رَمَضان الطيّب!

يوم صيامي الأوَّل كنت أبلغ من العمر خمس سنوات لا غير، لكنني شعرت بأنني قد صرت رجلاً!
تطلَّعت حولي لأجد الجميع قد نوى الصيام، فحسمت أمري، وأخذت قراري دون تدخّل من أحد، ولا وصاية من كبير... وفوجئ الجمع ليلة السحور الأوَّل بتواجدي بينهم، ساهرًا، متيقّظًا، ناويًا الصيام بحماسة وإصرار شديدين!
تناولت سحوري بشهيَّة منفتحة، وشربت كمّية وافرة من الماء، وردَّدت وراء أبي بثبات إعلان نيَّته للصيام، غير أنّ قشعريرة غريبة سَرتْ بجسدي أثناء سماعي للمنادي وهو يقول: ارفعوا الماء... ارفعوا الماء! ثم صلَّيت الفجر في جماعة - ربَّما للمرَّة الأولى في حياتي - ونمت وأنا على يقين بأنّ يومًا مختلفًا في انتظاري.
كانت العادة في تلك الفترة أنْ أستيقظ من نومي ظهرًا، فلا مدرسة أرتادها بعد، ولا واجبات منزلية مكلَّف بفعلها مثل أختي، لكن مسلسل الحظ بدأ معي بأن تَركتْني أمّي نائمًا على راحتي، فلم توقظني سوى قبيل العصر، توضَّأت ولحقت بصلاة الظهر قبل فوات وقتها، ثم عرجت على المطبخ، فوجدت أمّي تعدّ أصابع الكفتة الشهيَّة لوجبة الإفطار، فمارست عادتي بأنْ التقطت إصبعًا والتهمته سريعًا، ناسيًا أمر صيامي المستجد عليّ!
ابتسمتْ أمّي، وقالت لي بعتاب يغلّفه الشفقة: ألست صائمًا؟ أجبتها ببراءة حقيقيَّة بأنني قد نسيت تمامًا. فربتتْ على كتفي وقالت: حسنًا... لقد أطعمك الله. لم أفهم جيّدًا كيف أطعمني الله؟ لكني استشعرت أن لا مشكلة في الأمر.
في غرفتي لمحت زجاجة مياه موضوعة بجوار سريري، وكان إصبع الكفتة الساخن قد حرَّك عطشي المنسي، فتناولتها بعفويَّة، وشربت منها ثلاث شربات كما علَّمني أبي، ليدخل أخي الأكبر عليّ في الشربة الثالثة، فيسألني كما سألتني أمي، وأخبره بنسياني، فيقول بنوع من الحسَد المستتر: لقد سقاك الله.
شعرت بنوع من التميّز، استثناء فردي يخصّني به الله عن باقي أسرتي... ما أجمل رمضان، وما أسهل الصيام... هكذا أخذت أردّد وأنا ألعب مع أختي في الصالة، حتى وجدت أمامي فوق ترابيزة السفرة طبق الفاكهة، وقد ملأته أمّي بالثمار الطازجة، فسال لعابي على الفور، ودون تفكير قمت بسحب إحداها، وقضمتها بتلذّذ كبير.
تكرَّر الموقف ذاته مع أختي، لتزداد حيرتي، وأجلس بعدها أفكّر...
ما أرحمك يا الله! لقد جعلتني آكل، وأشرب، وأحلّي أيضًا... أعدك بأن أصوم كل عام، وأنْ لا أفطر أبدًا طوال العمر.
على مائدة الطعام جلسنا في انتظار آذان المغرب، طبق الكفتة يتوسَّط المائدة، وأكواب الماء موزَّعة أمامنا، وتشكيلة الفواكه على مقربة منَّا... وبينما تقوم أمّي بوضع اللمسات النهائية على أطباقها العظيمة الأخرى باغتني أبي بسؤالي عن أخبار يوم صيامي الأوَّل، لم أعرف بما أجبه، فنظرت تلقائيًا إلى أمّي وأخوتي، لأجد الضحك ينتابهم! فعدت بنظري لأبي لأجد عَدوى الضحك قد أصابته، ففطنت إلى أنَّه قد فهم ما كان من حالي، ثم قال لي بتعاطف: لقد أطعمك الله وسقاك، هنيئًا لك.
وهكذا انتهى اليوم الأوَّل التاريخي بالنسبة لي، وتبعه باقي أيَّام الشهر الكريم، ومرَّت السنون، وتوالت عليّ الـ (رمضانات)، وها أنا محافظ على عهدي مع الله، شاكرًا نعمته، ذاكرًا دومًا منحته الأولى المشجّعة.