خلال حوار أجري معه قبل رحيله بأيام الشاعر محمد علي شمس الدين: القصيدة تأخذني إلى الأسئلة الوجودية الكبرى

خلال حوار أجري معه قبل رحيله بأيام الشاعر محمد علي شمس الدين: القصيدة تأخذني إلى الأسئلة الوجودية الكبرى

الشاعر محمد علي شمس الدين قامة شعرية لها ملامحها وحضورها في الساحة الشعرية المحلية والعربية، حاز على العديد من الجوائز من ضمنها جائزة العويس الشعرية الإماراتية، وتمت ترجمة العديد من مجموعاته الشعرية إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية... نذكر من هذه الإصدارات: «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» و«الشوكة البنفسجية» و«منازل النرد» و«ممالك عالية» و«رياح حجرية» و«غرباء في مكانهم» و«شيرازيات»... والعديد من المجموعات الشعرية الأخرى. التقيناه لنتعرف منه عن هموم القصيدة ورؤيته لحالها وهي تعايش العديد من قضايانا الراهنة.

 

● تطالعنا سيرتك الشعرية بكتابتك المبكرة للقصيدة، بِمَ أخذك الشعر دون غيره حتى مضيت إليه مبكرًا؟
- أول ما أخذني الشعر في أيام الصبا إلى مشاهد وأصوات في الريف الجنوبي حيث ولدت في قرية عالية (بيت ياحون)، هذه المشاهد في مراياها فصول الطبيعة ومشاهد غروب الشمس وطلوع الفجر، وما كان يدخل سمعي من أصوات مبكرة وأوراد جدي الشيخ وبكائياته في الشعر وأيام عاشوراء، كل ذلك أشاع في نفسي الحزن ورغبة في التعبير عنه، وبدأت بكتابة بعض الجمل والعبر والأمثال، وكتبت مرثية لصديقي الذي مات وهو صبي في سن الطفولة، ذكرت فيها أنه غاب ثم ولد وساعدتني مطالعاتي المبكرة لكتب تراثية وحديثة، مثل ديوان الشريف الرضي، وكتب الجاحظ، والغريب لألبير كامو، على تكوين مواد شعرية مبكرة، ولا أنسى شاعر المعرة أبوالعلاء الذي شكل حافزًا قويًا لكتابة الشعر.

مساحات الصمت
● بعد إصداراتك الشعرية المتعددة، ما الذي بقي يؤرق قصيدتك حتى اليوم؟
- بعد ثلاث وعشرين مجموعة شعرية بقي يحرضني سؤال حول الوجود والغيب... لماذا وكيف ومن أين وإلى أين؟ أنا شاعر أسئلة ميتافيزيقية، وهي أسئلة تذهب بعيدًا إلى ما وراء الظواهر، كما أنني شاعر انخطاف صوفي، وهي أحوال تصبح فيها العبارة صعبة، وأحيانًا مستحيلة، لذلك تبقى لي مساحات شاسعة من الصمت.  

أقنعة متعددة
● بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الشعرية مضيت إلى واقع خالفت فيه مدونتنا الثقافية حين جعلت القصيدة تقول: «لا قيس أحب... ولا ليلى عرفت وجهًا للمجنون» بِمَ تعلل ذلك؟
- أعلل ذلك بالاحتمالات... وهو علم معاصر تقوم عليه الفيزياء الحديثة والرياضيات... ويقوم عليه الشعر برأيي، فالشعر هو احتمالات اللغة في تركيبها واحتمالات الخيال في افتراضاته وشطحه... وحيث إنني رجل تاريخ وفلسفة فإن الأقنعة التي أستعيرها أقنعة متعددة وتخضع للاحتمالات، فقد استخدمت «ليلى» كقناع في عدة قصائد «ليلى بلا نار» و«وجه لليلى»، و«وجه لأمي» و«ليلى في العراق»، وهي وجوه متباينة لاسم واحد، مثلًا «لا قيس أحب ولا ليلى، عرفت وجهًا للمجنون» هذا وجه... أيضًا: «فمن أنت هل كنت وجهًا لأمي» وهو وجه آخر… كذلك «والذي حير العقل حتى يراه الجنون/ إن ليلى التي مت في حبها ألف عام تخون» وهكذا. 
● في قصيدة لك تقول مخاطبًا الأنثى: «أنحني ألف عام لأصغي إليكِ» إلى أي أنثى يصغي الشاعر، إلى أنثى الواقع أم الأنثى التي ترسم ملامحها القصيدة؟!
- «أنحني ألف عام لأصغي إليك»، فيها حركة تشكيلية سريالية... والمرأة الحبيبة دائمًا تتجه في القصيدة وتأخذ أبعادها الرمزية والواقعية من الواقع وصولًا إلى الأسطورة، والسبب أن القصيدة عندي لا يمليها عليّ وصف الواقع بل هاجس المخيلة الذي يمضي إلى الضفة الأخرى.

علاقة معقدة
● ما تقوله سيقودنا إلى سؤالك عن علاقة الشاعر بمجتمعه وبقضاياه على اختلافها؟
- هي علاقة معقدة، فالشاعر يعيش في المجتمع وخارجه في آن، فهو ملزم بأن يضع بينه وبين المجتمع مسافة للتأمل والدخول إلى داخل الذات، وكثير من الشعراء عبروا عن هذه الوحدة أو الغربة التي يعيشونها، فالمتنبي مثلًا ذكر بأنه مثلث الغربة، ويقول الشاعر عباس بيضون: أعيش محاطًا بجميع هؤلاء الذين يشعرونني بالوحدة... كما أن التعبير عن الهم الاجتماعي أو الفردي يأخذ مسلك الرمز والخيال، وحين تتدخل اللغة في صنع الشعر تأخذ الأقنعة دورها عليه، وذلك في وضع مسافة بين الواقع كما هو كائن، وبين القصيدة التي تمضي به إلى ما يجب عليه أن يكون.
● بعد أن أمضيت عمرًا في قراءة وكتابة الشعر، كيف ترى حال القصيدة العربية اليوم؟ 
- أرى حال القصيدة العربية اليوم هو التشظي والهشاشة والحيرة أمام أشكال التعبير المتعددة والمختلفة.

الجيل الجديد
● هل سبب هذه الهشاشة الشعرية وحالة التشظي فيها تعود إلى علاقة الأجيال الشعرية ببعضها؟ وهذه العلاقة كيف تراها هل هي ندية أم تفاعلية تكمل بعضها بعضًا؟
- ثمة أجيال شعرية متعاقبة والعلاقة بينها علاقة مركبة تنطوي على الرفض والتكامل، ومن الطبيعي أن يكون أبناؤنا أبناء زمنهم وبالتالي يختلفون عنا، والعلاقة بيننا وبينهم ليست علاقة اغتيال بمعنى أن الجيل الجديد يقف وراء القديم حاملًا خناجره للطعن والإلغاء ففي كل جيل جينات جميع من سبقوه وبهذا يصبح في الشعر تحولات جديدة لأحوال قديمة لا اغتيالًا للأولين فيها ولا للسابقين... وهي مسألة أُثيرت في الغرب في نهاية القرن التاسع عشر خلال ظهور الحداثة، فقد كتب فيكتور هوغو وكان في ذروة الشعر الكلاسيكي يبدي أسفه على النظم الجميل من جماعة النثر كما أن المسرحي السريالي أوجين يو نيسكو كتب هوغوليات في هجاء هوغو، وكتب الشاعر الروسي ماياكوفسكي عن الرومانسية إنها ساق ميتة لا حاجة لها في جسد حي، وفيما بعد تبين أنه لا شيء يموت ولا شيء يولد من عدم وكل شيء في تحول.

الحداثة والنقصان
● في ضوء ما ذكرت ما هي الحداثة من منظورك أنت؟
- في تقديري أن الحداثة هي نتيجة الشعور الدائم بالنقصان، وأن الفن هو شروع دائم لا يكتمل، بل هو استئناف دائم للبدء كما يقول وضاح شرارة... والحداثة كما عرفها الغرب كانت نتيجة تحولات اقتصادية وعمرانية وفكرية كثيرة من تصنيع ومدن جديدة وأفكار ليبرالية وديمقراطية عصفت بالجماعات وانعكست على الفنون وعلى الأفكار والمدن والشوارع في وقت واحد. لذلك رافق بول ايلوار وأراغون وأندريه برايتون في الشعر والسريالية فلسفة ونقاد من أمثال رولان بارت، وكذلك ما بعد الحداثة شهدت فوكو وداريدا من التفكيكيين بعد البنيوية وهكذا تكون الحداثة بحثًا لا يهدأ عن الجديد؛ وكأن الحداثة بنت الشعور بالنقص الدائم.
● كيف ترى متابعة النقد للخطاب الشعري المعاصر في نواحيه الفنية والمضمونية؟
- هناك متابعات أكاديمية ملحوظة للشعر تتفاوت قيمتها بين التقصي المنهجي والفني، فحول تجربتي ما يزيد عن ثلاثين أطروحة جامعية بين ماجستير ودكتوراه تناولت شعري، لم أقرأها جميعها طبعًا... وهناك دراسات متخصصة وأخرى حرة في الشعر العربي المعاصر يمكن عدها على الأصابع... لكن ينقص المصاحبة والمتابعة النقدية الفلسفية للشعر العربي الحديث والمعاصر، وهو شعر غني ومتنوع كما ينقص ابتكار نظريات فكرية مستمدة من حركة هذا الشعر ومحركاته وآفاقه ■