التكنولوجيا والمأزق الكوني

التكنولوجيا  والمأزق الكوني

تتحدّد التكنولوجيا في كونها التفكير العملي، من أجل تحسين وجود الإنسان على الأرض، وتجويده التجويد الذي يجعل حياة الكائن أكثر قابلية ويُسرًا، بل لا يمكن حصرها في مجرد آليات تجسّد ما في لغته الإنسانية من عبقرية وذكاء وتطوّر ونماء، لكن محورها وانشغالها يتمثلان في إشاعة المعرفة وترسيخ قيم جديدة تتماشى مع سيرورة الألفية الثالثة وصيرورتها، بعبارة أخرى ألا يمكن اعتبار التكنولوجيا حمّالة أبعاد إنسانية وذات جدوى وقيمة، همُّها الأساس إعادة الاعتبار للكائن كمحور أساس في هذه المهمّة؛ حتى يتلاءم مع تطورات هذه التقنية، وينسجم مع تبدلاتها؟

 

النزعة الإنسانية تهتم بالوجود الإنساني من خلال إيلائه المكانة اللائقة، وتصونه من عبودية التكنولوجيا، رغم أنها (التكنولوجيا) تبرز ذكاء الإنسان وتمنح للعقل أولوية قصوى، وتحفّزه على الإنتاج بدَل الرُّكون إلى الاستهلاك والاتّكالية المعيقة لكل ابتكار وإبداع، وهي ممارسات لا بد من العمل على تجذيرها في الواقع، والسعي إلى إشاعتها بالشكل المناسب حتى تبلغ الإنسانية مقاصدها المُثلى وتنقذها من السقوط في الهاوية المعتمة.

تحول دائم
يجب الإشارة إلى أن التقنية قطعت أشواطًا تاريخية وحضارية حتى بلغت هذا المبتغى الذي وصلته، وهذه طبيعة التاريخ والحضارة، فهما في تحول دائم ومغايرة تستجيب لزمنها وإبدالاتها، ولا غرابة في الأمر مادام الإنسان يمثّل الفاعل الرئيس في هذه الصيرورة، ذلك أنّ المتأمّل في هذه المنعطفات لابد أن يخلص إلى أن الموجود المؤثّر والمتفاعل يُحدثُ تأثيرات في الحياة، ويخلق مسالك التّجديد، ويتّسم بتقديم ما يسهم في بلورة تقنية تقوم بدور الميسّر لكل المعيقات الممكنة، التي تعيق كل تطور وتقدم. في المقابل، نجد الكائن المنفعل عنصرًا سلبيًا لا يقدّم أي إسهام، بقدر ما يشكّل حاجزًا ومانعًا، ومن ثمّ يعتبر من الموانع القائمة في بلوغ الإنسانية ما ترتضيه من آفاق مُشْرَعة على الخَلْق وكل ما يخدم البشرية. ومع ذلك، فبين هذين الكائنين هوة سحيقة وبَوْنًا شاسعًا لكون الإرادتين متناقضتين متباينتين، ولعلّ فاعلية الإنسان الغربي أكثر جدّية وجدارة من انفعالية الإنسان المنتمي إلى دول العالَم الثالث، الذي يعاني من العديد من المثبطات والإكراهات؛ مما يزيد من شقائه ومكابداته، ويغدو تحت رحمة هذه التكنولوجيا المحمّلة بما يسعف الإنسان على تجاوز وتخطي واقع الحال إلى واقع أكثر سعَة ورخاء. 
ومن الناس مَنْ يعتبر التكنولوجيا إعلانًا عن إفلاس العقلانية، التي جاءت بها الحداثة الأوربية، وما أفرزته من قيم جديدة كالحرية والاستقلالية والعدالة والمساواة، وتكريس حقوق الإنسان، والأكثر من هذا تعبيرًا عن ارتكاسة حضارية تعرفها الإنسانية؛ وهي انعكاس لتغوّل التقنية في حياة الناس. 
في حين نجد موقفًا يناصر أهمية التكنولوجيا ودورها الفعال والأساس بتغيير طريقة التفكير في علاقة الفرد بالجماعة، والجماعة بالمحيط، والمحيط بهذا الفضاء الممتد إلى ما لا نهاية، وفي امتلاك الوعي بأهمية الآلة في تكسير الحدود وتصيير العالم إلى فضاء مصغّر تلتقي فيه الإرادات وتتوحد، وتتجسّد فيه الآمال والطموحات، وتصبح الأحلام موحّدة مادامت التكنولوجيا قائدة هذه التحولات في العقل والشعور، وما تعرفه الإنسانية من تبدّلات، سواء تعلّق الأمر على جميع الأصعدة اجتماعية واقتصادية وفكرية، إذ نلاحظ على المستوى الاجتماعي أن العلاقات الإنسانية تعرّضت لهزّاتٍ عنيفة من تجلياتها التباعد والانعزالية، وسيادة الفردانية، أضف إلى هذا بروز أمراض اجتماعية كثيرة جرّاء هيمنة الآلة على حياة الناس، ثمّ التمزق الذي طال النسيج الأسري بفعل هذه الثورة التقنية الهائلة، والمثيرة للكثير من الأسئلة. أما على المستوى الاقتصادي، فواقع الحال يؤكّد انتشار ثقافة التسليع والتبضيع، إذ أصبحت الكماليات هاجسًا يهيمن على تفكير الناس ويؤجج الرغبات والأهواء، وسيادة الماديات على الروحانيات، مما انعكس على الترابط الاجتماعي، في الوقت الذي نعثر على ثقافة الضحالة والتفاهة العنوان البارز لهذه التقنية. إنها معالم تكنولوجية أفضت إلى تقويض بنية المجتمع والتأثير سلبًا على العقل المغيّب بالأصل في مجتمع يفضل العيش في الماضي بدل الانخراط في المستقبل، مما يدفعنا إلى القول إن الإنسانية تمرّ بمرحلة عصيبة وشاقّة، نظرا لهذا التشظي الذي تعيشه؛ وعودة التفكير الغابوي المتوشح بلبوسات مختلفة، مما ستكون له آثار وخيمة على الأمن والسلم العالميين. والحروب المتقدة أُوارها في كل بقاع المعمور دليل قاطع على الأزمة الحضارية التي توجد عليها وفيها الإنسانية.  
هذا الاختلاف نابع من زاوية النظر للطرفين، سواء تعلّق الأمر بالوجه المشرق للتكنولوجيا أو الوجه السلبي، والأكثر من هذا فهما رأيان صائبان وناجعان لتجاوز المعيقات التي تحول دون ترسيخ نزعة أخلاقية للتكنولوجيا تعزز وجود الإنسان وحمايته من السقوط في التهجين والمسخ، ولعلّ هذا ما تسعى إليه أخلاقيات التكنولوجيا، التي تعمل على تجسير العلاقات بين أفراد المجتمع وتعزيزها، دون نسيان الطبيعة البشرية وقدرتها على مجابهة الوجه القبيح للتقنية. 
إن إنسانية التكنولوجيا لا يمكن تقزيمها في العلاقات الاجتماعية؛ وإنما ينبغي الاضطلاع بمهمة قدرتها على وضع المسافة بين ما يؤثّر سلبًا على القيم والإنسان وما يُعزّزها ويُقوّيها، لأن أساس التكنولوجيا تعويضي، رغم أنها تقوم بتيسير الصعاب التي كانت تعترض الإنسان، من تقليص الزمن لقضاء الحاجيات والمتطلبات، والهوّة بين المجتمعات، من حيث فتح المجال للقدرات البشرية في الإسهام في تشييد واقع حضاري جديد. فإذا كانت الطبيعة البشرية تتصف بالعقلانية والعاطفة والوعي والجانب الاجتماعي، باعتبارها مقومات لتحقيق الإنسان المتكامل، فإن التكنولوجيا تقوّض هذه الطبيعة ليغدو الإنسان فاقدًا للكينونة.

استفهامات محيرة
من الجليّ أن الإنسانية تمرّ بسياقات تثير الكثير من الاستفهامات المحيّرة للعقل البشري، هذه السياقات المحفوفة بِزُمْرةٍ من التّحولات المنذرة بأخطار محدقة بالمآل الوجودي للبشرية تضع سؤال الكائن في مواجهة واقع يمور بمنعطف غريب يكمن في الاندحار المهول للقيم الإنسانية، والتراجع المروع للحقوق على كل الصّعد بفعل سيادة شمولية التحكم. 
هذا المأزق الكوني يطرح على الإنسانية التفكير في المخرجات الكفيلة لإنقاذ الإنسانية من السقوط في هاوية التفكير الغابوي، الذي بدا واضحًا أنه يمارس بشتى الوسائل في كل بقاع العالم. والراجح أن هذه الارتكاسية الحضارية لم تأت اعتباطًا، بقدر ما كانت نتيجة التغوّل التكنولوجي من جهة، ومن جهة أخرى جراء السياسة الرأسمالية، التي هاجسها الأول والنهائي الربح، متخلّية عن البعد الإنساني ومؤمنة بنهج وتكريس ثقافة العبودية والقطيع من خلال إشاعة قيم الاستهلاك وتشيء الإنسان، مما أفقد هذا الأخير جوهره المتشكّل من الروح والجسد، ليصبح رهين ترسانة إعلامية تروج للضحالة والهمجية وطغيان الآلة، مما يدفعنا إلى التعبير عن تخوفاتنا من مصير الحضارة الإنسانية. 
الحضارة الإنسانية المعاصرة لم تعد مرتبطة بالجوانب ذات الأبعاد القيمية، وإنما مرتهنة لقدرية السوق وهيمنته، فنجم عن ذلك بروز ظواهر اجتماعية تكرّس الفردانية؛ وتبتعد عن العمل الجماعي، فالناس بفعل التقنيات والوسائط الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية وثقافة الاستهلاك تحوّلوا إلى كائنات تفتقد روح الإنسان وفطرته التي جُبل عليها،  فما نشاهده في المنازل والطرقات والأماكن العمومية من مظاهر الانعزال والإغراق في عوالم افتراضية يوحي بأن الفرد يوجد في سجن من دون مفاتيح ولا أقفاص من حديد، بل في سجن بقفازات من حرير،  لكن أثره خطير وستكون له نتائج عكسية على العلاقات الاجتماعية، وعلى الحياة بصفة عامة. إن العوالم الوهمية التي سقطت في فخّها الإنسانية تعيدنا إلى أزمنة ساد فيها النمط العبودي بالقوة وبالفعل، في حين اليوم تمارس على الإنسان سياسة نفسية تتسم بالقهر الداخلي بفعل الضغوط اليومية وانغماس الناس في الكماليات الآنية.
وقد نجم عن ثقافة التقنية تداعيات مخيفة كان لها الأثر على الإنسان، الذي أصبح عاجزًا عن مواجهة طوفان هذه السيول التكنولوجية، وغير قادر على فهم واستيعاب ما يجري حوله من تبدّلات مسّت جوهره ووجوده وكيانه، فهذه الثقافة نجدها قد غزت كل مجالات الحياة، وبواسطتها تتم عمليات التواصل وقضاء الحاجيات الإدارية والإنسانية، ويسّرت أمورًا شتى، وقلّصت المسافات بين الأمم والدول والأصقاع، وحوّلت العالم إلى فضاء صغير تلتقي فيه كل الخلائق في لحظة واحدة، كلّ هذا يجعل الإنسان حائرًا ومترددًا في الانخراط الفعلي بدوامة عالم التقنيات والحواسيب وأجهزة الذكاء الاصطناعي والهواتف النقالة المتطورة، مما يفرض عليه ضرورة الاستجابة لسلطة التكنولوجية المتحوّلة وغير القارّة في إيقاع معيّن. 
إن إيقاع التقنية والمسار الذي بلغته يفوقان رغبة الإنسان في التحكّم في مجرياته، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في كلّ ما يحدث وتجديد التصورات البالية. بيْدَ أن المطروح كامنٌ في كون الإنسان تحوّل إلى مملوك، يأتمر بأمرها وينهج نهجها، فالعبودية غدت ميزة علاقة الإنسان بهذه الثورة التكنولوجية، وهي عبودية سالبة للعمق الروحي والجسدي، ولإنسانيته ودوره في الحفاظ على التوازن.
نشير إلى أن العولمة من بين العوامل المؤدية إلى انتشار التقنية، لأن اللاعبين الدوليين وتحديدًا الدول العظمى، وفي إطار الصراع حول المواقع، هاجسهم الأول والأخير يتجلى في سياسة التحكّم، وانتهاج مسالك لاإنسانية للهيمنة على الدول المتخلفة باحتلال جديد إنه الاحتلال الرقمي.

واقع جديد
في الختام، إن ما ينتظر الإنسانية في المستقبل القريب واقع جديد سيطرح العديد من الإشكالات المتعلقة بمصير الإنسان في الوجود والكون، في ظل السباق المحموم نحو ارتياد آفاق تكنولوجية ملتبسة وغامضة ومحيّرة. ويبقى السؤال قائمًا حول: ما المخرج الناجع لإنقاذ البشرية من غول هذه التقنية؟ وهل باستطاعة الإنسان إعادة العقل لقيادة إنسان ما بعد الحداثة؟ ■