نحو تجسير الهوّة بين المبدعين

نحو تجسير الهوّة  بين المبدعين

منذ سنوات ليست بالبعيدة، وقبل اختراع شبكة الإنترنت والبريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، كانت هناك شكوى لدى الأدباء والمثقفين العرب، بشأن عدم التواصل مع بعضهم البعض، وخاصة في ظل القيود المفروضة على تبادل الكتب وانتقالها من بلد إلى آخر، وعدم تداولها بالقدر الكافي، وعدم معرفة الأدباء والكُتَّاب في بلد بإنتاج أدباء وكُتَّاب البلد العربي الآخر. غير أن وجود شبكة الإنترنت الآن في حياتنا، وقدرة البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي وأجهزة الهواتف الذكية على التواصل اللحظي، استطاعا القضاء على الكثير من شكاوى الأدباء والمثقفين بخصوص عدم التواصل، وعدم معرفة إنتاج أدباء آخرين في بلاد أخرى، الأمر الذي كان سائدًا أو معتقدًا فيما قبل وجود هذه الشبكة وتجلياتها المختلفة.

ربما نستثني من ذلك مصر بحكم ريادتها الإعلامية وانتشار ثقافتها وقدرتها على توصيل المنتج الأدبي والثقافي إلى عدد كبير من البلدان العربية، لدرجة أن بعض الكتاب والمثقفين في دول عربية أخرى كانوا ينتظرون وصول مجلات، مثل الرسالة والثقافة والهلال، وغيرها، من الشهر إلى الشهر عن طريق البريد أو عن طريق المكتبات التجارية التي لديها القدرة على استيراد الكتب والمجلات والجرائد. 
عرف الكتَّاب والمثقفون العرب معظم أسماء الكتاب المصريين وأسماء مؤلفاتهم، واختار الشعراء العرب في عام 1927 أحمد شوقي أميرًا للشعراء، وتابعوا هجوم العقاد والمازني عليه من خلال مدرسة الديوان. كما نشر عدد كبير من هؤلاء الشعراء العرب قصائدهم في مصر من خلال مجلاتها، مثل مجلة أبولو والهلال والرسالة وغيرها، فكان ميلاد شهرتهم من خلال تلك المجلات، وأبرز مثال على ذلك الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي، والشاعر السوداني بشير يوسف التيجاني.
ولا ننسى أيضًا الدور الذي لعبته لبنان ومطابعها ودور نشرها مثل «دار العودة»، ومجلاتها مثل مجلة «الآداب» في نشر أعمال عدد كبير من المبدعين العرب، والتعريف بهم. ثم الدور الذي لعبته مجلة «العربي» - ولا تزال - منذ خروجها إلى الحياة الثقافية العربية في ديسمبر عام 1958 في التقريب بين الأدباء والمثقفين والكتَّاب العرب، عن طريق نشر أعمالهم وكتاباتهم وأفكارهم على صفحاتها دون الانحياز لبلد عربي ما على حساب بلد آخر، وإنما الانحياز للجودة والإضافة والإسهام الفاعل والمعرفة الحقيقية.
على الوجه الآخر، نتذكر إجابة توفيق الحكيم عندما سُئل عن الأدب التونسي ومَنْ يعرف مِنْ روَّاده، فأجاب أنه لا يعلم شيئًا عن الأدب التونسي والأدباء التونسيين، لأن كتبهم لم تصل إلى مصر.
وفي مجال الشعر والغناء نجد أم كلثوم تختار قصائد لشعراء عرب معاصرين تتغنى بها، من أمثال: أحمد العدواني من الكويت، وعبدالله الفيصل من السعودية، وجورج جرداق من لبنان، ونزار قباني من سورية، والهادي آدم من السودان، إلى جانب قصائد الشعراء المصريين: أحمد شوقي وأحمد رامي وصالح جودت ومحمود حسن إسماعيل وأحمد فتحي وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي وطاهر أبوفاشا وعزيز أباظة وإسماعيل صبري وغيرهم.
غير أن القطيعة بين الأجيال حدثت في مصر بعد ذلك، فكانت صرخة الكاتب محمد حافظ رجب في الستينيات «نحن جيل بلا أساتذة»، لأنه لاقى إهمالًا كبيرًا من الأدباء والنقاد الكبار عندما نزح من الإسكندرية إلى القاهرة، ثم عاد إلى مدينته محمَّلًا بكم كبير من اليأس والقنوط حتى رحيله عام 2021. وإذا كانت هذه القطيعة تحدث بين أدباء بلد واحد، فما بالنا بما تفعله تلك القطيعة بين بلدان عربية مختلفة.
عندما صدرت الطبعة الأولى من «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين» في عام (1995) في ستة مجلدات وفي (4400) صفحة من القطع الكبير، وضمت (1640) شاعرًا، قلت وقتها إنه ليس هناك حجة لنقاد الشعر في الوطن العربي، من أنهم لا يستطيعون متابعة - أو الادّعاء بعدم معرفة - ما يكتبه الشعراء العرب في هذا الزمن، فالنماذج التي يحتويها المعجم - والتي اقتصرت على الشكلين العمودي والتفعيلي - كفيلة بأن تصنع مرآة عاكسة للاتجاهات والأغراض والمدارس الشعرية - إن كانت هناك مدارس شعرية - في الوطن العربي.
ومع ذلك لا تزال بعض الأصوات النقدية تجأر بأنهم لا يستطيعون المتابعة، ولكن الشكوى في هذه المرة، بسبب كثرة النتاج الشعري والأدبي بعامة، وكثرة ما يصلهم من إنتاج أدبي سواء من خلال البريد الإلكتروني أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو من خلال الطبعات الورقية التي أصبحت موجودة في معارض الكتب التي انتشرت في معظم العواصم والمدن العربية، وخاصة في مجال الرواية التي أصبحت كما يقول المثل الدارج «أكثر من الهمّ على القلب».
ولكن لا نعدم وجود نقّاد متابعين ومتيقظين ومتحمسين من أمثال الناقد المغربي مصطفى شميعة الحاصل على الدكتوراه في التلقي والتأويل، والناقدة الجزائرية نزهة خلفاوي الحاصلة على الدكتوراه في علم اللغة الحديث، اللذين أصدرا كتابًا مشتركًًا يحمل عنوان «في تأويل المنجز الشعري - رؤية مغايرة لنصوص حديثة»، صدر عن دار المفكر العربي بالقاهرة - 2021. 
هذا الكتاب يؤكد على وجود التواصل الأدبي والثقافي بين الأدباء والنقاد العرب، وأنهم يقرأون لبعضهم البعض، وأن الكتاب يصل إلى طالبه سواء عن طريق المعارض أو البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي أو عن طريق الإهداء المباشر من خلال الملتقيات والندوات والمؤتمرات التي عادت إلى عافيتها بعد انحسار وباء كورونا اللعين.
في هذا الكتاب نجد قراءة في المنجز الشعري «سيلفي مع الروح» للشاعرة المصرية عبير العطار، ونجد قراءة في ديوان «قطوف الوجع» للشاعر المغربي أحمد مفدي، ومحاولة لقراءة ديوان «مقامات العشق» للشاعر نفسه، كما نجد اقترابًا من مناطق الإخصاب في ديوان «زوايا من بقايا شمعتك» للشاعر المصري أحمد فضل شبلول، وقراءة تأويلية لديوان «اختبئي في صدري» للشاعر نفسه، ونقرأ عن السؤال الشعري في ديوان «المنازلة» للشاعر المصري عمارة إبراهيم، وقراءة في وهج الدلالة العشقية للشاعرة المغربية سعاد عبيد الله، واقتراب من ظلال المدينة والشعر في ديوان «كقزم يتقدم ببطء داخل الأسطورة» للشاعرة الجزائرية ميس سعيدي، وتأويل رؤية العشق في ديوان «ما زلت أمشي على سطح الماء» للشاعرة العُمانية سعيدة خاطر، وقراءة في ديوان «والأرض تحترق بالنجوم» للشاعر الجزائري بشير مفتى، وقراءة في ديوان «أميرة البوح» للشاعرة المصرية هبة الفقي، ونجد ملامسات نورانية خارج إحداثيات الزمان والمكان في ديوان «تطوقني المسافة» للشاعرة المصرية عبير زكي، وقراءة في ولادة المعنى في ديوان «كأنك دكّة بيتي» للشاعر المصري عزت الطيري، وقراءة في ديوان «أعلى بناية الخليل بن أحمد» للشاعر المصري حسن شهاب الدين.
وإذا كانت الغلبة للشعراء المصريين الذين تم تناول أعمالهم في هذا الكتاب، فإننا نأمل أن تتنوع الكتابات عن أعمال عدد أكبر من الشعراء العرب في كل الأقطار العربية، سواء من لدن الناقدين شميعة وخلفاوي، أو غيرهما. ولكن لا ندري هل كان مقصودًا ألا يتم وضع اسم الناقدين على الدراسات المنشورة داخل هذا الكتاب، بحيث لا نعرف هذه الدراسة بقلم شميعة أم خلفاوي؟ لكن القارئ المدقِّق ريما يكتشف أن خلفاوي كتبت بأسلوب، وشميعة كتب بأسلوب آخر. 
وإذا أردنا الرجوع إلى الفهرس لنعرف ذلك فإننا لن نعرف، لأنه ببساطة لا يوجد فهرس للكتاب، وإنما توجد مقدمة قصيرة غير ممهورة بتوقيع، جاء فيها: نضع بين يدي القارئ العربي هذا الكتاب الذي يحمل بين دفتيه قراءات تأويلية لنصوص شعرية عربية متنوعة تنوع منشأ شعرائها. وإن كانت هذه النصوص/الدواوين الشعرية تعكس تنوع رؤى شعرائها، فإنها تشترك في قدرتها على تشويش أفق القارئ وتحريضه على طرح الأسئلة، كممارسة تروم تفكيك المعنى المختبئ خلف سطوح اللغة وتحليله، وفهمه، أو كمحاولة لإعادة إنتاج ذلك المعنى، أو كمشاركة للشاعر في حيرته وهواجسه وأسئلته التي تفرضها المتغيرات والتحديات الحضارية التي يعيشها ونعيشها معه.
ويختار الناقدان سمة المغايرة لمقاربتهما التأويلية، ذلك أن طبيعة قراءتهما الشعرية تنأى بنفسها عن صرامة المناهج النقدية وضوابطها، وهما يؤمنان بأن التأويل حياة ومنهج في فهم الظواهر والنصوص، وهو بذلك رؤية متحررة من الإطار الضيق والمنهج الصارم والضوابط الضيقة والقاهرة لفعل القراءة الممكنة.
إن الناقدين يحاولان الاقتراب من جوهر المعنى من خلال ممارسات استكشافية لعوالم شعرية تتمايل انزياحًا إلى اتجاهات جانبية لا يمكن توقعها، ولا يتأتى الكشف عنها إلا بالتحرك داخل اللغة أفقيًا وعموديًا، مع فتح القراءة على نسق يستلهم أدواته من النقد واللسانيات والفلسفة والتحليل النفسي والتاريخ، وغيرها من المعارف والعلوم التي تتقاطع في قراءة عرفانية، لا تحفل كثيرًا بالانصياع للمناهج بقدر ما تندفع نحو الانغماس في قراءة النص، والاشتغال على الأبعاد الإشارية والإيحائية التي تمنحه التوهج، وتظهر في عمقه كنقاط ضوء تنير تلك العتمة التي يفرزها جنوح المنجز العربي الحديث إلى العمق والغموض والالتباس.
لذا فإن الناقد عندما يغور في المنجز الشعري للشاعرة عبير العطار يستشعر منذ البداية أنه أمام شاعرة كونية تستبيح الكون وامتداداته وشساعته في امتداد واتساع النص الذي تنتجه. أما الشاعر أحمد مفدي فإنه يشكو عجز الإنسان عن النجاة من آلة التاريخ الذي يعيد نفسه في كل عصر، فكيف نعجز عن النجاة ونحن نعرف القانون والتفسير؟ بينما يتجلى أحمد فضل شبلول شاعرًا قادرًا على إعادة نظم رياضيات الواقع على إيقاع الروح والحلم، مستثمرًا طاقاته الإبداعية في زرع مناطق حُبلى بالحياة من خلال ديوانه «زوايا من بقايا شمعتك». ويبدو الشاعر عمارة إبراهيم مسكونًا بقلق وعرق الصحراء، ومهووسًا بالتمرد والرفض والتفرد. أما تجربة الشاعرة سعاد عبيد الله فهي تجربة نص/حياة، مبتلة بالدموع، نص/حلم قادم من جوف ذاكرة تتسع لتحضن كل التفاصيل المحاصرة بعنف المكان وقبضة الزمان. 
بينما الزمن عند ميس سعيدي يتقدم إلى الوراء حيث الأسطورة ابنة الماضي، وفي الوقت نفسه يتقدم إلى الأمام حين يغير مسار الحكاية فيرسم إحداثيات مستقبلية لأسطورة جديدة. وعلى هدي ثنائية الماء والنبوة يبني الناقد أسئلته التأويلية في ديوان سعيدة خاطر، مؤكدًا أن الرؤية عندها رؤية مائية.
هكذا تتنوع القراءات والتفسيرات والتأويلات للنصوص الشعرية، مما يؤكد حاجتنا إلى المتابعة النقدية للأعمال الإبداعية، ولعل العمل المشترك بين الناقدين مصطفى شميعة ونزهة خلفاوي، يفتح الطريق أمام تجارب عربية مماثلة تتناول المزيد من الإبداع العربي، وتجسير الهوّة التي كان يشكو منها آباؤنا في الأجيال الماضية، ولا يزال يشكو منها أدباؤنا المعاصرون ■