الطِّيبة... لعالم أفضل

الطِّيبة... لعالم أفضل

يؤمن رئيس مدرسة علم النفس بجامعة ساسكس البريطانية روبين بانيرجي الملقب
 بـ «بروفيسور الطيبة» بحقيقة أننا جميعًا بحاجة إلى تعلم ممارسة الأفعال الطيبة في المواقف المختلفة ونشرها بين الناس، وبحاجة إلى أن يطرح الواحد منا أسئلة مهمة على نفسه، مثل: «هل ما فعلت طيب؟» و«هل قمت بعمل طيب اليوم؟»، و«كيف يمكن التشجيع على الأعمال الطيبة في بيوتنا ومجتمعاتنا وأماكن العمل، وجعلها مادة لأحاديثنا اليومية؟». وذلك في محاولة لجعل العالم مكانًا أفضل. ويرى بانيرجي أنه لا يهم أن تكون أفعالنا الطيبة صغيرة، فلكل فعل مهما صغر تأثيره الإيجابي على المتلقي والمعطي أيضًا.

من منطلق هذا الإيمان، أسس بانيرجي مركزًا متخصصًا لدراسات الطيبة في جامعته بهدف معرفة كيفية تغير اتجاهات الناس وخبراتهم في المجموعات المختلفة؛ وكيف يمكن أن تتعلق خبرات الطيبة بالصحة والسلامة، والخبرات الاجتماعية والنفسية الأخرى. ويجمع المركز فريق من علوم متباينة من الأكاديميين وشركاء بالمجتمع من مختلف التخصصات يعملون معًا لاستكشاف وبحث موضوع الطيبة، وإلقاء الضوء على ما تتركه من آثار على الناس والمجتمعات.
قاد البروفيسور بانيرجي مشروعًا بحثيًا حول الطيبة، اعتبر الأكبر والأعمق في العالم، وذلك بالتعاون مع «بي بي سي»، حيث عملت الكاتبة ومقدمة البرامج كولوديا هاموند كأستاذ زائر بجامعة ساسكس، وساهمت في تنفيذ المشروع، ثم عرضت نتائجه عبر برنامجها «تشريح الطيبة» في راديو 4، كما ضمنته في كتاب لها نشر مؤخرًا بعنوان «مفاتيح الطيبة».
أجريت الدراسة عبر الإنترنت في الفترة من أغسطس حتى أكتوبر 2021، وشملت 60 ألفًا و227 مشاركًا يمثلون 144 بلدًا، وتراوحت أعمارهم بين الثامنة عشرة والتاسعة والتسعين سنة. وتضمنت الاستبانة، التي استغرقت نصف ساعة للاستجابة لها، أسئلة متعلقة بجوانب عديدة، مثل شخصية المشارك، وصحته النفسية، ومدى ممارسته لأعمال طيبة في حياته اليومية، وسوى ذلك. ولم تطلب بيانات شخصية كأسماء المشاركين وعناوينهم. وتم تحليل المحتوى من جانب فريق من المتخصصين في علم النفس بمركز دراسات الطيبة لمعرفة مزيد من التفاصيل عن الاتجاهات المعاصرة نحو الطيبة في الحياة اليومية على أرض الواقع، وما يمنع الناس عن ممارستها، وأعلنت النتائج في مارس 2022. 

شيوع الطيبة  
كشفت الدراسة عن ارتباط الطيبة بمفاهيم النقص العاطفي، والرعاية، والمساعدة، والتفكير في الآخرين، والتعاطف. وتبين أن أفعال الطيبة شائعة، حيث ذكر ثلاثة أرباع المشاركين أنهم كثيرًا ما يتلقون لفتات طيبة من أصدقاء مقربين أو من أفراد الأسرة في جميع الأوقات تقريبًا. وكان آخرها الساعة واليوم السابق للاستجابة للاستبيان بالنسبة لـ %16 و%43 من المستجيبين على التوالي. 
إن أكثر أفعال الطيبة شيوعًا مساعدة الناس عندما يطلبون المساعدة؛ ما يعني أن الأمر لا يتطلب بذل جهد كبير حتى نكون طيبين. ويكفي أحيانًا أن نبتسم، أو نمسك الباب حتى يمر الشخص الذي بعدنا أو أمامنا، أو نساعد شخصًا لا نعرفه بالتقاط شيء وقع منه، أو مجرد التعاطف مع فئة غير محظوظة من الناس. وخلصت الدراسة إلى أن أعمال الطيبة غالبًا ما توجه للناس في البلاد، ثم لمن هم في بلدان أخرى، ثم البيئة، والحيوانات.
واعتقد ثلثا المشاركين أن وباء كورونا جعلهم أطيب، والدليل أنهم قضوا وقتًا أطول في رعاية بعضهم البعض. ولاحظوا كيف أن فعل الطيبة البسيط يمكن أن يشكل فرقًا كبيرًا. ووجدت الدراسة رابطًا قويًا بين تلقي الطيبة وممارستها بشكل منتظم، وارتفاع مستويات الشعور بالسلامة النفسية. وهو ما يتفق مع أبحاث سابقة كثيرة بينت أن الطيبة تجعلنا نشعر على نحو أفضل.
ومن النتائج الأخرى التي برزت، أن المنفتحين يمنحون الطيبة ويتلقونها بصورة أكبر من غير المنفتحين، لأنه عادة ما تتمتع الشخصية المنفتحة بالخيال والفضول وحب خوض الخبرات الجديدة والحديث مع الغرباء. وقد أكد الذين تحدثوا مع غرباء من المنفتحين، أنهم لمسوا طيبة ولاحظوها بصورة أكبر مقارنة بمن لم يفعلوا؛ وإن كان ذلك لا يمنع أن يكون الإنسان الهادئ وغير المنفتح طيبًا أيضًا. 

الطيبة في البيت والعمل 
وفقًا للمشاركين، كانت أكثر الأماكن التي تشهد جل أفعال الطيبة البيوت، وأماكن العمل، والأماكن الخضراء، والمحلات التجارية؛ بينما تقل لمسات الطيبة على الإنترنت، وفي المواصلات العامة، والشارع. وقد اتفقت الغالبية على أن أفعال الطيبة تلقى التقدير في العمل، لاسيما في مجالات الرعاية الصحية، والعمل الاجتماعي، والضيافة، والتعليم.  
وكشفت الدراسة عن أن النساء وكبار السن والمتدينين هم الأكثر قيامًا بأعمال الطيبة من سواهم في المتوسط. وحتى مع تحفظ أن يكون دافع بعض من هذه الفئات ضرورة أن يكونوا طيبين ليبدوا في صورة جيدة أمام الناس، تشير دراسات إلى أن هناك من اعترفوا بأنهم ليسوا كرماء، أي إن الناس قادرون على الحكم على أنفسهم بصورة جيدة، لاسيما مع عدم وجود ما يستدل على هويتهم. 
وبرر المشاركون في الاستبانة أسباب العزوف عن تقديم الطيبة بالخوف من التفسير الخاطئ لتصرفاتهم وضيق الوقت والصور السلبية التي يرونها على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. 
هذا، ولم يشكل حجم الدخل سوى فرق بسيط في فعل الطيبة. لكن عندما طلب من المشاركين تخيل حصولهم على مبالغ غير متوقعة، وسؤالهم: كم يمكن أن يعطوا منها؟ قال بعضهم: لا شيء، وتوقع آخرون منح ربع النقود، ونسبة أقل لمن دخلهم أقل- وهو ما يعد منطقيًا- ومن بين أصحاب الدخل الأعلى من قرروا منح قدرٍ أقل من المبلغ. 

فوائد الطيبة
للطيبة فوائد جمة، منها ما أثبتته دراسة أجريت في الصين بينت أن مجرد التفكير في الطيبة يمنح المرء شعورًا بالقوة، ولو مؤقتًا، حيث ساعد هذا النوع من التفكير المشاركين في الدراسة على الجري بصورة أقوى ورفع أحمال أثقل.
في أحد الفيديوهات على الإنترنت تظهر سيدة تحكي بفخر وسعادة عن تجربة طيبة عاشتها لمدة عام، بدأت بقرارها أن تقوم بعمل طيب كل يوم، ما بين ابتسامة لشخص، أو حمل مشتريات سيدة مسنة، أو غير ذلك. وهو ما يدل على خبرة «ذروة العاطي الطيب» التي تملأ القلب بالدفء والشعور الجميل. ومن واقع التجربة يتأكد أن فعل الطيبة حدسي لا يحتاج إلى الكثير من التفكير، بل إن زيادة التفكير يمكن أن تقلل الطيبة. وتؤكد الدراسات أن فعل الطيبة ينشط الدماغ ويحسن المزاج ويجلب السرور.
ومن المبادرات الداعية للطيبة حملة نظمت أثناء إغلاق كورونا 2020 وجهت الدعوة فيها لطلاب المدارس لكي يكتبوا رسائل لمسنين. وتدفقت الرسائل من 250 مدرسة إلى 250 دار رعاية. وفي مبادرة أخرى طلب من الأطفال رسم أنفسهم وهم يقومون بأعمال طيبة، فرسمت طفلة نفسها وهي تساعد زميلًا لها يوشك على السقوط، وأظهرت أخرى نفسها تواسي زميلتها التي تبكي لشعورها بالحزن لعدم رغبة أحد في اللعب معها. كما اعتبر الأطفال مبادرة معلمة بمنح طلابها الحلوى أو إطالة وقت الفسحة، أو الاستماع لمشكلاتهم، أعمالًا طيبة. ومن المؤكد أن مثل هذه المبادرات يعمق معرفة الأطفال بمفهوم الطيبة، ومع تقدمهم في النمو لابد أن يتطور هذا الفهم ويترسخ في وجدانهم.  

وصفة للطيبة
في كتابها «مفاتيح الطيبة» شرحت هاموند نتائج الاستبانة المشار إليها، وعلقت عليها وقدمت وصفة لمن يرغب في رفع مستوى الطيبة لديه، بأن أوصت بمراقبة الأفعال الطيبة والطيبين، لأن ذلك يساعد على تمرير أفعال الطيبة لمن يقدمها وللآخرين حتى تنتشر. ومن الأفضل الاجتهاد أكثر بتسجيل ملاحظاتنا. وملاحظة ما يصدر عن الصغار من أفعال الطيبة وتعزيزها بتشجيعهم على الاستمرار فيما، وتأكيد عكس الاعتقاد السائد الذي يراهم أنانيين ولابد أن سعادتنا ستزيد إذا أدركنا الكم الهائل من الطيبة حولنا. كما تنصح بالتغاضي عن الأفعال غير الطيبة ومقاطعة التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي التي تروج لها. ومنع الأخبار المحبطة من التسلل إلينا، والسيطرة علينا. 
وتدعونا هاموند إلى الاستمتاع بالإحساس الدافئ الذي يصاحب الطيبة، واستشعار الأثر النفسي الإيجابي على صحتنا الجسمية والنفسية، وملاحظة تراجع القلق الاجتماعي والضغط النفسي والتوتر، والبحث عن المسرة والمعنى في الحياة، والتطوع لتحسين مستويات تقدير الذات والثقة بالنفس والصحة العقلية، فالعمل التطوعي عمل رابح، وعلاج سحري للمشكلات.
ومن النقاط المهمة أيضًا، أن نتذكر أن الطيبة لا تعني الضعف ولا تتعارض مع النجاح ولا اتخاذ القرارات الصعبة، بل تختصر الطريق إلى القلوب والعقول وتنجز ما لا يمكن أن ينجز بدونها. 
ومن تمارين الطيبة الجالبة للسعادة محاولة ترك الوضع في حال أفضل مما كان عليه. ورؤية الأفضل في الناس، ووضع أنفسنا في أماكنهم، والتعاطف معهم وتفهم اختلافهم معنا ومعاملتهم كأصدقاء قدامى. وهذا، على صعوبته ممكن إذا اعتبرناه مهارة يمكن استثمار الوقت والجهد في تطويرها، كأن نتعلم تطبيق عبارة مثل «قل خيرًا، أو اصمت». 

الاستماع للآخرين والقراءة 
تعتبر هاموند الاستماع للآخرين والحديث مع الغرباء تمرينًا جيدًا لممارسة الطيبة. والقراءة مفيدة لأن الكثير من الكتابات ملهمة وقادرة على تعليم الطيبة والتعاطف وفهم وجهات النظر الأخرى. كما أن تخيل أنفسنا ونحن نساعد الآخرين مفيد، لنكون مستعدين عندما تسنح الفرصة لذلك. 
هذا، ولابد من الصدق مع الذات عند ممارسة الطيبة، وممارستها بطريقتنا دون تقليد لأحد أو إرضاء لأحد. وقبل كل شيء من المهم أن نكون طيبين مع أنفسنا، لتكون طيبتنا مع الآخرين حقيقية ومتوازنة. 
وتتبنى هاموند مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه التي ترى أن «من لا يستطيع منح أي شيء لا يستطيع أن يشعر بأي شيء أيضًا». وتؤكد أنه بشيء من التضحية نلمس ذواتنا الحقيقية. 
فهل نجعل العالم أطيب؟ ■