هانغتشو مدينة الشاي الأخضر وعاصمة اقتصاد الإنترنت

هانغتشو مدينة الشاي الأخضر  وعاصمة اقتصاد الإنترنت

لأغلب مدن الصين أجساد من الإسمنت إلا هذه المدينة (هانغتشو)، فإن لها جسدًا من الماء والكلوروفيل والشاي الأخضر وألياف الإنترنت، ومنذ الزيارة الأولى لها كان ثمة قرار محسوم اتخذته: لن أكتب عن هانغتشو لمجرد زيارة واحدة أو اثنتين أو حتى ثلاث؛ هذه مدينة متقلبة المناخ ومترعة جدًا بالتاريخ وبالحاضر، وأقرب مدن العالم إلى المستقبل. هانغتشو، أو هانزو، كما ينطقها الصينيون، أو إن شئتم «الخنساء» كما أسماها ابن بطوطة في مخطوطته (الوصول إلى مدينة الخنساء)، التي وصفها بأنها أكبر مدينة رآها على وجه الأرض.

 

هانغتشو هي حاضرة الطبيعة والسياسة والرياضة وعاصمة اقتصاد الإنترنت في شرق الكرة الأرضية؛ لكل هذه الأشياء وأكثر وجب الانغماس فيها في الصيف وفي الشتاء، في الربيع وفي الخريف، في صباحاتها والمساءات وفي تفاصيلها الصغيرة وأحداثها الكبرى.
لا أعلم إن كان هناك استطلاع عن مدينة قد لزمه سبع زيارات طويلة على مدى عام كامل، لكن هانغتشو اقتضت مني ذلك؛ إذ لا تاريخها ولا حاضرها ولا بوادر مستقبلها يمكن الإحاطة بها عبر زيارة أو اثنتين. 

هانغتشو ابنة البحيرة الغربية 
حتى وأنت مثل كائن صباحي يفي بوعده مع الشروق غالبًا إلا أن هانغتشو بحشودها المتقوسة على محيط البحيرة الغربية تشعرك بأنك آخر المستيقظين؛ ففي الخامسة صباحًا تستيقظ المدينة ويتسارع البشر هنا من مختلف الأعمار إلى أطراف البحيرة، تشعرك عجلتهم هذه وكأنهم جاءوا لكي يطمئنوا أن الأرض قد دارت بالشكل الصحيح الذي يمكّن الشمس من رش ضيائها على سطح بحيرتهم المقدسة، وعند الغروب تعود المدينة بحشودها لتراقب هذه المساحة المائية وهي تخبئ لهم الشمس حتى الغد، عملية مراقبة هذا الطقس اليومي جعلتني أشعر بأن هانغتشو تمارس هذه الشعائر لسببين:
الأول: طواف عرفان بفضل هذه البحيرة على المدينة «فما كان لنا أن نرى هانزو لو لم تكن الشيخو رابضة هناك»، هكذا يخبرنا الأستاذ (يونج جياو) أستاذ تاريخ الفن بالأكاديمية الصينية للفنون الجميلة بهانغتشو، عندما طلبنا منه أن يستعرض لنا باختصار تاريخ ومنبت المدينة، وهانزو كما ينطقها الصينيون هي مدينة هانغتشو، أما الشيخو فيقصد بها البحيرة الغربية، وعلى الطريقة الصينية في الشرح والتوضيح يضيف: 
«البحيرة الغربية هي الأم وهانزو المدينة هي الابنة، وقد تتفوق الابنة على الأم في الطول أو الوزن، لكن تبقى الأم هي الأم والابنة هي الابنة»، وهو بشرحه هذا أرادنا ألا نتساءل كيف لهذه المساحة المائية التي لا تتجاوز مساحتها 6.5 كيلومترات مربعة أن تكون أمًا لمدينة عملاقة تتجاوز مساحتها حاليًا 17300 كيلومتر مربع ويعيش بها أكثر من 6 ملايين وثمانمئة ألف نسمة، وتمثل عاصمة لمقاطعة جيجيانغ، إحدى أهم المقاطعات الصينية وأنشطها. 
أما السبب الثاني لهذا الطقس اليومي، فهو أن الجميع يطوف هنا في الصباح والمساء طواف انبهار بجمال طبيعي أخاذ وتنوع نباتي وحيواني يجعل من هذا المكان مستحقًا لما قيل فيه من قبل وما سيقال عنه لاحقًا، وما أكثر الهانزويون (سكان هانزو) الذين يكررون على مسمعك قولًا صينيًا مستهلكًا، نصه:
«في السماء يوجد جنة، وجنة الأرض هانغتشو»، ومن هذا القول سرق شاعر شهير معناه ليعيد كتابته في بيت شعري جميل: 
«يا إلهي إن كان من نصيبي أن يكون لي جنة في الآخرة فلتكن مثل هذه».
هذا الفردوس يعتلي قائمة المناظر الطبيعية العشرة الأكثر شهرة في الصين، ويدهشك هنا المزيج اللذيذ من التاريخ العريق والأجواء الثقافية والانسجام المثالي بين الإنسان والطبيعة.
في اليوم الأول لنا في هانغتشو أدينا طواف القدوم حول البحيرة، وتبادلنا نظرات الرضا ونحن نستعرض في نهاية اليوم عبر تطبيق المشي، على أجهزتنا المحمولة، أننا قطعنا 15 كيلومترًا مشيًا على الأقدام، إذًا فمحيط البحيرة يقترب من هذا الرقم، 15 كيلومترًا تكتشف على منحناها كيف أن للحواس كلها شهوات تستيقظ هنا كما لا تفعل في أي مكان آخر، للعين هنا شهوتها في حبس كل هذا الضوء ليبقى للأبد في قعر الذاكرة، وللأذن شبقها في ادخار كل هذا النغم الطبيعي الأنيق. 

صناعة الاقتصاد الجديد 
إن كنت قد ابتعت شيئًا عبر منصات التجارة الإلكترونية فاعلم أن هانغتشو كانت أول مدينة صينية تنشئ منصة رسمية للتجارة الإلكترونية، واعلم أيضًا أنها مدينة عملاق التجارة الإلكترونية (ALI BABA)، ومسقط رأس الميلياردير الأشهر (جاك ما)؛ لذا فهي وحتى هذه اللحظة، وحسب مجلة فوربس، أكثر مدن العالم جذبًا لرواد الأعمال والمستثمرين في قطاعات صناعة الإنترنت. وفي التقرير الذي أصدرته الأكاديمية الصينية لدراسات الفضاء السيبراني بتاريخ 7 نوفمبر 2022 بعنوان «تقرير تنمية الإنترنت في الصين»، سجل الاقتصاد الرقمي الصيني 45.5 تريليون يوان (6.3 تريليونات دولار أمريكي) في العام 2021، وكانت هانغتشو ضمن أوائل المدن الصينية التي أسهمت في هذا الاقتصاد الهائل، ويشير ذات التقرير إلى أن الاقتصاد الرقمي في هانغتشو ينمو بمعدل يتجاوز 9.7 في المئة، هذا النمو المطرد وحسب مسؤول الملف الاقتصادي في صحيفة الشعب الصينية السيد/ سوى كاي فانغ «يعود الفضل فيه إلى التطور النشط للبنية التحتية للمعلومات والتحسين المستمر لقدرات الابتكار التكنولوجي، ففي الوقت الحاضر قامت الصين ببناء أكبر شبكة اتصالات للألياف البصرية والهواتف المحمولة في العالم أجمع، حيث محطات الجيل الخامس قد غطت جميع مدن البلاد و95 في المئة من المحافظات و35 في المئة من البلدات، كما تم حل مشكلة الاتصالات في الأرياف بشكل نهائي». 
وبتتبعنا لمسار هذا الاقتصاد في هذه المدينة النموذج رأينا كم الإنجازات التكنولوجية في الحوسبة الكمية والرقائق المتطورة وأجهزة الكمبيوتر والروبوتات والتصنيع الذكي، ولاحظنا في مسؤولي هذه المدينة حسهم المستقبلي الذي لمسناه ضمن مسودة الخطة الخمسية الرابعة عشرة ورؤية 2035 حيث تتضمن هذ المسودة هذا النص: «ضرورة إنشاء مزايا جديدة للاقتصاد الرقمي»، وتحت هذا النص المختصر فقرات تتضمن الكثير من الحوافز والإعفاءات والدعم والتدريب للمواهب والقدرات ورواد الأعمال المشتغلين في الذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء، وفي هانغتشو رأينا كم المؤسسات التعليمية المختصة في الاقتصاد الجديد، فجامعة جيجانغ للتكنولوجيا وجامعة هانغتشو للإلكترونيات ومعهد جيجيانغ للعلوم والتكنولوجيا وجامعة الاقتصاد، كل هذه مدن تعليمية عملاقة تعمل كمعمل تفريخ لتكنولوجيا وتقنية تسابق الضوء. 
وفي هانغتشو وحدها تتصالح جدًا مع ثنائية التطور المذهل الذي ينقلك للعيش على حواف المستقبل مع التاريخ العريق بكل ثقافاته وأبعاده، بل يتجاوز الأمر لديك فكرة التصالح مع هذه الثنائية إلى الاعتقاد بأن كلاً منهما تخدم الأخرى وتثريها، يا لهذه المفارقة الجميلة التي تستحق التوثيق. 
أنا الآن في واحدٍ من أقدم الأحياء التي عُمِّرت في هانغتشو، وتحديدًا في المكان الذي وصفه ماركوبولو بأنه نزل فيه؛ لذا أقيم في الفندق القديم المسمى باسمه والذي ينتصب في بهوه تمثال كبير من البرونز لهذا الرحالة الشهير الذي يعتبر أول غربي يكتب عن ثقافة الشرق، هذا الفندق الذي يحرص على أن يضفي على نزلائه شيئًا من التاريخ ولمسة من الماضي يستجيب لطلباتي، فيه روبوتات فائقة الحداثة تحدثني وتصعد بالوجبات والطلبات إلى باب غرفتي وتقرع جرسها وتناولني ما طلبته! ثنائية أتصالح معها وأتفاءل بها جدًا وأقرأ في كتاب ماركو بولو لأن هذا الفندق يهب لكل زائر نسخة من كتاب ماركو.
لا أخفيك يا ماركو بولو أنني لم أستمتع بكتابك كثيرًا ولم أتخذه مصدرًا، فمع الأسف ومنذ سنوات قليلة مضت لم تعد قراءاتي لأدب الرحلات ولغيرها من الكتب ممتعة كما كانت، فقد طغى علي المنهج البحثي حتى أفقدني الاستمتاع بكتابك هذا، أقرأ لك نصًا تصف فيه كيف أن التماسيح هنا لا تهاجم نوعًا محددًا من البشر، فأقول هذا لم يكن منهجيًا فقد كان مجرد هاوٍ للغرائبيات، وأصل إلى نهاية كتابك دون أن أجد أي إشارة للكثير من أسس الحياة اليومية في الصين في ذلك العصر الذي قدمت فيه (1260-1270)، حتى أنني لم أجد أي إشارة إلى الأكل بالعصي، هذا التقليد الصيني الضارب في القدم، فأقول في نفسي: هل فعلًا قدم ماركو إلى هذه البلاد؟!
هذه المدينة المثقلة بالتاريخ والقريبة جدًا من المستقبل لا تنسى حاضرها أبدًا، هذا الحاضر أيضًا مكتظ بالثقل السياسي والرياضي والتكنولوجي، فما زلت أتذكر جيدًا طقوس هانغتشو وحدة إجراءات حكومتها قبيل انعقاد قمة العشرين التي استضافتها هانغتشو في سبتمبر من العام 2016م، وها هي هانغتشو الآن تستعد لاستضافة الألعاب الأولمبية الآسيوية في الفترة من 23 سبتمبر إلى 8 أكتوبر 2023، بعد أن تأجلت عن موعدها في العام المنصرم بسبب تأثيرات جائحة كوفيد-19. 

الشاي الأخضر... عشبة الصينيين الأثيرة 
لتعديل المزاج وللعلاج ولإكرام الضيف ولأشياء أخرى، يستخدم الصينيون الشاي الأخضر، وفي الحياة اليومية للصينيين لا شيء أكثر استهلاكًا من الشاي الأخضر والأرز الأبيض، وفي السنوات الثلاث الأخيرة يضاف لهذا الثنائي الكمامات (القناع الطبي)، كل البيوت الصينية والمؤسسات الصغيرة والكبيرة تستهلك الشاي الأخضر، لكن ليس كل البلاد تزرعه، ومن بين كل مناطق زراعته لا منطقة تنافس في جودة شايها جودة وشهرة شاي هانغتشو، وفي هانغتشو ذاتها لا شاي أشهر ولا أغلى ثمنًا من شاي قرية لونغ جينغ.
في أعلى قصر باغوداس التاريخي شربنا كوبين من شاي لونغ جينغ ونحن نطل على الضفة الشمالية لنهر كيانتانغ، ولأن مصدر هذا المشروب على بعد أقل من 10 كيلومترات فقط من موقعنا الحالي الذي يعد معلمًا تاريخيًا بني في العام 969م، وبقي منارة ومعبدًا وتعرض للدمار وإعادة البناء مرات عدة، هذه المسافة القصيرة جعلت وجهتنا التالية هي قرية لونغ جينغ، وفي طريقنا إليها اخترنا المسار الراجل الذي يمنعنا من التنقل على السيارة، لكنه يتيح لنا تسلق هذه المدرجات الهرمية المحشوة بهذه النبتة الأثيرة، نحن في النصف الثاني من النهار وانعكاسات الغروب على أوراق النبتة تمنحها لونًا ذهبيًا خفيفًا يومض على خضرة أوراق الشاي، أدخلُ واحدًا من هذه المدرجات لألقي التحية على هذه الفلاحة الصينية التي تقطف الآن شايًا طازجًا وأعرضُ عليها خدماتي في معاونتها في القطف فترحب، لكن هيئتها في الموافقة تبدو كما لو أنني قد وضعتها أمام الأمر الواقع ليس إلا، قلتُ لها كلامًا أضحكها فقدِمت لإرشادي لطريقة القطف الصحيحة، أسألها أسئلة مفتوحة لأحصل على معلومات أو عبارات أو شيء يثري معرفتي بهذه النبتة، وهذه المنطقة الشهيرة جدًا، لكن إجاباتها مقتضبة، حتى أن عدد كلمات إجاباتها أقل كثيرًا من عدد كلمات أسئلتي! أدركُ أنها تريد أن توصِل لي أنها الآن مهتمة بمهمتها في قطف الشاي أكثر من اهتمامها بالإجابة عن فضول هذا الزائر كثير الأسئلة، أحييها وألتقط صورة معها وأواصل المسير إلى قلب القرية، وهناك في وسط قرية لونغ جينغ وفي سوقها المتعرج وسط مزارع الشاي يحصل زائرها على عرضٍ عملي مباشر لكل ما يتطلبه من معرفة عملية حول الشاي الأخضر، طقوسه كلها هنا، بدءًا من قطفه مرورًا بتحميصه وتعليبه إلى آلية تجهيزه واحتسائه، أدوات تجهيزه مميزة أيضًا وعليك ألا تنسَ هذه المعلومة: 
«أول ماء حار مضاف لإبريق الشاي الأخضر لا تشربه بل ادلقه على الأرض؛ فالمرة الأولى لغسل الشاي لا لشربه، ثم استمتع جدًا باحتساء المرة الثانية والثالثة». 
هذه قاعدة ذهبية لم أعرفها إلا هنا، والآن فقط عرفت سبب تلك الحموضة التي كنت أشتكي منها بعد شرب الشاي الأخضر.
هذه الخبرة العملية المباشرة ما كانت لتكتمل لو لم نزر المتحف الوطني الصيني للشاي، هذه المؤسسة التي تشير إلى مدى اعتبار الصينيين للشاي بأنه سلعة مقدسة ومنتج قومي، وككل متاحف الصين التي أدمجت بها التقنية لتخدم أهداف المتحف رأينا كيف يمكن لمؤسسة مثل هذه أن تعمل كمكان توثيقي وتعليمي وتعريفي بما تعرضه وتحويه. زيارتنا لهذا المتحف أضافت لنا ثقافة منهجية وعلمية مرتبة عن تاريخ وحاضر الشاي، وأنواعه ونسبه وأماكن زراعته، برشاقة تنقلنا أقسام هذا المتحف بين الماضي والحاضر وتعبر بنا عبر بياناتها وطرق عرضها لنستشرف مستقبل هذه العشبة.

بيت الحرير والقناة الكبرى والخداع الاستراتيجي 
على امتداد هذه المدينة التي تظهر أولى الحفريات أن حضارة هيمودو قد سكنت هذه المنطقة منذ أكثر من 6800 عام، مرورًا بالعصور الوسطى التي شهدت نهضة هانغتشو بعد أن تولى الشاعر والمهندس باي جوي حكم المدينة في عهد أسرة تانغ (618-907)، وحتى غزاها الجوشن ومن بعدهم المغول ثم اليابانيون، ووصولًا إلى التاريخ الحديث والمعاصر بقيت هانغتشو مدينة مقاومة مع كل غزو ومدينة ثورة مع كل طغيان، وبقيت في كل الأزمنة مركزًا اقتصاديًا ومحطة مركزية في مسار طريق الحرير القديم، وإذا كانت الصين قد عرفت عالميًا بأنها بلاد الحرير، فإن واحدًا من أكثر أسماء هانغتشو شهرة هو «بيت الحرير»، فمنذ 4700 عام وهذه المدينة مصدرةً للحرير والشاي والخزف، مكنها موقعها على بحر الصين الشرقي من أن تجعل من نفسها محورًا تجاريًا ومرفئًا بقي محتفظًا بصفة «أكبر موانئ الصين» طوال فترة حكم الممالك الثلاث (220-280)م، وككل المدن الكوزموبوليتانية أسهم تدفق التجار والمسافرين والمهاجرين إليها في جعلها مركزًا ثقافيًا وفنيًا كبيرًا. 
ولأنها بيت الحرير فإن هانغتشو تحتضن أيضًا المتحف الوطني للحرير، وفي زيارتنا لهذا المتحف أتفحصُ ما هو مكتوب ومترجم في وثيقة تاريخية تقول ترجمتها المصاحبة إن أقدم قطعة حرير اكتشفت هنا يعود تاريخها إلى العام 2570 قبل الميلاد، أي أن الصين كانت قد عرفت دودة القز ومهنتها قبل هذه الفترة، إلا أن سر هذا الاكتشاف لم يغادر الأراضي الصينية إلا بعد أكثر من 2000 عام! يرى الزوار هذه الوثيقة ورقة تحوي معلومة بينما أراها أنا علامة استفهام كبيرة، أي مجتمع هذا الذي لا يغادره السر طوال أكثر من 2000 عام؟! وأي خداعٍ استراتيجي هذا الذي استخدمه الصينيون ليوهموا البلدان الأخرى أن مصدر الحرير نباتي وأنهم يستخرجونه من أوراق أشجارهم ولحائها؟ أكثر من 2000 عام والصينيون يغرقون أسواق الأرض كلها بمنتجهم باهظ الثمن هذا، إلا أنه لا أحد تمكن من معرفة سر إنتاجه إلا بعد أكثر من 20 قرنًا حينما تمكن الكوريون واليابانيون وبعدهم الهنود من اكتشاف سر دودة القز، دودة القز أيها الصينيون كلمة السر وشفرة أعظم وأطول عمليات الخداع الاستراتيجي في التاريخ. 
في هذا المتحف أيضًا نرى الفكر الديناميكي المبكر للصيني وهو يصنع معدات نسج الحرير وتحويله لملابس خفيفة ومتينة أتخمت خزائنه بذهب الأرض وفضتها. 
ولم تكن هانغتشو في كل عصورها مصدرًا للكماليات وحسب، بل شكلت واحدًا من أهم مراكز تصدير الحبوب، ولنقل هذه الحبوب تم البدء في شق أول وأكبر نهر صناعي أنجزته الأيادي البشرية «القناة الكبرى»، أو ما يعرف حاليًا بـ قناة «هانغتشو - بكين»، هذا الشريان الذي يمتد لأكثر من 1776 كيلومترًا (طولها يساوي 9 أضعاف طول قناة السويس) ممتد من البحيرة الغربية وصولًا إلى العاصمة بكين، رابطًا بين النهر الأصفر ونهر اليانغتسي، ومعجزة هذا المجرى الصناعي ليست في ضخامته وحسب، بل في الفكرة العبقرية التي ابتكرها المسؤول الحكومي الصيني تشياو وي يو، الذي أسماها «الهويس»، وهي فكرة فيزيائية عملية يتم التمكن بواسطة تطبيقها من نقل السفن والبواخر بين مستويين مختلفين من المياه دون أن تنقلب هذه القطع الملاحية أو تغرق أو تتضرر، وفكرة الهويس قائمة على التدرج في تغيير منسوب المياه عبر مجموعة متتالية من البوابات تفتح وتغلق، بحيث تصنع مصاعد متتالية يصنعها التيار المائي المار وتُحمَل فيها القطع الملاحية بأمان تام، كما لو أنها محمولة على مصاعد كهربائية آمنة وسريعة، وأثناء رحلتنا جوًا من شاندونغ إلى هانغتشو وقبيل الهبوط أطللنا على هذا المجرى المائي العظيم، ورأينا العديد من السفن والقوارب تؤدي وظيفة نقل البضائع لتشهد على عظمة الإرادة الجماعية حينما يتم توظيفها بشكل صحيح. 

مدينة راقصة 
في الحي القديم من هانغتشو وتحديدًا في شارع تشينغهفانغ تستقبلك جداول الماء تلك التي تشبه الموجودة في البندقية، إلا أنها هنا في هانغتشو أكثر نظافة وأناقة وتحيط بك تماثيل ومجسمات لأرانب بأشكال وأحجام مختلفة، فهذا العام وحسب الأبراج الصينية هو عام الأرنب، وكنا للتو في 2022 قد أنهينا عام النمر، وقبله عام الثور، ولكل برج أسطورته ومتسلسلة حكاياته، لكن كل شيء في هذه البلاد يتحول إلى اقتصاد، الأساطير والأبراج والحكايات تتحول إلى منتجات وحركة بيع وشراء. في هذه الليلة القمرية الصافية والباردة نعبر أزقة البيوت القديمة، وعلى أبوابها ونوافذها الموصدة نرى النباتات تمارس هوايتها في التسلق. 
في نهاية هذا الحي ينتصب مسجد هوي هوي أو ما بات يعرف بمسجد العنقاء وهو بناء أثري يعود تأسيسه إلى العام 1203 في عهد أسرة تسونغ، وتمت توسعته وإدراجه ضمن قائمة الآثار المحمية في مقاطعة جيجيانغ عام 1961م، وبالرغم من تطور هذه المدينة وضخامة بنيتها التحتية من المطارات ومترو الأنفاق ومحطات القطارات فائقة السرعة، إلا أن كآبة المدن الكبرى لم تتسلل لها، تؤمن أن من مهام هذه المدينة استزراع الضحكات على الوجوه، فالجميع هنا يسير مبتسمًا مشبعًا بالدهشة. 
الشوارع متاحف مفتوحة، ففي كل ركن تمثال وعلى كل جدار معرض، والرقص في كل مكان، على البحيرة يرقصون وفي الساحات العامة، في الصباح وفي المساء، حتى في مطاعم المدينة ومقاهيها، دخلنا لتناول وجبة العشاء في أحد مطاعم هانغتشو فشاهدنا مع الوجبة عروضًا لرقصات من مناطق الصين المختلفة، باختصار هذه مدينة إن زرتها فستظل شمس بحيرتها تشرق في ذاكرتك كلما استيقظت باكرًا، والموسيقى التي سمعتها هنا لن تغادر مركز السماع في دماغك بسهولة، والوجبة التي تتناولها في أسواقها الشعبية تجعلك تلف لسانك حول شفتيك كلما تذكرتها. 
ننهي الزيارة الأخيرة لهانغتشو وقد اجتاحتنا طاقة محبة هائلة واستيقظ داخلنا شغف يلح علينا أن نودعها بلمس كل أشجارها وتحية كل تماثيلها ومضاحكة كل هذه السناجب المتقافزة على أشجار بحيرتها، ذاكرتي مكتظة جدًا يا هانغتشو بالمتاحف والجامعات وبالمكتبات وبالنهر، وبقاعات الشطرنج وكليات التكنولوجيا وبالحانات وبالمعابد وبالشاي الأخضر وبطعم آل سوان يي تساي ■

أقواس هانغتشو وجسورها الصغيرة تظهر عليها متلازمة الإبداع الهندسي والفني الذي يسم البناء المعماري الصيني 

يعود تاريخ إنشاء الجسور على البحيرة إلى عهد باي جوي مهندس أول جسر على البحيرة وعمدة المدينة

حارسًا لهانغتشو يقف هنا البطل القومي يوفاي، الذي ولد في العام 1103 وقتل في العام 1142م

في رحلتنا جوًا من هانغتشو إلى بكين رأينا المسار الطويل الذي تسلكه القناة الكبرى التي تعتبر أكبر نهر صناعي أنجزه الإنسان

قديمًا وحديثًا، هانغتشو مدينة الحرير وصناعاته

معدات نسج الحرير قديماً

فن الرسم على الحرير يضفي عليه جمالًا إضافيًا

في كل متاحف الصين يبهرنا اتحاد التقنية والتاريخ

من مقتنيات متحف طريق الحرير

مسجد فينيكس في مدينة هانغتشو، أحد أكبر أربعة مساجد في الصين

2023 هو عام الأرنب وفق التقويم والأبراج الصينية، لهذا السبب ستجد الأرنب في كل مكان في الأسواق

الحي الباريسي في هانغتشو محاكاة كاملة للشانزاليزيه مع برج مطابق لبرج إيفل الأصلي

الموسيقى التي ستسمعها هنا لن تغادر مركز السماع في دماغك بسهولة، ستبقى تتذكرها كلما ذكرت هانغتشو

مزارع الشاي في هانغتشو ثروة قومية ومناطق جذب سياحية

بطريقة علمية وبتصنيف يسهل للباحثين فهمه تصطف هذه الأنواع من عينات الشاي في متحف هانغتشو للشاي الأخضر

كاتب السطور يشارك فلاحة من هانغتشو قطف الشاي الأخضر الشهير