شكيب أرسلان بين التراث والحداثة
شكيب أرسلان (1869-1946م) الملقّب بأمير البيان، أديب وشاعر وسياسي من لبنان. سخّر حياته للدفاع عن حقوق أمّته العربية، وحاول إيجاد حلول من أجل نهوضها، فزار العديد من البلدان، مثل أمريكا وإيطاليا وروسيا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا... وكان جريئًا في مواجهة الاستعمار وكشف خداعه وزيفه وأهدافه، كما كان معتزًا بإبراز صورة الإسلام الداعي إلى المحبة والوئام والألفة والسلام
دُهش في الوقت نفسه ممّا أصاب العرب في عصره من يأس وخوف وخنوع واستسلام، فدعاهم إلى الجامعة الإسلامية والوحدة العربية لمواجهة الحداثة الأوربية، وعمل على إيقاظ الهمم وبعث الوعي الوطني والقومي مفاخرًا بأمجاد العرب القدماء الذين أفادوا الغرب بعلومهم وحضارتهم، وبتراث الأمة الديني واللغوي والأدبي، ولم يألُ جهدًا في مناشدة العرب اقتباس العلوم المفيدة من الغرب وفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، دون أن يذهل بالحداثة الغربية أو يدعو إلى الاقتداء بها.
تغنّى الأمير بعروبته مؤكدًا أن الإسلام كان راقيًا بذاته، لكنّ المسلمين في عصره سيطر عليهم «الجمود الفكري والتخاذل»، فانبهروا بالحضارة الغربية الحديثة، وشعروا باليأس والإحباط أمام هول تقدم الغرب الفكري والصناعي، لذلك راح يذكّرهم بتاريخهم المجيد، معتبرًا أن تأخر المسلمين «لم يكن من الشريعة، بل من الجهاد في الشريعة، أو من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي. ولما كانت الشريعة جارية على حقّها، كان الإسلام عظيمًا عزيزًا، وقضية الإسلام لا تقبل المماحكة، إذ ليس من أمة في أوربا، سواء الألمان أو الفرنسيون أو الطليان... إلخ إلا وعندهم مؤلفات لا تحصى عن مدنية الإسلام». «إنه يحاول أن يستعيد مجد إسلام الماضي الذي بنى دولة مدنية حضارية وثقافية ونظامًا اجتماعيًا متكاملًا، وفرض نفسه في أوربا من خلال أحكامه الشرعية التي كرّست نظام دين ودولة في آن معًا. أما المسلمون اليوم، فاستولى عليهم القنوط ودبّ فيهم الرعب وألقوا بأنفسهم إلى العدو، بعد أن كانوا مسلمين صاروا مستسلمين»، أي إنهم صاروا عبيدًا للحضارة الغربية، ولم يشعروا بأهداف الاستعمار الذي شوّه صورة الإسلام وأبرزه بأنه دين قتل وإرهاب وجهل وتخلف، وهذا ما دفع الأمير إلى سبر أهداف الاستعمار الغربي وراح يعمل على شدّ الأواصر، فقال: «فبعد أن تقرر وجود هذا التضامن المتين بين جميع الأوربيين في وجه الإسلام والشرق بأسره لا عجب أن يكون هناك تضامن بين الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا لا سيما أن بين هؤلاء رابطة دينية». إنه يريد مواجهة هذا التضامن الغربي من خلال الدعوة إلى الجامعة الإسلامية والوحدة العربية اللتين كان يرى فيهما الخلاص من الضعف والاستكانة والذل والهوان... وهذا ما جعل العرب فريسة الاستعمار الغربي، فقال: «فأما اتحاد العرب والجامعة الإسلامية، فليس في ذلك إلا ما يزيد الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا قوة ومنعة. فإن استقلال آسيا ونهوضها يتوقفان على استقلال شعوبها... ولن ينهض الشرق - لا سيما الشرق الأدنى - من دون نهضة العرب».
المواجهة بالعلم
إن الاستقلال السياسي هو المدخل الأساسي للنهوض الثقافي والحضاري في الشرق، وهذا ما يحتاج إلى اتحاد واتفاق بين أبنائه، وهل يسمح الغرب بذلك؟ إن الأمير وعى خطورة هذه المسألة، فدعا إلى مواجهة المؤامرة بسلاح العلم، قائلًا: «لا نهضة للأمم سوى بالنهضة العلمية، فإذا وجدت هذه جاءت النهضات سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية... إلخ، آخذة بعضها برقاب البعض». إنه كان يتطلّع إلى الغرب ويحفّز العرب لاعتناق مبدأ النهضة العلمية الغربية التي فرضت نفسها في الشرق، وجعلته خاضعًا لسياسة الغرب الحديثة القائمة على الهيمنة والتسلّط العسكري والاقتصادي، وهذا ما وضع الشرق العربي في موقع التبعية والمستهلك، لذلك رأى أن المواجهة تكون في النهضة العلمية، فراح يذكّر العرب بتراثهم العلمي وحضارتهم يوم سادوا ووصلوا إلى أوربا وبلاد الهند والسند... هذا بالإضافة إلى أنه ركّز على بث الوعي، وعلى تمسّك العرب بتراثهم الديني واللغوي والاجتماعي والمفاخرة به، وذلك من أجل زرع روح المعنويات بينهم، والتركيز على جوهر هذا التراث الذي كان وما زال مصدرًا أساسيًا لنهضة الغرب، فناشد «الدول العربية والمجالس العلمية، ووزارات المعارف أن تعمل يدًا واحدة على جمع النفائس العربية المتناثرة في مختلف خزائن أوربا ومتاحفها ومكاتبها، فإن هذه المحفـوظات والكتب والمعاجم التي توجد في خزائن استانبول وألمانيا وباريس ولندن والنمسا والبلقان تؤلف ثروة الأمة العربية الأدبية» التي احتكرها الغربيون في مكتباتهم ومتاحفهم، واستفادوا منها وحجبوا نورها عن الشرقيين.
أدوات مفيدة
إن سياسة التوفيق بين التراث والحداثة التي اعتمدها شكيب أرسلان تعود إلى وعيه وفهمه لأهداف الغرب الاستعمارية، فحاول تنوير العقل العربي من أجل مواجهة المرحلة الجديدة بأدوات مفيدة، فطرح مسألة العلمنة في الشرق التي تسمح للعلماء بالحرية في خوض غمار البحث العلمي، القائم على التجربة والاختبار والمراقبة والإثبات، والذي لا يصطدم بحواجز ومحرّمات دينية يفرضها التأثير الديني عليهم، ولعلّ هذا ما لا يبرّر للغرب توجيه الاتهامات للأنظمة السياسية في الشرق على أساس التعصّب الديني، فيحاربها ويمنعها من التقدم. لذلك خاطب المسلمين قائلًا: «إن كان المسلمون يريدون أن يفلحوا فلا مناص لهم من الاقتداء بالأوربيين في هذا المشرب. ولما كان الأوربيون قد نزعوا من حكوماتهم كل صفة مسيحية كان على المسلمين المقتدين في طلب الفلاح أن ينزعوا عن حكوماتهم كل صفة إسلامية، بحيث تنظر إلى الدين نظر من لا ناقة له في الأمر ولا جمل». إنه يجد في العلمنة الخلاص من الواقع المسيطر على المسلمين في الشرق؛ لأنها «تفصل بين الدين والدنيا كمجالين مختلفين، فالدنيا هي جملة أشكال الحياة المجتمعية والسياسية والثقافية والعلمية، أما الدين فهو علاقة فردية تقوم بين المؤمن والإله»، وهذا ما يدعو إلى تنظيم الدولة وفقا لقوانين وضعية عقلانية بعيدة عن وحي الشرائع السماوية، وما يحجب تأثير التراث الديني على الحياة العصرية. وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا كان الأمير يرى في الدين والتراث الإسلامي ما هو فخر للعرب الذين سطّروا أمجاد حضارتهم وبنوا دولتهم على أسس وقواعد استمدوها من القرآن الكريم؟ وكيف به يعود وينادي بفصل الدين عن الدولة؟ لعل شكيب أرسلان السياسي وعى أهداف الغرب الذي خضع لتجربة عاشها تحت ظلال الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس، فقرّر ألا تتكرر تلك التجربة فاعتمد سياسة فرّق تسد في الشرق، وزرع الفتن بين الطوائف، واستغل تلك الثغرة في سياسة الشرق العربي، وعمل على استثمارها لأهدافه الاستعمارية، لذلك راح يناشد المسلمين والمسيحيين معًا من أجل تحقيق الوحدة العربية التي لا تفرّق بين الأديان، بل تجمع مختلف الطوائف تحت لواء القومية التي تشد عضد الجميع، وتزرع فيما بينهم المحبة والتعاون والوئام والانسجام، بعيدًا عن تأثير المعتقدات على النفوس البشرية، وهذا ما يؤدي إلى قناعة بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية.
نعم، دعا الأمير إلى العلمنة والتأثر بالنهضة العلمية الغربية، وذلك من أجل الأخذ بأسباب هذا التطور الغربي، شرط المحافظة على التراث والتقيد بقيمه الروحانية وعدم الاقتداء بتأثيرات الحداثة الغربية على حياة العرب الاجتماعية، فخاطبهم قائلًا: «فلنحذُ حذو هؤلاء القوم في عروجهم معارج المدنية كلها، وسلوكهم طريق التحقيقات العلمية إلى ما وصلت إليه، مع حفظهم لعاداتهم ونزعاتهم وأذواقهم وبقائهم كما كانوا إفرنجًا، إذا كنا بالفعل نريد أن نتفرنج - أي نقتدي بالإفرنج - تحتّم علينا أن نبقى عربًا».
وأخيرًا، يمكن القول إن شكيب أرسلان شكّل كغيره من المفكرين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأمين الريحاني خارطة أساسية لهواجس الفكر العربي في عصر النهضة، من أهداف الأمة في الوحدة والحرية والسيادة والاستقلال والديمقراطية وتحقيق مجتمع الوفرة الاقتصادية، واستئناف دور الأمة الرسالي على الصعيد الثقافي والحضاري والإنساني... فتأسست هذه الهواجس على التفاؤل، فهل تتحقق هذه الهواجس يومًا من الأيام؟ ■