أوراق أدبية: فصـول

 أوراق أدبية: فصـول

ذكريات عن مجلة رائدة

صدر العدد الأول من مجلة "فصول" في شهر أكتوبر سنة 1980 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب التي كان يرأس مجلس إدارتها في ذلك الوقت صلاح عبدالصبور الذي تدين له المجلة بالكثير. وكان رئيس التحرير عز الدين إسماعيل يعاونه نائبان هما: صلاح فضل وجابر عصفور. وقد استغرق الإعداد للمجلة أشهرا طويلة قبل صدورها، سواء في وضع التصور العام، أو تحديد الأهداف، أو مناقشة الممكن وغير الممكن في السياق الاجتماعي والسياسي الذي تحركنا فيه، ومن ثم وضع جدول زمني للتنفيذ العملي. ولم يتأخر صلاح عبدالصبور ـ رحمه الله ـ عن المشاركة في كل المراحل. وتولى الفرسان الثلاثة ـ رئيس التحرير ونائباه ـ المهمة الصعبة في ترجمة المشروع العملي إلى عمل تنفيذي.

وعندما اقتربنا من بداية التنفيذ الفعلي، اتفقنا على أن نضع على صفحة الغلاف الداخلي للمجلة مجموعة من الأسماء البارزة بصفة مستشاري التحرير: زكي نجيب محمود وسهير القلماوي وشوقي ضيف وعبدالحميد يونس وعبدالقادر القط ومجدي وهبه ومصطفى سويف ونجيب محفوظ ويحيى حقي. وأذكر أننا تناقشنا طويلا في اختيار هذه الأسماء، وحرصنا على أن تمثل في مجموعها الاتجاهات الفكرية المعقولة والمقبولة، وأن تكون كلها لشخصيات محترمة كل الاحترام في الدوائر الثقافية، ولا تثير حساسية سياسية من أي نوع، ومن ثم يكون لها من الثقل الاجتماعي والفكري ما يسهم في حماية المجلة الوليدة من مخاطر الطريق، خصوصا أننا كنا لا نزال نعيش في المدار المغلق المتوتر للنظام الساداتي. أعني المدار الذي كان لا يزال يحمل شحنات من الغضب على الوجود الساداتي في مجالات الحياة المختلفة، ابتداء من شحنات الغضب التي اندفعت لتعبر عن نفسها في تظاهرات 1972، التظاهرات التي دفعت أمل دنقل إلى أن يكتب قصيدته الشهيرة "الكعكة الحجرية". وكانت القصيدة تعبيرا عن تيار من التمرد الذي لم ينقطع، ولم يلبث أن اندفع مرة أخرى في الشارع مع أحداث الثامن عشر والتاسع عشر من يناير في الأحداث التي أطلقت عليها مصر الناصرية "ثورة الخبز" " يناير 1977"، بينما أطلقت عليها مصر الساداتية "انتفاضة الحرامية". وهو التمرد الذي جاء عقب تشتيت الحركة الثقافية في المهاجر، خصوصا بعد أن أغلقت المجلات الثقافية المهمة واحدة إثر أخرى، ابتداء بمجلة "الكاتب" وانتهاء بمجلة "الطليعة" التي أصدر السادات قراره بإغلاقها في فبراير 1977، بعد أن كتب لطفي الخولي رئيس التحرير ما كتب عن انتفاضة الثامن عشر والتاسع عشر من يناير.

ولاشك أن ضغوط السياق السياسي كانت ماثلة في وعينا، ونحن نتأمل فكرة وجود مستشارين لتحرير "فصول" الجديدة، ولذلك وافقنا بالإجماع على الفكرة التي رأينا لها فائدة في ذلك الزمان. وانتهت مداولاتنا إلى اختيار الأسماء السابقة للأسباب التي أوضحناها، وأضيف إلى هذه الأسباب أننا أجمعنا على احترام أصحاب هذه الأسماء، "رغم اختلافنا السياسي مع بعضها"، من ناحية، ولأننا كنا تلامذة بالمعنى المباشر للكثيرين منهم من ناحية ثانية، وطبعا لم ننزلق إلى درجة أن نختار أسماء من عينة رشاد رشدي عليه رحمة الله، لأنه كان محسوبا على أقصى اليمين السياسي، ومرتبطا بانتهازية سياسية، ولم يكن لديه الكثير الأصيل الذي يقدمه للنقد الأدبي في الوقت نفسه. وأغفلنا في الوقت نفسه أسماء من مثل لويس عوض ولطيفة الزيات حتى لا تدخل المجلة في صدام سياسي يعوقها عن العمل. واقتصرنا على الأسماء التي تساعدنا على أن نصدر مجلة مستقلة للنقد الأدبي، خالصة لمشكلاته، لا تخلط بينه وبين السياسة المباشرة، بل تنأى عن التورط السياسي بما يتيح لها أن تضع مشكلاتها موضع المساءلة في المجال النوعي الذي تتصل به، وهو النقد الأدبي.

وكتب عز الدين إسماعيل ـ رئيس التحرير ـ افتتاحية العدد، مؤكدا معنى صدورها في مستهل العقد التاسع من القرن الماضي، موضحا أن هذا الصدور استجابة طبيعية وضرورية لحاجة يلح الواقع في طلبها، بعد أن جاوز الوعي فيه كل الطروح العشوائية في حقل الثقافة الأدبية. ولم يعد يلائم الواقع المتحول أو يصلح له تكرار الأنماط الفكرية المألوفة ودورانها في حلقة مفرغة، فهذا الفراغ قاتل، ولابد من حركة جديدة تملأ هذا الفراغ، ولكن بوعي حديد.

ومن أجل هذا تصدر "فصول" بوصفها مجلة متخصصة في حقل النقد الأدبي لكي تسهم بصورة إيجابية في التغير الذي يتطلبه الواقع الثقافي ويفرضه، وبعد ذلك أو قبله تظل المجلة، بالإضافة إلى تخصصها المحدد، ذات طبيعة نقدية في منحاها الفكري العادي فهي لا تعرف المسلمات في أي لون من ألوان الثقافة، وتفتح الباب لإعادة النظر في كل ما يستحق أن يعاد النظر فيه. وهي بالإضافة إلى هذا تؤمن بالمنهج العلمي، وتسعى ـ قدر الطاقة ـ إلى تحقيقه حتى في مجال الدراسة الأدبية، فلا تحصر نفسها في اتجاه واحد بعينه، أو مذهب أو اتجاه فكري بذاته، بل تفتح الباب لكل دراسة وكل فكر يلتزم بالجدية والموضوعية.

وأعلن عز الدين إسماعيل باسمنا جميعا أننا نصدر "فصول" مبرئين من مركبين أساسيين تراءى لنا أنهما ظلا يؤثران سلبيا في الحركة الأدبية والثقافية بعامة في وطننا العربي، أولهما نظرة التقديس للتراث ،وثانيهما شعور الاستخذاء أمام الثقافة الغربية، لقد صار في مقدورنا أن نحدد موقفنا تحديدا دقيقا من التراث ومن الثقافات الوافدة على السواء، وأن نفكر جديا في تأصيل ثقافتنا القومية المتميزة، وفي بناء المثقف العربي المعاصر الذي تنصهر في كيانه الأبعاد التراثية وأبعاد المعاصرة على نحو متفرد.

جبهة للنقد الأدبي

وكانت الافتتاحية التي كتبها عز الدين إسماعيل تعني أن المجلة تسعى إلى تكوين جبهة ثقافية حقيقية في دائرة النقد الأدبي، جبهة تستبدل الجدية بنقيضها، واحترام الاختلاف بهيمنة الصوت الواحد، والانضباط العلمي بالتسيب الانفعالي، والجهد بالسهولة، والكشف عن آفاق جديدة واعدة بالانغلاق على ما أصبح معروفا معتادا مكرورا، ومن ثم تفتح الأبواب المغلقة أمام الابتداع النقدي والتجريب والمساءلة الجذرية في الوقت نفسه، بعبارة أخرى كانت المجلة تسعى إلى أن تعيد الحيوية ـ في مجالها النوعي ـ إلى المشهد الثقافي الذي أصابه الخمول والهمود والجمود، خصوصا بعد أن خلا هذا المشهد من الأقلام الجادة والأصيلة التي اضطرت إلى الرحيل الإجباري إلى المنافي "محمود أمين العالم، غالي شكري، أحمد عباس صالح، أحمد حجازي، محمد عفيفي مطر.. وغيرهم". وفي الوقت نفسه، بعد أن فرضت الهجرة الداخلية على الأصوات الباقية التي لم تكن تصلح للإنشاد في الجوقة الساداتية التي نصب رشاد رشدي من نفسه مايسترو لها في الحياة الأدبية، الأمر الذي أدى إلى اضطهاد ناقد بحجم لويس عوض، ومصادرة كتابه "فقه اللغة" وتهميشه في دوائـر الـظل حـتى لا يفارقها إلا بعد سقوط العهد الساداتي.

ولما كان الهدف الأساسي للمجلة مرتبطا بفكرة الجبهة المتجاورة، فقد ضم العدد الأول كتابات شوقي ضيف وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، جنبا إلى جنب كتابات شكري عياد وإبراهيم عبدالرحمن وجابر عصفور وتمام حسان وعاطف جودة نصر وحسن حنفي وعفت الشرقاوي وعز الدين فودة وعز الدين إسماعيل وسيزا قاسم وعلي عشري زايد وصلاح فضل وعبدالمنعم تليمة ونصر حامد رزق "نصر أبوزيد" ونصار عبدالله وعزت قرني وهدى وصفي ومحمود علي مكي واعتدال عثمان. وكلها أسماء تنتسب إلى أجيال مختلفة، وتيارات فكرية متباينة بل متعارضة، ومدارس نقدية متباعدة، وتخصصات متغايرة، لا يصل بينها في واقع الأمر إلا الأهداف التي حددتها افتتاحية العدد سواء من حيث السعي إلى مجاوزة المكرور من الأنماط الفكرية المألوفة التي انتهت إلى الدوران في حلقة مفرغة، أو الإسهام الإيجابي في عملية التغيير التي تطلبها الواقع الثقافي وفرضها، أو تأكيد الطبيعة النقدية للمساءلة الخلاقة التي لا تعرف المسلمات في أي لون من ألوان الثقافة، أو دعم الهوية الذاتية للوعي في حركة اجتهاده الخاص التي لا تعرف التخاذل، ومن ثم تبعية الاتباع أمام التراث وثقافة الآخر ـ الغرب المتقدم ـ في آن.

وكانت "مشكلات التراث" البداية الحاسمة التي اخترناها نقطة للانطلاق، لأننا كنا متأثرين بمعنى أو آخر بأفكار أستاذنا الشيخ أمين الخولي الذي تعلمنا منه أن أول التجديد قتل القديم فهما، ولأننا كنا نعرف أن القراءة الجديدة للتراث هي الوجه الآخر من قراءة الحاضر الذي ينطوي في كثير من جوانبه على عناصر تراثية تصل الحاضر بالماضي، بل تشد الحاضر إلى الماضي، ولأننا كنا نعرف أن قراءة "مشكلات التراث" هي المقدمة المنطقية لقراءة مشكلات النقد الأدبي الذي تأخذه عن الآخر، ولابد من مساءلة هذه وتلك في علاقة بالمساءلة الجديدة للواقع نفسه.

أفق جديد للكتابة

وكان رأس الحربة في فعل المساءلة الجذرية دراسات الجيل الذي بدأ إنجازه النقدي في الظهور اللافت مع مطالع السبعينيات، واستمرت محاولاته الكتابية طوال السبعينيات بحثا عن أفق جديد من الكتابة، هكذا كانت قراءة سيزا قاسم لرواية "البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا بعنوان "البنيات التراثية" علامة موازية للعلامة التي صنعتها قراءة صلاح فضل الجديدة لشعر أمل دنقل، أعني القراءة التي حملت عنوان "إنتاج الدلالة في شعر أمل دنقل". وكانت قراءة موازية لمحاولة عز الدين إسماعيل اكتشاف العناصر التكوينية للعملية البنائية التي يستعيد بها المسرح التاريخي عصور الماضي التي يمكن أن تتحول إلى أقنعة للحاضر أو موازيات رمزية له، وذلك في دراسته عن "توظيف التراث في المسرح"، وكان توجه حركة السهم يمضي في مسار غير بعيد عن المسار النقدي الذي اتخذه نصر أبوزيد في عرضه أفكار أدونيس في كتابه التأسيسي "الثابت والمتحول" وهدى وصفي في عرضها الدوريات الفرنسية وجابر عصفور في قراءة حركة المحدثين في العصر العباسي تحت عنوان "تعارضات الحداثة".

وإذا حسبنا الكم الذي شغله هذا النوع من الكتابة النقدية الجديدة من صفحات العدد الذي جاوز ثلاثمائة وثلاثين صفحة من القطع الكبير غير المعتاد، وجدنا أن الكتابة النقدية الجديدة في العدد الأول من مجلة "فصول" قليلة في حجمها بالقياس إلى التيارات النقدية الأخرى. ولكن كان علينا أن نقبل هذا الموقف ما ظللنا نسعى إلى إقامة جبهة واسعة تناصر الجديد، ولو على سبيل النوايا. ومع ذلك فقد كان للكتابات الجذرية القليلة في العدد وقعها المؤثر الذي سرعان ما اتسعت دائرته باتساع دائرة هذه الكتابات نفسها، ابتداء من العدد الثاني من "فصول" وبداية تحول المجلة إلى مجلة قومية بالمعنى الحقيقي للكلمة. وهو العدد الذي استهل بداية استقطاب المجلة للطليعة الواعدة من شباب النقاد المحدثين الذين جعلوا من المجلة نفسها ساحة للكتابة الطليعية النقدية على امتداد الوطن العربي. هكذا، صدر العدد الثاني "يناير 1981" وهو يحمل دراسة عبدالسلام المسدي عن "المقول الشعري والملفوظ النفسي".ويتناول بالعرض والتحليل كتاب محمد رشيد ثابت في تونس عن "البنية القصصية ومدلولها الاجتماعي في حديث عيسى ابن هشام" وما كتبه موريس أبوناضر في لبنان عن "الألسنية والنقد الأدبي".

اللغة والنقد الأدبي

وارتبط العدد الثاني بالعدد الثالث الذي ظهر في أبريل 1981 حول المحور الأساسي للموضوع نفسه. وهو تقديم "مناهج النقد الأدبي المعاصر" وإتاحتها في جدتها وتنوعها للقارئ العربي ـ خاصة في مصر ـ الذي ظل محروما من التعرف القريب إلى هذه المناهج، والذي خضع طويلا لكل ما فرضته عليه الأصوات النقدية المكرورة. وإذ حمل الجزء الأول دراسات عن الاتجاه النفسي في التحليل الأدبي، فإنه جمع ما بين أنصار التحليل الفرويدي "فرج أحمد فرج" وأتباع المدرسة التجريبية التي رادها مصطفى سويف ومثلتها في العدد دراستا مصري حنوره ومحيي الدين أحمد حسين، وكلاهما من تلامذة سويف في اتجاه علم النفس التجريبي، ويعد ذلك جاء الاتجاه الاجتماعي في الجزء نفسه، حيث كتب صبري حافظ عن إشكالية العلاقة بين الأدب والمجتمع من منظور جديد، وكتب جي بوربللي "وكان أستاذا للفرنسية بجامعة القاهرة وقتذاك" عن "اجتماعية الأدب" وأخيرا، كتب جابر عصفور عن "البنيوية التوليدية" وترجم بحث لوسيان جولدمان عن "علم اجتماع الأدب".

وظهرت الاتجاهات الأسلوبية ممثلة في دراسة عبده الراجحي عن العلاقة الجديدة بين علم اللغة والنقد الأدبي، ومحمود عياد عن الأسلوبية الحديثة، وترجم سليمان العطار عن اللغة الإسبانية فصلا من كتاب فيتور مانويل دي أجييار إي سيلفا بعنوان "الأسلوبية علم وتاريخ". وأخيرا عبدالسلام المسدي بعنوان "مع الشابي: بين المقول الشعري والملفوظ النفسي". أما الاتجاه الخاص بالبنيوية اللغوية فتمثل في دراسة فتوح أحمد عن "الشكلية: ماذا يبقى منها؟"، ودراسة نبيلة إبراهيم "البنائية من أين وإلى أين؟. ودراسة تطبيقية لهدى وصفي عن رواية الشحاذ لنجيب محفوظ بعنوان"دراسة نفس ـ بنيوية".واختتمت دراسات هذا الاتجاه بمساءلته، وكان ذلك في الدراسة العلامة التي كتبها أستاذنا شكري عياد بعنوان "موقف من البنيوية". ولم يغفل هذا الجزء ـ فضلا عن ذلك كله ـ إقامة ندوة عن اتجاهات النقد الأدبي المعاصر، وتجربة تطبيقية في النقد البنيوي هي "موسم الهجرة إلى الشمال". وكان ذلك إلى جانب عروض الكتب المهمة، على نحو ما فعل ماهر شفيق فريد الذي عرض كتاب جوناثان كوللر "البويطيقا البنيوية" وحسن البنا الذي عرض كتاب أندراس حاموري عن فن الأدب في العصر الوسيط.

ويكتمل الجزء الثاني من تقديم مناهج النقد الأدبي المعاصر في العدد الثالث "أبريل 1981" الذي استكمل التيارات الواعدة، فحمل دراسة أمينة رشيد عن "علم السيميوطيقا: مفاهيمه وأبعاده". وترجمة سيزا قاسم لما كتبه إميل بنفنست عن "سيميولوجيا اللغة" وتضيف سامية أسعد دراسة بعنوان "سيميولوجيا المسرح". وهي إضافة اكتمل معناها بدراسة هدى وصفي التي عنوانها "تحليل سيميولوجي لمسرحية الأستاذ". وتكمل اعتدال عثمان الدائرة السيمولوجية بترجمة بحث سيزار سيجر عن "استدارة الزمن عند جارثيا ماركيز". وهو قراءة سيميوطيقية في رواية "مائة عام من العزلة" التي كانت قد أخذت تلفت الأنظار، خصوصا بعد أن تحدث صلاح فضل عن الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية، وعرض لأهم ملامحها في كتابه "المنهج الواقعي" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1978. وكان زميلنا سليمان العطار قد فرغ من ترجمة الرواية عن اللغة الإسبانية، بعد أن أغريته بترجمتها عن لغتها الأصلية، وأهديته ترجمتها الإنجليزية التي قرأتها سنة 1977، وظللت أتحدث عنها مع كل من أعرفه.

كان صدور العددين الثاني والثالث من "فصول" حدثا يدل على توجه المجلة الجديد الى ما يمكن أن تمضي فيه، وتسهم به في حركة النقد الأدبي المعاصر في العالم العربي، خصوصا في مجال النقد الأدبي بقسميه النظري والتطبيقي. وأحسب أنها كانت المرة الأولى في الثقافة العربية المعاصرة التي يتم فيها تقديم الاتجاهات النفسية والاتجاهات الاجتماعية لدراسة الأدب، جنبا إلى جنب المذاهب الأسلوبية والبنيوية بجناحيها اللغوي والتوليدي، فضلا عن النقد السيميوطيقي والمدخل الأنطولوجي والنقدالأسطوري والتناول الظاهري لنقاد جنيف الذين أطلق عليهم اسم "نقاد الوعي". ولم يحدث من قبل ـ في تاريخ الثقافة العربية الحديثة ـ أن وجدت مجلة متخصصة في النقد الأدبي إلى هذه الدرجة، تتولى عرض وتحليل الاتجاهات الأساسية في العالم النقدي المعاصر دون تحيز أو تعصب، فلم تكن المجلة تنحاز إلا للآفاق الجديدة الواعدة في النـظريات النـقدية والأدبية، ولم تكن تبدأ من الجديد لجدته وإنما لقـدرته على أن يضيف إلى الواقع النقدي والإبداعي ما يدفع به إلى المزيد من الإضافة.

وإذا أضفنا العدد الرابع الذي كان عن "قضايا الشعر العربي" لأعداد المجلة، اكتملت الصورة، وظهرت الوجهة التي قصدت إليها المجلة عندما حرصت على إتاحة الحوار بين التيارات النقدية بأجيالها المختلفة من ناحية، وفتح الأبواب المغلقة لتعرف الجديد الموجود في العالم النقدي كله والإفادة من مستويات التنظير والممارسة من ناحية ثالثـة، وإبراز كتابة جيل جديد من النقاد الذين كانت أعمـارهم تقـترب مـن الأربعـين ولا تجـاوزها إلا بقليل. أعني جيلا يضم أمثال عبدالسلام المسدى وحمادي صمود من تونس، وكمال أبوديب من سوريا، وفريال غزول من العراق، وموريس أبوناضر من لبنان، وأقرانهـم من المصريين في السلـسلة التي تضـم أمثـال صلاح فضل وسيزا قاسم وهدى وصفي وغيرهم.

 

جابر عصفور