الشرطة الذي يعج بالغبار الخانق والتقصير الواضح، ثم فضاء العمل المليء بفضلات الحيوانات ودماء القطيع والدواجن، والإدارات المحلية التي يتصف أصحابها بالتقاعس والتهاون والاستهتار، وأخيرًا المزبلة القذرة التي عثر فيها على زوج البطلة، وهي مكان دنيء يضم مختلف المتشردين والمتسولين والضالين في البلدة.  وقد قام مصمم الإنتاج «عاصم علي» بعمل جيد في وصف واقع هذه الشخصيات البسيطة، من خلال ديكور من الطلاء المقشر والأثاث المكسور والأرائك الرثة التي تمتد في مجموعات متفرقة من الأمكنة المتضعضعة. 
على مستوى الإضاءة، سيطرت العتمة وغمرت الدهمة المنزل في أغلب مقاطع الفيلم، حيث الإنارة ضعيفة وخافتة ومنزوية أمام ثقل البؤس الذي يسيطر على المكان، فالمخرج استهدف من هذه الظلمة السوداء تصوير واقع هذه الطبقة البسيطة، المليء بالبؤس والأسى والمعاناة، وهي فئة منسية ومقهورة ومحطمة ماديًا ومعنويًا، نفسيًا وجسديًا، اجتماعيًا واقتصاديًا، في ظل التفاوتات الطبقية الشاسعة والصارخة التي يعرفها المجتمع المصري. 
 كذلك، استهدف المخرج عمر الزهيري من خلال هذا الدجى الطاغي على الأحداث رسم صورة عن التسلط والإقصاء والاستغلال الذي يطبع علاقات الشخصيات الذكورية بالشخصيات الأنثوية: تسلط الزوج، إقصاء الزوجة، ذكورية المجتمع وتهميشه لإمكانات المرأة واستغلاله لجسدها (رغبة المدير في عمل علاقة غير شرعية مع الزوجة)... إلخ. 
في الختام، يبقى الفيلم المصري «ريش» علامة فنية بارزة، حاولت كشف الواقع وتعرية مختلف الظواهر الاجتماعية السلبية التي تطغى في المجتمع المصري، بأسلوب يمزج بين الواقعية والفانتازيا، بين الدراما والسخرية، وبين الجد والهزل... إلخ.  ولا غرو أن يترشح هذا العمل للعديد من الجوائز العربية والدولية، ويتوج بالجائزة الكبرى لأسبوع النقاد في مهرجان « كان» الفرنسي. 
وقد صرّحت لجنة التحكيم في مهرجان كان بأن الفيلم حصل على الجائزة «لاحتوائه على مزيج فريد من الكوميديا والمأساة والجو الغريب والتمثيل السريالي للفقر».
وكان «ريش» قد أثار الجدل في الساحة السينمائية المصرية، واتهمه البعض بالإساءة إلى سمعة مصر في المهرجانات الدولية، وانسحب ثلاثة فنانين مصريين من مشاهدته أثناء عرضه في مهرجان الجونة، لكن هذا لم ينقص من قيمته الإبداعية، وجودته الجمالية التي جعلت عيون خبراء السينما تتجه إليه، وتقدم مجموعة من الملاحظات النقدية الإيجابية حول موضوعه وتقنياته الفنية ■