زوجة الأب الشريرة بين الواقع والخيال

زوجة الأب الشريرة بين الواقع والخيال

تشير التقديرات إلى أنه على مدى عصور عديدة يمكن إحصاء ما يقارب 900 قصة عالمية تصور زوجات الأب على أنهن شريرات قاسيات القلب يملْنَ إلى تعذيب أبناء أزواجهن إلى درجة قد تصل إلى القتل أحيانًا. وتزخر قصص الخيال بشخصيات تمثل زوجات الآباء بصور «سلبية» على أقل تقدير، ففي قصة «التاجر والعفريت» من روايات «ألف ليلة وليلة» تقوم زوجة الأب «الساحرة الشريرة» بمسخ ابن زوجها في صورة حيوان من حيوانات المرعى، وفي قصة «بياض الثلج» تتنكر زوجة الأب الشريرة في هيئة عجوز شمطاء وتقوم بإهداء تفاحة مسمومة لـ«بياض الثلج» كي تتخلص منها فترقد الأخيرة بوجهها الشاحب في حالة إغماء تشبه الموت في تابوت زجاجي إلى أن يأتي الأمير وينقذها، أما في قصة «هانسيل وغريتل» فتقوم زوجة الأب الشريرة بنفي أبناء زوجها إلى الغابة. 

 

تتكرر صورة  زوجة الأب الشريرة أيضًا في قصة «سندريلا» الشهيرة، حيث تقوم زوجة الأب بكل ما في وسعها لإذلال ابنة زوجها الشابة الجميلة «سندريلا» وتحاول منعها من الزواج بالأمير الشاب الوسيم.  وفي تحليل لتلك القصص نجد أن أكثر تمثيلات الشر شيوعًا التي تتضمنها هي العمالقة والدببة والذئاب والغيلان والسحرة بالإضافة إلى زوجات الأب، وبالتالي فإن زوجات الأب هنّ ما يعادل الحيوانات البرية والكائنات الخارقة، وبما أن الأطفال لا يحظون بفرصة كبيرة لمواجهة تلك الحيوانات البرية والكائنات الخارقة في الحياة الواقعية بحيث تبقى محصورة في صفحات الكتب، لكن قد يحدث أن يتعاملوا مع زوجة أب لهم في حالات معينة. 

صورة نمطية 
مما لا شك فيه أن تلك القصص الخيالية ساهمت في تعزيز صورة نمطية كلاسيكية لزوجات الأب في الوجدان المجتمعي لاسيما أن شركات إنتاج عالمية مثل «والت ديزني» وغيرها حولت الكثير من هذه القصص إلى أفلام ومسلسلات حققت انتشارًا عالميًا، مما أدى إلى ترسيخ هذه الصورة النمطية لزوجة الأب التي هي دائمًا ساحرة شريرة قاسية لا هم لها إلا إيذاء أولاد زوجها الأيتام.  الجدير بالذكر أن الأساطير المتعلقة بزوجة الأب قوية جدًا لدرجة أنها ما زالت تعيد عالمنا الحديث إلى حدود تلك القصص الخيالية حتى بعد فترة طويلة من نشوئها، فقد استمر هذا النوع من الأفلام في الظهور إلى وقت قريب حتى مع تغير المجتمعات وانتشار أكبر للأسر الربيبة لا سيما مع ازدياد حالات الطلاق في مختلف المجتمعات، حتى في عالمنا العربي، كما تشير العديد من الإحصاءات.  فطوال التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين استمرت روايات «ديزني» الكلاسيكية - مثل النسخة الحديثة لفيلم «سنو وايت» أو «بياض الثلج» الصادر عام 1997 وفيلم «إيفر آفتر» الصادر عام 1998 والذي يستند إلى قصة «سندريلا» - في لعنة زوجة الأب، فالفكرة على ما يبدو بقيت عالقة بقوة في ذاكرة الجماهير: زوجات الأب بغيضات مهملات وقاتلات من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال وقاتلات من الدرجة الأولى في أسوأ الأحوال.

الأساطير الرومانية
أما عن أسباب تصوير زوجات الآباء بهذه الصورة، فالأبحاث تشير إلى أن جذور صورة زوجة الأب الشريرة تعود إلى روما القديمة بحيث إنه في الأساطير الرومانية كانت الـsaeva noverca (زوجة الأب الشريرة أو القاسية) تعتبر شخصية كلاسيكية، ويقال إن أول شخصية حقيقية أعطت شهرة لنزعة زوجة الأب الشريرة في تلك الأساطير هي «ليفيا دروسيا»، أول إمبراطورة رومانية. و«ليفيا» كانت الزوجة الثانية للإمبراطور«أغسطس»الذي تولى السلطة بعدما واجه «يوليوس قيصر» نهايته الدموية على يد أقرب المقربين له عام 44 قبل الميلاد، ويُقال بأن «ليفيا» هي التي قامت بقتل ولديه ومن ثم حفيده لتتخلص من كل وريث محتمل للعرش وبالتالي عبّدت الطريق لابنها هي، الذي كان يدعى «تيبيريوس» لتولي العرش. وقد سكب «وليام شكسبير» المزيد من الزيت على النار من خلال تحويل الزوجة الثانية لـ«سيمبلين»، ملك بريطانيا، إلى قاتل متآمر، وذلك في مسرحيته التي تحمل عنوان «سيمبلين». ثم جاءت «حكايات الأخوين غريم الخيالية» للأخوين الألمانيين «جاكوب» و«ويلهيلم غريم» اللذين كانا أكادِيميّين ولُغويّين وباحثين ثقافيّين وكاتبين، قاما معًا بِجمع القصص الشعبيّة الألمانيّة وتخريجها في كتاب واحد خلال القرن التاسع عشر، وكان من بينها أكثر القصص الخيالية شهرة مثل قصة «سندريلا»، و«الأمير الضفدع»، و«هانسل وغريتل»، و«رامبيل ستيلتسكين»، و«بياض الثلج والأقزام السبعة»، و«ذات الرداء الأحمر»، و«رابونزل»، التي قادتنا إلى عوالم خيالية مظلمة أكثر ما حددتها شخصيات زوجات الأب الحاقدات الخبيثات ومهدت الطريق أمام شركة «والت ديزني» للتكرار المتواصل للشخصية نفسها.
وعلى الرغم من كونها خيالية، إلا أن التركيز على زوجات الآباء كان يعكس بعض الحقائق حول مجتمع القرن التاسع عشر. يقول لورانس غانونج، الأستاذ الفخري للتنمية البشرية في جامعة «ميسوري» بالولايات المتحدة والذي درس العائلات الربيبة على مدى عقود، إنه: «عندما تم تأليف هذه القصص الخيالية كان متوسط الأعمار منخفضًا للغاية، فغالبًا ما كانت النساء تموت أثناء الولادة ويُترك الأطفال في رعاية الآباء فقط، من هنا قدمت زوجات الآباء الشريرات اللائي ظهرن في صفحات القصص الخيالية نصائح تحذيرية للأسرة، منها: يجب على الآباء حماية أطفالهم ودعمهم، كما يجب على زوجات الأب أن يقمن بما هو صحيح تجاه أولاد الزوج أنه وإلا ستكون العواقب وخيمة». كما أنه في القرن التاسع عشر كان من المحتمل أن يتزوج الآباء من نساء أصغر سنًا واللائي قد يكن قريبات من أعمار بناتهم، لذلك، في ظل هذه الظروف قد تظهر جميع أنواع المشاعر «الغريبة والشديدة» - مثل التنافس على انتباه الأب و«مسابقات الجمال» بين الأجيال كما نراها في قصة «بياض الثلج»، مثلًا، بالإضافة إلى «قدر كبير من النزاعات والصراعات والغضب»، كما تقول ماريا تتار، أستاذة الأدب والفولكلور والأساطير في جامعة هارفارد الأمريكية في كتابها: «الحقائق الصعبة لحكايات غريم الخيالية». 
وهناك نقطة إضافية أخرى متعلقة بظهور زوجة الأب بهذه الصورة في تلك القصص، والتي قلما تتم الإشارة إليها، وهي أنه في الإصدارات الأولى لـ «حكايات غريم الخيالية» كانت الشخصية الشريرة هي الأم وليست زوجة الأب، لكن تم فيما بعد استبدال الأم الشريرة بزوجة الأب من أجل الحفاظ على صورة الأم المثالية. في التفسيرات الفرويدية، يكون انقسام الأم/زوجة الأب علاجيًا ويسمح بتوجيه الغضب والإحباط المرتبطين بالأم إلى مكان آخر دون الشعور بالذنب المرتبط بالتفكير السلبي بالأم بكل مكانتها العاطفية السامية. من جهة أخرى، بالنسبة للأطفال على وجه الخصوص، قد تكون فكرة الأم القاسية أو القاتلة مرعبة ومزعجة للغاية بحيث لا يمكن تحملها.

ظاهرة «تأثير سندريلا»
مع تقدم الزمن تحول مفهوم زوجة الأب الشريرة من القصص إلى الحياة الواقعية، وقد ساعد العديد من علماء النفس، حتى في عصرنا الحديث، على إدامة الأساطير وطمس الحقيقة بالخيال بحيث يعتقد البعض منهم أن النساء بشكل خاص، والبشر عمومًا، تمت برمجتهم بيولوجيًا لحماية أطفالهن هن قبل أولاد الزوج مما يعرض أولاد الزوج لسوء المعاملة، ومن هنا يمكن الحديث عما بات يُعرف بظاهرة «تأثير سندريلا»، إشارة إلى زوجة الأب الشريرة في الحكاية الخيالية الكلاسيكية «سندريلا» التي أول ما صاغها أستاذ علم النفس الكندي مارتن دالي، وهو الذي كان أول من قام، خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي بدراسة المخاطر التي قد تتأتى جراء دخول زوجات الأب إلى حياة الأطفال. لكن على الرغم من الحقيقة الثابتة بأن زوجات الأب يشعرن بأنهن أقرب إلى أطفالهن البيولوجيين أكثر من أطفال الزوج، حتى عندما يتشارك كلاهما أبًا بيولوجيًا واحدًا، لكن ذلك لا يعني أن زوجة الأب ستكون قاسية وستسيء معاملة أطفال زوجها، فالكثير من الدراسات والأبحاث تشير إلى أنه ليس هناك من أدلة تثبت أن زوجات الآباء يتصرفن مثل الشخصيات التصويرية القاسية للثقافة الشعبية  بل هناك الكثير من الأدلة التي تثبت أنهن لا يقومون بذلك على الإطلاق، فليس هناك جحافل من زوجات الآباء العازمات على تدمير حياة أولاد أزواجهن من خلال مؤامرات شريرة. في الواقع، بدلًا من أن تكون قاسية وبعيدة ولئيمة، تُظهر الأبحاث التي أجرتها جامعة «أثاباسكا» في «كالجاري» بكندا، أن زوجة الأب غالبًا ما تكون بمنزلة الغراء الذي يربط الأسرة معًا لا سيما بعد الطلاق بحيث إن وجودها يوفر الدعم الأساسي للأطفال ويحسن وظائف الأسرة ويسهل التحولات الصعبة المحتملة التي تمر بها الأسرة الربيبة.  
يؤكد ذلك تود جنسن، المتخصص في العلاقات الأسرية بجامعة نورث كارولينا بالولايات المتحدة، والذي لديه دراسات عديدة متعلقة بطبيعة العلاقات بين الآباء وأبنائهم، فيقول بأن «زوجات الآباء الشريرة لا تظهر في البيانات»، بل إنه في دراسة استقصائية أجراها عام 2021 على 295 طفلًا من أطفال يعيشون مع زوجة أب بدلًا من والدتهم الفعلية، فوجد أن معظمهم كان لديهم علاقات إيجابية مع زوجات آبائهم.  وقد سُئل المشاركون عن مدى قربهم من زوجة أبيهم ومدى اعتقادهم أنها تهتم بهم، وما إذا كانت حنونة ومحبّة، ومدى رضاهم عن التواصل والعلاقة معها بشكل عام، فكانت النتيجة أن متوسط درجة جودة العلاقة بين زوجة الأب وأطفال زوجها تتراوح من 3.91 إلى 5. 
يجب أن نذكر هنا أن هذه القوالب النمطية لزوجة الأب استمرت في الازدهار للأسباب نفسها التي ساعدتها على الازدهار منذ قرون وهي المُثُل السائدة ثقافيًا المحيطة بأهمية العائلة النووية والعلاقة البيولوجية السامية بين الوالدين وأطفالهم. من جهة أخرى، يمكن القول إنه على الرغم من المبالغة الشديدة في تضخيم الصورة النمطية السيئة لزوجة الأب، إلا أنها ربما تحاكي بعض التوترات الشائعة التي قد تظهر في العائلات الربيبة، وقد يكون أولها ما يُعرف بـ«مأزق الولاء» عندما يشعر الطفل بأنه بقربه من زوجة أبيه ربما يكون يخون بمشاعره والدته البيولوجية فيقع في مأزق لا يريد معه أن يُشعر والدته البيولوجية بأنه قام باستبدالها بشخص آخر. من ناحية أخرى، فإن ما أبرزته العديد من الحكايات الخرافية المبكرة كان نوعًا من صراع على الموارد والاهتمام بين زوجة الأب وأولاد زوجها، ما يخلق تحديات حقيقية يمكن أن تؤدي إلى الشعور بالغيرة والحسد والبغض المبطن.  وهناك أيضًا الوضع الدقيق لزوجة الأب نفسها وجميع الخطوط الحمر التي تُرسم لها بالإضافة إلى الضغوط الاجتماعية التي قد تحيط بها، ما يقودها إلى الشعور بالضياع في علاقتها مع أولاد زوجها:  فهل تأخذ المقعد الخلفي أم تتدخل في تربيتهم تماما مثلما ستفعل والدتهم، أم تكون مجرد صديقة لهم؟ 
أخيرًا، يمكن القول إن التعامل مع القصص الخيالية كمستودعات للحقائق النفسية العالمية يحجب علاقتها بالظروف الاجتماعية المتغيرة، فينبغي عدم اعتبار زوجات الأب نماذج أصلية دائمة الحضور بل مجرد شخصيات نشأت على خلفية تاريخية قصصية بحتة، فقد تغيرت الهياكل الأسرية وتغيرت معها المفاهيم بشكل كبير، فلا مكان معها للتحيزات والأحقاد التي عززتها تلك القصص الخيالية التي يجب أن تتلاشى مع انقضاء الظروف التاريخية التي نشأت من خلالها ■