هوامش على رؤية صلاح عبدالصَّبور إلى الشعر وعمليَّة إبداعه

هوامش على رؤية صلاح عبدالصَّبور إلى الشعر وعمليَّة إبداعه

صلاح عبدالصبور (3/3/1931 - 14/8/1981) هو شاعر وناقد وصحفيّ وناشط ثقافي كبير، ويعدُّ أحد روَّاد حركة الشعر العربيّ الحديث الأوائل والأساسيّين على مستويي الإبداع والتنظير، وأحد الشعراء العرب القلائل الذين أغنوا المسرح الشعريَّ العربيَّ، وأسهموا في تطويره بإنتاجهم المسرحي الشعري المتميِّز.

 

تفيد قراءة شعر عبدالصبور وتنظيره، بأنَّه عاش تجربة حياتية وشعرية - فنية فريدة، تمثَّلها ومثَّلها في إنتاجه، ويصفها بقوله: «التجربة بالمعنى الفني والفلسفي قد تعني كل فكرة عقلية أثَّرت في رؤية الإنسان للكون والكائنات، فضلًا عن الأحداث المعاينة التي قد تدفع الشاعر، أو الفنان، إلى التفكير. وهي، بهذا المعنى، أكبر وجودًا، وأوسع عالمًا، من الذوات، وأنَّ كلَّ مجال عملها هو هذه الذوات» (الأعمال الكاملة، حياتي في الشعر، بيروت: دار العودة، ط.2، ص.59. في توثيق الاقتباسات من هذا الكتاب سنكتفي في ما يأتي بذكر رقم الصفحة بين قوسين).
 وهذا يعني أن تجربته هي «تجربة حياتية/شعرية شخصية كيانية، فريدة، تلد مضمونًا يعرب عن رؤية خاصة للعام، يكون الإنسان أمام مصيره موضوعها الأوَّل».
 
اختيار المصير والسعي إلى الخلاص 
عندما يكون «الإنسان أمام مصيره» هو موضوع الرؤية الخاصة للشاعر تكون عملية تمثيل هذه الرؤية لغة شعرية، أو عملية الخلق الشعري، كما يرى عبدالصبور، «القوة الدافعة»، في حياته، ليواصل سعيه إلى الخلاص من مصيدة الحياة نفسها. 
في بيان اختيار هذا السعي، يقرأ عبدالصبور بيت أبي العلاء المعرِّي الآتي: «هل يأبق الإنسان من ملك ربِّه/ويخرج من أرضٍ له وسماء؟!»، ويقول: يخرج الاستفهام في هذا البيت، إلى النفي والإنكار...، ويفيد الفعل «يأبق» بأنَّ الإنسان عبد، وأنَّ الحياة نفسها عبودية يستحيل الخروج منها إلى أيِّ مكان في الكون، والإنسان محكوم عليه بها، فماذا عليه أن يختار؟ الاختيار المصيري هو قبول هذا الحكم، أو الانتحار/الموت، أو التخلّي عن المسؤولية بطرق شتى. 
نستدعي إلى الهامش حكاية من حكايات كليلة ودمنة، يتعلَّق فيها الإنسان بغصن يقرضه جُرذان: أسود وأبيض، وتحته هوَّة فيها أفعى تلاعب لسانها، وأمامه طبق عسل، يحلِّي بلعقه قبوله مصيره، وعجزه عن تغييره. 
لكلِّ إنسانٍ في هذه الحياة عسله المحلّي، وفي التعبير عن هذا القدر/العجز الإنساني، يشعر الشاعر بأنه يكتب على الرمل.
ونستحضر إلى الهامش ما أنشده ذو الرمة قديمًا: «عشية ما لي حيلة، غير أنَّني/بلقط الحصى، والخطِّ، في التُّرب، مولع/أخطُّ، وأمحو الخطَّ، ثم أعيده/بكفّي، والغربان، في الدار وُقَّع»، وحديثًا كتب محمد علي شمس الدين قصيدة «ميم يحرث، في الآبار».

 شهوة إصلاح العالم والخَطْو نحو الكمال 
في سبيل الخلاص، أو الحصول على العسل المحلّي، كان يسعى صلاح عبدالصبور، وهو يحمل بين جوانحه «شهوة لإصلاح العالم»، بوصفها «القوة الدافعة في حياة الفيلسوف، أو الشاعر» (ص.135)، فحياتنا، كما يقول، «مجدبة وسخيفة، ما لم ترتبط بفكرة عامة وشاملة، بسعيٍ إلى الكمال». ويسأل: ما الكمال؟ ويجيب: «كلُّ إضافة إلى خبرة الإنسانية هي خطوة نحو الكمال» (ص 159). وإضافة الشاعر تتمثل في اتخاذه موقفًا سلوكيًا وحياتيًا من قضايا الحياة المعيشة، بحيث يتمثل هذا الموقف بشكل عفوي في ما يكتبه، وهو بهذا لا يعبِّر عن الحياة، لكنه يخلق حياة أخرى معادلة للحياة، وأكثر منها صدقًا وجمالًا (ص 61 و66). وهو، إذ يصير إلى هذه الحال، يمرُّ بأحوال يعيش تجربته، كما مرَّ بنا، ويتصل بالتراثين الوطني والإنساني، وكلُّ فنان لا يعرف آباءه الفنيين إلى تاسع جد، لا يستطيع أن يكون جزءًا من التراث الإنساني (ص 145).

التفاعل النصِّي وآباؤه 
يذكر عبدالصبور آباءه منذ البدايات، فيقول: «ظلَّ المنفلوطي معبودي حتى تعرفت إلى جبران...، استعبدني جبران طوال سنوات المراهقة الأولى، وكان هو قائد رحلتي بشكلٍ ما...، وعن هذه السبيل دخلت في سنِّ الخامسة عشرة إلى عالم غريب مفزع هو عالم نيتشه» (ص 68 و69)، ثم واصل دخوله إلى عوالم كثيرة، في رحلة فكرية روحية شعرية طويلة. 
ولعلَّه وجد في مسار هذه الطريق، علامات لدى الصوفية ترشد إلى ما يسعى إليه، من خلاص/ عسلٍ مُحلٍّ/ قوَّة دافعة، فهو يقول: الواقع أنَّ الصوفية هم أوَّل من أشار إلى أنَّ التجربة الروحية شبيهة بالرحلة التي قد تنتهي بسالكها إلى النهاية السعيدة، فيقول شاعرهم: «انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم/ فإذا ظفروا بنفوسهم فقد وصلوا» (ص. 24). 

عملية الخلق الشعري/الرحلة إلى الظفر بالنفس
-1 التمثُّل والتمثيل، والسعي إلى الربيع الآتي: 
يرى عبدالصبور إلى عملية الخلق الشعري، أو الرحلة الروحية الشعرية، المُفضية إلى الظفر بالنفس/الوصول، فيقول: «ينبغي أن يتمثل الشاعر أفكاره لتتحوّل، في نفسه، إلى رؤى وصور، كما يتمثل النبات ضوء الشمس ليتحوَّل إلى خضرة مظلّلة، وزاهية، فالشاعر لا يعرض آراء، ولكنه يعرض رؤيا» (ص 55).
 نستحضر إلى الهامش ما كان جبران خليل جبران قد قاله، في مقالته المعروفة: «مستقبل اللغة العربية»: «التأثير شكل من الطعام تتناوله اللغة من خارجها، فتمضغه وتبتلعه، وتحوِّل الصالح منه إلى كيانها الحيّ، كما تحوِّل الشجرة النور والهواء وعناصر التراب إلى أفنان، فأوراق، فأزهار، فأثمار»، ويكتب جبران إلى ماري هاسكل: «... وإذا صحَّ للنباتات التأكُّد من قدوم الربيع الذي به سيخرجن من ذواتهن، فلمَ لا يصحُّ لي، أنا النبتة البشرية، التأكُّد من ربيع مقبل أتمكن فيه من تحقيق ذاتي؟ 
وإذ نقرأ هذا، نسأل: هل السعي إلى الربيع الآتي هو قدر الكائنات الحية؟ ونجيب بنعم، ويكون هذا الربيع لدى الإنسان الظفر بالنفس وتحقيقها.
2- مراحل عملية الخلق الفني/الشعري: 
وإذ يتحقَّق للشاعر التمثُّل المذكور آنفًا، يرى عبدالصبور، متأثرًا برؤية الصوفيين، أنَّ عملية الخلق الفني، وتاليًا الشعري، تمر بثلاث مراحل، أولاها البدء بخاطرة، يُظنُّ أنَّها هابطة من منبعٍ متعالٍ عن البشر، فتبزغ مثل لوامع البرق . في هذه المرحلة، تكون القصيدة، كما يرى الصوفيون، «واردًا»، وشرط الوارد، كما يرى القشيري، «أن يستغرق القلب، وأن يكون له فعل». ويستشهد عبدالصبور للدلالة على هذه المرحلة بقول امرئ القيس: «تخبِّرني الجنُّ أشعارها/فما شئت من شعرهنَّ اصطفيت». نستحضر إلى الهامش، قولًا اَخر لامرئ القيس هو: «أذود القوافي.../فلما كثرن وعنَّينه/تخيَّر منهنَّ شتَّى جيادا/فأعزل مرجانها جانبًا/وآخذ من درِّها المستجادا». 
في القولين يصطفي امرؤ القيس ممَّا تخبره به الجنّ، وهذا دالٌّ على المرحلة التي انتقل فيها الشعر من رجز إلى قريض فقصيد، وكان الدالُّ على هذه المرحلة الأولى قول الشاعر القديم: «وقافيةٍ عجَّت بليل رزيَّةٍ/تلقَّيت من جوِّ السماء نزولها». وقول امرئ القيس، آنف الذكر، يؤكِّد ما يروى من أنَّه أوَّل من قصَّد القصائد. 
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة «التلوين والتمكين». يقول القشيري بشأن هذه المرحلة: «فما دام العبد في الطريق فهو صاحب التلوين، لأنه يرتقي من حالٍ إلى حال. وينتقل من وصف إلى وصف، ويخرج من مَرْحل (مكان الرحيل)، ويحصل في مَرْبع (محلّ الربيع والرعي، فإذا وصل تمكَّن». ويقول عبدالصبور، في هذا الشأن: وإن انتقلنا من المصطلح الصوفي إلى المصطلح الفني، لقلنا: إن الشاعر حين يحاول تسوية القصيدة يدفع بنفسه إلى رحلة مضنية في طريق قلقة. ثم يعود بنفسه إلى الحال التي أوحت إليه الوارد الأول، فهناك منبع، في مكان ما يحاول الشاعر أن يتصيده، من خلال رحلته المضنية، وهذا سوى ما جاء في النقد الأدبي العربي التقليدي، كما نرى في قول عدي بن الرقاع العاملي: «وقصيدةٍ قد بتُّ أجمع شملها/حتى أقوِّم ميلها وسنادها/نظر المثقف في كعوب قناته/كيما يقيم ثقافه منادها» (ص. 16).
نستحضر إلى الهامش قول كثيِّر عزَّة لعديّ العاملي: «لو كنت فصيحًا، أو عالمًا، لم تأت فيها بميل، ولا بسناد، فتحتاج إلى أن تقوِّمها، ولأن تكون مستقيمة لا تحتاج إلى ثقاف أجود لها». وهذا يعني أن رؤية التقويم والسناد ليست رؤية الشعرية العربية التقليدية، بجميع مكوِّناتها، فإذا عدنا إلى الشعر العربي وجدنا أنَّ رؤى الشعرية العربية عديدة ومتنوِّعة، فإضافة إلى ما سبق ذكره من: 1 - تلقِّي القصيدة من جوِّ السماء،
2 - الاصطفاء ممَّا تُخبر به الجن، نجد: 3 - نظم التجربة الحياتية الشخصية، المكنَّى عنها بـ«عبيلة»، كما في قول عنترة: «عبيلة هذا درُّ نظم نظمته/وأنت له سلكٌ، وحسن مبهج». 4 - الحديث عن العلم بالحياة وذوقها، كما في قول زهير بن أبي سلمى: «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم/وما هو عنها بالحديث المرجم»، وعمَّا تبديه الأيام، كما في قول طرفة بن العبد: «ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا/ويأتيك بالأخبار من لم تزوَّد». 5 - حياكة القوافي وتجويدها، كما لدى «عبيد الشعر، ومنهم زهير، كما في قول الحطيئة: «خير الشعر الحوليُّ المحكَّك»، وكما في قول كعب بن زهير: «فمن للقوافي شأنها من يحوكها/ إذا ما ثوى كعب وفور جرول ». 6 - سهر الخلق. يحتاج الشاعر الذي يحوك القوافي إلى السهر في سبيل ذلك، كما في قول سويد بن الكراع: «أبيت بأبواب القوافي كأنَّما/أصادي بها سربًا من الوحش نزَّعا». 7 -  ثم صار شاعر المديح، يجمع ويقوِّم، كما مرَّ بنا من قول لعدي بن الرقاع العاملي. 
والمرحلة الثالثة هي مرحلة العودة، عودة الشاعر إلى حاله العادية، قبل ورود الوارد إليه، وقبل خوضه رحلة التلوين والتمكين، وفي هذه المرحلة تتجلَّى حاسته النقدية، فيعيد قراءة قصيدته، ليلتمس، ما أخطأ وأصاب (ص 29)، وبهذا يتم التشكيل الفني، بوصفه نوعًا من الغريزة الفنية، مثله مثل القدرة على الوزن وتكوين الصور (ص 49)، فتكون القصيدة بناء منظَّما تنظيمًا صارمًا، وبذلك يتعاضد الصنيعان: تلقائية الوارد والتلوين والتمكين، ووعي التشكيل الفني/التنظيم الصارم اليقظ.  نستحضر إلى الهامش كلام الشعراء العرب عن «سهر الخلق» الذي مرَّ بنا آنفًا، وقول الشاعر الإنجليزي وليم ييتس: «قد يستغرق قرض بيت واحدٍ من الشعر ساعات، لكن، إذا لم يبد كأنه وحيُ البديهة، فإنَّ كلَّ صناعتنا في الَّلفق والفتق هباء».

تجربة شعرية فريدة
في الختام، يمكن القول إن صلاح عبدالصبور كشاعر وناقد وصحفي ثقافي وكاتب مسرحية شعرية كبير تجربته الحياتية الشعرية فريدة، إذ كان الإنسان أمام مصيره موضوع شعره الأول، ما جعل عملية الخلق الشعري لديه القوة الدافعة للسعي إلى الخلاص من مصيدة/عبودية الحياة نفسها. وإذ قبل العيش في هذه الحياة المجدبة، فإنه سعى إلى تسويغ هذا العيش، أو الظفر بالنفس، وهو ما سمَّاه الوصول في رحلة تمرُّ بمراحل وأحوال، كما رحلة الصوفيين. في مسار سفره هذا، تزوَّد بعطاء آباء من التراثين: الوطني والعالمي، امتدادًا إلى تاسع جدّ، ذكر منهم المنفلوطي وجبران ونيتشه، وأعلام الصوفيين، فأفاد منهم، ورأى أنَّ الشاعر يتمثل معطيات الحياة، كما يتمثل النبات معطيات اخضراره، وأنَّ عملية الخلق الشعري لديه تمرُّ بثلاث مراحل هي: الوارد، والتلوين والتمكين، والتجويد، وباكتمال هذه المراحل يتحقق التشكيل الفني/التنظيم الصارم، بوصفه غريزة فنية، كما إجادة النظم والتصوير، وبهذا تتعاضد تلقائية الوارد وعفويته وإرادة التنظيم وعقلانيته. 
في سياق تبيُّن رؤية صلاح عبدالصبور هذه إلى الشعر وعملية خلقه، استُحضرت هوامش عليها، مثلت حوارًا نرجو أن يكون مجديًا ■