النقد الثقافي... جدل السياقات!

النقد الثقافي... جدل السياقات!

قد يكون علينا الاحتفاء بالترجمة العربية لكتاب فنسنت ب. ليتش «النقد الثقافي... النظرية الأدبية وما بعد البنيوية»، والذي ترجمه وقدم له هشام زغلول - المجلس القومي للترجمة القاهرة أغسطس2022م، نظرًا لأهميته في بابه، واعتماد المشتغلين بالنقد الثقافي في نسخته العربية عليه. وقد لا نختلف كثيرًا إذا قلنا بأن النقد الثقافي مجرد صيغة في مقاربة النصوص، ولكل صيغة خسائرها، كما أن لها مكاسبها، فلا توجد الصيغة المُثلى؛ وكل إستراتيجية قرائية موضع أخذ وردّ... وأحسب أن الحديث عن صلاحية صيغة ما للهجرة من سياقات المنشأ إلى غيرها من السياقات المختلفة هو حديث من الماضي، فما أكثر الصيغ الغربية التي نقلت إلى ثقافتنا فأثارت من الأسئلة بأكثر مما قدمت من الأجوبة، وما أكثر ما أربكت المشهد النقدي والثقافي بشكل عام! وهذا لا يعني أننا في غنى عن المعرفة الجديدة، بل يعني أن كل معرفة تحتاج نقاشًا موسّعا حولها، نناقشها في ذاتها أولًا ونناقشها في علاقتها بما يدور في واقعنا من أسئلة، وما نرجوه من غايات ثانيًا. 

 

الناقد الأمريكي فنسنت ب. ليتش لا يحتاج إلى تقديم، بعد أن ذاعت آراؤه حول «النقد الثقافي» على ألسنة النقاد العرب قبل أكثر من عقدين من الزمان... لكن ما نحن في حاجة إليه هو ضبط المفهوم بعد أن بات «النقد الثقافي» ممارسة فيها قدر من التوسع إلى الحد الذي قد يبدو كأنه مقاربة بلا حدود؛ فما أكثر المقاربات التي اتخذته شعارًا حتى بدا الأمر كأننا إزاء بحر لا شاطئ له!  
قد يكون النقد الثقافي ذاته مسؤولًا عن هذا الوضع بالنظر إلى طبيعته البينيّة التي تجعل مقولاته تتحرك بين أنساق معرفية مختلفة، كنظرية ما بعد الاستعمار، ودراسات الجنوسة، والتحليل النفسي، والعلامات (السيميوطيقا) والنظرية الاجتماعية الماركسية فضلًا عن نظرية الأدب ذاتها...إلخ.
   وأظنّ أن ما يحتاج إلى مزيد من التوضيح هو مفهوم البينيّة نفسه، خاصة بعد أن وُضِع - بكثير من ممارساتنا - في تضاد مع التخصص، وهو ما يفتح بابًا واسعًا للتخبط؛ فتداخل التخصصات حول موضوع واحد شيء، وافتراض وجود معرفة شبحية تنساب بين التخصصات شيء آخر.
عبر ثمانية فصول متصلة يناقش ليتش نظرية النقد الثقافي، والهدف المعلن فيما يقول منذ المقدمة هو «الدفاع عن النقد الثقافي - بوجه عام - في ضوء الفكر ما بعد البنيوي» (ص15)، وهذا الدفاع منح الكتاب بُعْدًا سجاليًا واضحًا، حيث يتناول ليتش بالنقاش ما لا يُحصى من الأفكار البنيوية لعشرات الأسماء التي انشغلت بالنظرية النقدية الغربية، من النقد الجديد إلى البنيوية وما بعدها، وهو بهذا لا يؤكد خصوصية السياق فحسب، لكنه يعلمنا أيضًا أنّ كل معرفة علمية تتغذى على التراقم والنقاش الواسع مع ما سبقها؛ إذ لا يمكننا التأسيس للجديد دون فهم القديم أو قتله بحثًا، على حد عبارة أمين الخولي. 
وهذا يعني أنّ مشروع ليتش جزءٌ من كلٍّ، وأن الوعي بالنقد الثقافي يتأسس على وعي سابق بالنظريات الغربية وسياقها الحضاري العام الذي انتهى مع مقولات «ما بعد الحداثة» إلى التشكيك في السرديات الكبرى، وتأكيد فكرة اللامركزية والتعددية والحقوق العامة والروح الديمقراطية التي أخذت بعدًا مُعولمًا... في هذا المساحة الحرة تبدو ثنائية المتن والهامش لا محلّ لها، وربما بالغ النقد الثقافي في ذلك، فبدا منحازًا إلى الهامش على حساب المتن، وللشعبي الرائج على حساب الرسميّ أو النخبويّ.
كان بدهيّا، وتأسيسًا على هذه التعددية الواسعة، أن يطول البحث والتفكير في نظرية الأدب، على نحو يقوّض مقولة نقاء النوع، فهناك اختراق تناصيّ للأنواع الأدبية.   
فالحديث عن النقد الثقافي حديث عن النقد ما بعد البنيوي، ورغم ذلك لا يمكنك استيعابه بعيدًا عن شبكة المناهج الشكلانية والبنيوية التي يعارضها، كما لا يمكنك فهم انفتاحه وما يعد به دون إلمام بهذا السِّجال المعرفي والمنهجيّ الذي شغل المدونة النقدية الغربية وأصابتنا -  نحن العرب - بعض شظاياه؛ فالنقد الثقافي لا يتوقف عند حدود النصية أو الجمالية الضيقة. وإذا كانت الشكلانية قد أولت عنايتها للغة الجمالية أو الشعرية كما لو كانت «مستوى لغويًا منفردًا عن سائر مستويات اللغة وأسمى منها» (ص73)، فإن ليتش هنا يعيد مَوْقَعة اللغة الشعرية؛ إذ يعتبر الخطاب الأدبي مجرد خطاب وظيفيّ، والأدبية فيه ليست معطى متعاليًا، وإنما مجرد تقاليد اجتماعية... وهذا يعني أن الأدب ليس خطابًا مستقلًا، لا في لغته ولا في تقاليده، إنه متعدد اللغات ومحاصَر بسياق مركب من المؤسسات والمصالح، ولا يمكننا مقاربته دون وعي بكل هذا. 

مساءلة النص
وعلى هذا، فمهمّة النقد الثقافي لا تتوقف عند حدود التحليل، أو الكشف عما يسميه ليتش نظم العقل، وإنما يجب أن تتجاوز ذلك إلى مساءلة النص نفسه. (ص73)، فـ«النقد الثقافي» أداة وعي وتحرّر من هيمنة الأنساق، ومن هنا كان هجوم ليتش على الجماليين الذين يعنون بالأدب في ذاته، فهم - من هذا الزاوية - لا يقدمون نقدًا، بل يقدمون «دوجماطيقية جمالية مراوغة... تكرس لأخلاقيات اللامبالاة والتحلل المستهتر من القضايا الدنيوية، في الوقت الذي تلتزم فيه بالروحانية العلمانية للفن». (ص20). 
وقد يكون ليتش محقًّا في موقفه من الجماليين أو الشكلانيين؛ فلا يمكننا إغفال ما في مقولة «الأدبية» من تطرف، فعزل النص عن سياقاته التاريخية والاجتماعية يجعله يسبح في الفراغ والحيل والألاعيب، لكننا في الوقت نفسه لا يمكننا تجاهل امتياز لغة الشعر... والسؤال هو: إلى أي مدى يقودنا هذا التصور الذي يقدمه ليتش؛ إذ لا يمكننا الانتقال من النقيض إلى النقيض: من النص المغلق الذي يقصي المرجعيّة الخارجية إلى النقد الذي يُلحق الشعر بالأنساق الاجتماعية ونظم العقل المستترة؟!
فالقارئ للشعر العربي مثلًا لا يمكنه أن يتجاهل حضور السياق الاجتماعي والغايات التداولية من ورائه، كما لا يمكنه تجاهل كثافته الجمالية التي تأتي من تفرد لغته وامتيازها. وهذا يعني أنه من الصعب أن نسير مع النقد الثقافي حتى النهاية ونتعامل مع النص الأدبي كما نتعامل مع غيره من النصوص التي تهيمن عليها الوظيفة الإخبارية أو الإشهارية.. من الصعب مجاراة مقولة «موت النقد الأدبي» وولادة «النقد الثقافي»..!
تبدو فكرة الأنواع غير النقية التي ألحّ عليها ليتش واحدة من الأفكار المُهمّة بالفعل؛ إنها تنطوي على رحابة تفتح أعيننا على كثير من الكتابات المستبعدة من دائرة الأدب، لنقل إن مقولة النوع النقيّ، التي رسختها في عقولنا نظرية الأدب، كانت قاسية وأزاحت نصوصًا كثيرة. لذلك، ووفقًا لـ«لينتريشيا» يجب إعادة تعريف الأدب، «فصفة الأدبي لا تطلق فقط على نخبة من الكتب العظيمة المعتمدة، وإنما تشمل كذلك ما يسمى بالأدب الهامشي والأدب الشعبي، كما أنها تشمل أيضًا نطاقًا أرحب مما يسمح به هذا التعريف الموسّع؛ فهي تشمل كل الكتابات التي تعتبر ممارسة اجتماعية... ويحاصرنا الأدبي من كل مكان، ودائمًا ما يمارس تأثيره علينا». (ص80) 
وإعادة التعريف جزء من ردّ الفعل على التيار الشكلاني، لكنها أيضًا لا تخلو من معنى المقاومة، مقاومة نخبوية الأدب لصالح مزيد من الانفتاح على عناصر سياسية وجمالية. إنه ينظر إلى النص الأدبي باعتباره فئةً من النصوص لا تمتاز في ذاتها بميزة خاصة؛ فالأدب خطاب يتصل بغيره من الخطابات وينفصل عنها في الوقت نفسه... واتصاله بغيره ضرب من التناص الموسّع الذي يتشكل منه موزاييك الثقافة. 
من الضروري لمن يقارب هذا الكتاب أن يضع يده على أربعة مفاهيم أساسية لا يمكن الإحاطة بنظرية النقد الثقافي دون الوعي بها، وهذه المفاهيم تعمل معًا، متداخلة متشابكة على مدار فصول الكتاب، ولا يدرك أحدها بمعزل عن غيره، وهي: 
الأول: «نظم العقل»، وهو مفهوم مركزيّ، ويقصد به ليتش منظومة القيم والمبادئ التي تتحكم في سلوك الأفراد والكيانات الاجتماعية، فهي «تتخلل كل الأنشطة والاختيارات والخطط والتقاليد وتُوجّهها، وتُشكِّل تلك القيم جميعها داخل المجتمعات ترابطات جوهرية - بطرق شتى - في القانون والسياسة والفلسفة والتاريخ والأخلاق والدين والمعارف والتعليم والاقتصاد وأنماط التسلية والبنى الأسرية والنواحي الجمالية...». (ص25).

مهمة جوهرية
وعلى هذا، فنظم العقل هي هوية كل ثقافة؛ إذ تضبط عمل الجميع من الأفراد إلى المؤسسات، ولا يشترط الوعي بهذه النظم؛ فكثيرًا ما تنساب في لاوعينا وتتحكم في سلوكنا وتوجهاتنا. وإذا كانت المهة الجوهرية للنقد الثقافي، هي «ربط مجالات الدراسة بنظم العقل/اللاعقل» (ص33)، فإن هذا يوجب عليه الانتفاح الكامل على كل الخطابات والنصوص، الرسمية والمهمشة، والجمالية وغير الجمالية.
فإذا افترضنا أننا بصدد قراءة رواية تنتمي إلى عالم الجاسوسية، فهذا يقتضي منا وضع هذا العمل ضمن تقاليد الأنواع الأدبية، ثم ربطه بقيم المنظمة الاستخباراتية التي يمثلها أو ينتمي إليها البطل، لتحليل خصوصية تلك المنظمة في ضوء ما تحتكم إليه من نظم عقلية خاصة وعامة... إننا باختصار سنربط هذه الرواية بكل ما يتصل بها من: «التاريخ الأدبي والمؤسسات العسكرية والاستخباراتية والتكنولوجيا المتقدمة والحكومات وموضة الأزياء والديكورات الداخلية والموسيقى الشعبية ونحو ذلك... فالنص النموذج جزء من نص اجتماعي أكبر، يشارك في عديد من الخطابات المختلفة، مع ارتباطه في هذه الحالة بالعلوم والتكنولوجيا والسياسة وعلم الجمال والعادات...». (ص33)
الثاني: المساءلة الثقافية وهذا المفهوم يتصل بسابقه؛ فالكشف عن نظم العقل لا يراد في ذاته، لكننا نفعل ذلك من أجل مساءلة هذه النظم «بما يستلزم فحص وتقييم ما هو مُهيمن وما هو معارض من المعتقدات والفئات والممارسات والتمثيلات، والبحث عن الأسباب والمكونات والنتائج». (ص34).
فالنقد الثقافي إذ يقاوم الانغلاق البنيوي، فإنه يكشف درجات الإقصاء والإدماج والتآمر والمقاومة، والتسلط والتساهل، والفصل والتموقع، والعنف والتسامح والصوت المنفرد وتعدد الأصوات... والقمعية والتحررية، والمركزية واللامركزية». وهذه الالتزامات هي مناط اشتغال المساءلة الثقافية ما بعد البنيوية.
الثالث: الخطاب الأدبي جزء من «النص الاجتماعي»، ولا يمكن تلقيه بمعزل عنه، ويتجلى هذا الحضور للنص الاجتماعي على مستوى الثيمات بقدر ما يتجلى على مستوى اللغة؛ إذ تعتبر اللغة من منظور النقد الثقافي منطوق الذوات المتكلمة، لذا فهي شخصية وذاتية، وليست مجرد أصوات ودلالات مجازية وقواعد نحوية فحسب، كما أنها تعددية ومشحونة باللهجات وأنواع الكلام المختلفة، التي تشير إلى الفئات العمرية والجماعات المهنية والطبقية.
وهذا التنوع أو ذلك التعدد يعني أن اللغة داخل النص ظاهرة اجتماعية - أيديولوجية... وليست أدبيتها أو جمالياتها إلا أحد المظاهر، فالأدبية هنا مجرد طبقة أحد هذه المستويات المتعددة. ويقودنا هذا كله إلى جوهر الفكرة الأساسية للنقد الثقافي، وهو أن فردية النص مؤطرة وفق خطاب المجتمع، والأدب مجرد فئة من الخطاب الاجتماعي المتعدد المتنوع... فالنص جزء من النص الاجتماعي الذي يعتبر ساحة صراع. (ص94).
الرابع: التناص، وهو هنا أكبر من مجرد علاقة بين نصين أحدهما سابق والآخر لاحق، فالتناص مفهوم تعددي، يعمل على تقويض سلطة المركز، فهو لا يقف عند حدود اللغة، بل  يتجاوزها إلى النوع الأدبي نفسه، فكما سبقت الإشارة لا يوجد النوع الصافي، وهذا يعني أن التناص جزء من تقاليد النوع، وإذا كانت الأنواع الأدبية «تدمج التقاليد اللغوية والاجتماعية مع الأدبية منها؛ فهي مرتبطة بنظم العقل، بما في ذلك العوامل المؤسسية والأيديولوجية لمثل هذه التكوينات الثقافية» (ص104)، وهذا يعني أن التناص نفسه جزء من نظم العقل.
قد يكون من الطريف هنا أن نناقش التداخلات والتقاطعات بين النقد الثقافي والنقد الجمالي. وكما سبقت الإشارة، فإن ليتش يأخذ على الجماليين انشغالهم باللغة وطاقاتها الرمزية، وتجاهلهم مقصدية المؤلف، والحقيقة أن النقد الثقافي يتجاهل أيضًا هذه المقصدية، إنه يستبدل برمزية اللغة الأنساق الاجتماعية والأبعاد الأيديولوجية، بما يعني أنه بدرجة ما يتجاهل مقصدية المؤلف، وهذا الاستبدال ليس هينًا، إنه يضعنا إزاء إشكالات متعددة لا تتعلق بالمؤلف وحده، وإنما تتعلق بالتساؤل حول فرادة النص الأدبي نفسه، بعد أن صار أحد تجليات «الأرشيف الثقافي» المنجزة.
ورغم هذه الإشكالات، فإن النقد الثقافي يعد إضافة مهمة في إطار التعددية، وفي إطار انفتاحنا على مختلف النصوص التي يمكن تلقيها بوصفها نصوصًا أدبية، وهذا الإثراء النوعي غير مسبوق، كما أنه يعيد مَوضَعة نظرية الأدب بعيدًا عن مفهومها التقليدي... ولهذا وغيره، كانت ترجمة كتاب فنسنت ب. ليتش «النقد الثقافي... النظرية الأدبية وما بعد البنيوية» عملًا مهمًا يستحق الاحتفاء والنقاش ■