الكاتب المصري سعيد سالم: القصّة محبوبتي والرواية عشقي الأبديّ

الكاتب المصري سعيد سالم: القصّة محبوبتي والرواية عشقي الأبديّ

الكاتب والروائي المصري الكبير سعيد سالم الكتابة لديه تمرينٌ رياضي، وهو يعيش كيمياءَ خلاصين: الحب في الأرضِ، والإيمان في السماء. عرف بهوسه الدائم المتمثل في الكلمات، وعشقهُ الأبديّ للرواية، وهيَ ليس سؤال العالم وحسب، بل الفنّ العابر للأزمان! يكتبُ القصّة القصيرة والرواية، عبرَ نزيفٍ روحيٍّ صحي، ومنطاد سفرهِ كلماتٌ سحرية جاذبة، وافرة الفتنة والدهشة لقارئهِ، الأصعب في السرد أكذوبة النقّاد، إذا ما توافر الحبُّ والإتقان ليس هناك فنّ صعب على المبدع الجاد والمثابر. يؤمن بأن أجملُ ما في الكتابة لديه أنها شهوةٌ سريّة، ونداءُ روحٍ ويقظة ضميرٍ لترتيب فوضى الأشياء، وأن الكتابة - الحُبّ تأكيد الذات الباحثة عن ذاتِها أبدًا.

 

 المبدع سعيد سالم ليسَ في دفتر ذاكرتهِ ما يُسمّى بـ«الواقعية السحريّة»، فقط، هناك «الواقعية المصرية»، وهذا ما يُقرأُ في مفردات سردهِ الجديد والمثير. والإبداعُ هو الحياة، ولا معنى للحياة من دون إبداعٍ وكلمات وخيال، مخلوقات عافها الموت، ضجرًا من قوّةِ نفوذها. يرى الكاتب الكبير أن التوقّف عن الكتابةِ يعني الموت!
لم يكتب سعيد سالم، بلْ الحُبّ هوَ الذي كتبَ جُلَّ أعمالهِ. ولديه لقرّاء مجلة «العربي» الكثير من حديثهِ الدافئ والمسؤول والجديد في السطور التالية:
● تعددتْ فنون الكتابةِ لديك، وهيَ فسيفساء إبداعية، بظلال وألوانٍ جاذبة: رواية، قصّة قصيرة، مسرحية، نقد أدبي، مقالة سيوثقافية... أهوَ غرامٌ بالكتابةِ أم ماذا؟ أينَ أنتَ في هذهِ المغامرة الشاقة الممتعة؟ مَن المحرّض أكثر على أسئلتك الإنسانية؟ وكيفَ كانت أبجدية الإجابة؟
- أنا عشقي الأول هو الرواية لكني أجد نفسى مشدودًا بالفطرة أحيانًا إلى الأشكال الفنية الأخرى وفقًا لمقتضيات الموضوع، فمثلًا هناك مسلسلات درامية كتبتها مباشرة بالعامية للإذاعة والتلفزيون، وهناك مسلسلات أخرى كتبتها بعد تحويل نصوصها الروائية إلى مسامع أو مشاهد حوارية، فلكل شكل مضمون ولكل مضمون شكل ينبغي أن يتناغما وينصهرا معًا. المحرّض الحقيقي لكتاباتي هو مفهومي للفن الذي أعيد به صياغة الوجدان الإنساني وفق رؤيتي بما يحقق للإنسانية سعادة قوامها توازن هادئ مستقر بين الإنسان والكون وخالقهما، ولئن كان خلاصي الأرضي في الحب وخلاصي السماوي في الإيمان، فإن الفن عندي هو الجسر الذي يصل بين الخلاصين.

السرد والإتقان
● بدأتَ بالرواية 1976 قبل القصّة القصيرة 1978، هل خالفتَ التقليد الإبداعي حيث جُلّ الساردين بدأوا أولًا بالقصة القصيرة، ثم انتقلوا إلى الرواية، أو حوّلوا بعض قصصهم القصيرة إلى رواياتٍ... هل لديك تفسير لذلك؟ أمْ إن القصّة القصيرة هي الفنّ الأصعب كما يرى جلّ الكتّاب والنقّاد في العالم أم ماذا؟ حدثني!
- الحقيقة أنني قبل كتابة أولى رواياتي نشرت بعض القصص القصيرة، لكن في جرائد ومجلات غير مشهورة فلم يشعر بها أحد. والفنان المتمكن من أدواته لا يرى أن القصة أصعب من الرواية أو العكس، المهم أن يكتب ما يحبه وما يجيده ويتقنه.
● تقولُ إيزابيل اللندي «القصّة القصيرة مثل السهم، لكَ فيه رمية واحدة فقط، وهذا يتطلبُ منكَ الدقة والسرعة ومعصمًا ثابتًا...»... أما الرواية فهي «أشبه بقطعةٍ كبيرةٍ من نسيجٍ مزركش، حافلة بالتفاصيل، وقدْ تمّ تطريزها بخيوطٍ مختلفة»... ما رأيك في العبارتين؟ أهذا هو الفرق بين القصة القصيرة والرواية؟ كساردٍ أجدتَ الفنين معًا، كيف عشتَ صعوبتهما ولذتهما ومتعتهما؟
- القصة محبوبتي والرواية عشيقتي. والفرق بين الحب والعشق هو الفرق بين الامتداد والاشتداد، فوهج العشق غالبًا ما ينطفئ بعد فترة طالت أم قصرت، أما الحب فهو هادئ مستقر طويل المدى.

الكتابةُ شهوةٌ سريّةٌ
● قُل لي ماذا يعني للكاتبِ أنْ يحكي أو يقصّ؟ وماذا تعني الكتابة الروائية للروائي نفسه؟ هل الكتابة هي كلّ ما لدينا لنفعلهُ؟ هل صحيح إن السارد يكتبُ نفسه... وأن الكاتب هوَ نصّه؟ أزلْ عن ذاكرتي غيمَ هذا الغموض رعاك الله!
- الكتابة عندي هي شهوة سرية تنبعث من داخل الذات وخارج الزمن، ومن دونها تتعاكس ملكاتي وتضطرب نفسي، وأنا لا أحشو حروفي بالأفكار والمعلومات والصيغ، وإنما أملأ روحي وضميري ووجداني بما تشف عنه هذه الأشياء من معان خصبة جليلة تسفر في النهاية عما أريد إبداعه من فن حقيقي هو ذاتي وفي الوقت نفسه موضوعي.

الواقعية المصرية والواقعية السحريّة
● المكان البطلُ الأوحد للسارد والروائي! عرفنا روسيا من خلال تولستوي أو غوغول، وفرنسا من خلال ستندال، وكولومبيا من خلال ماركيز، ومصر من خلال نجيب محفوظ... ما رأيك؟ ما تأثير المكان في سرد سعيد سالم؟ هل يجوز لنا من خلال سردك أن نستبدلَ (الواقعية السحرية) بـ(الواقعية المصرية)؟
- مصطلح جميل هو الواقعية المصرية فعلًا، ولاشك أن تأثير المكان أمر مهم، بحيث يكون المكان أحد أبطال العمل وشخصياته، لا مجرد وعاء شكلي يحوي الأحداث. الإسكندرية كمكان أثرّت فيّ كثيرًا ببداية أعمالي، أما اليوم فهي مدينة عشوائية ولم تعد مكانًا مغريًا كي أدخله في أحداث رواياتي.
● سادَ هذه الأيام المصطلح النقدي الحداثي عبارة «زمن الرواية»... أهوَ زمن الرواية فعلًا؟ أليس كلّ فنٍ من فنون الكتابةِ لهُ زمنه؟ برأيي ليس هناك فنّ يستطيع التنازل عن كرسيهِ الوثير لفنّ آخر؟ أليست مثل هذه المقولات انفعالية وسريعة؟ ماذا تقول؟
- الكثير من القصّاصين والشعراء اتجهوا مؤخرًا إلى الرواية، وقد خيّل إليهم أنها أسهل الأشكال الفنية، لكنهم لم ينجحوا جميعًا، فسيظل للرواية سحرها ودلالها وتمنعها على غير الموهوبين الحقيقيين.

الإبداعُ هوَ الحياة
● رونان ماكدونالد تجرأ على «موت الناقد»... ورولان بارت نظّرَ في «موت المؤلف»، وأباطرة النقد ما بعد الحداثي يرون «القارئ افتراضي»... ونحن المبدعين أيتام الحرية، لدينا الإبداع موازٍ للحياة... والكلمات لا تموت... ماذا تضيف ككاتبٍ كبير؟
- صراحة، أنا أكره هذه المصطلحات ولا أتعامل معها فكل من الكاتب والناقد على قيد الحياة ماداما يقدمان لنا إبداعًا حقيقيًا، والإبداع موازٍ فعلًا للحياة، بل إن الإبداع هو الحياة، أما العلاقة بينه وبين الحرية فذلك موضوع كبير.

حركة نقديّة مشتتة
● سعيد سالم السارد ناقدًا أيضًا! والناقد على شاشة الواقع الثقافي المتهم - البريء والمحكمة في اللامكان... فهو برأي ماكدونالد «بائع ملابس مستعملة، أو مجرّد قاطع تذاكر في حافلة»، وعند الروائية دوريس ليسنج «لم أقابل كاتبًا بعدُ واجهَ ذلكَ المخلوق النادر، الناقد الحقيقي»... والنقد برؤى صموئيل بيكيت أشبه بـ«استئصال للرحم بمجرفة»... لماذا كلّ هذه الحملة الشعواء على النقد والناقد؟ هل لدينا حركة نقدية يمكن أن تقود إلى نظرية نقدية؟ ومَن ناقدك الأمثل مصريًا وعربيًا وعالميًا؟
- حركتنا النقدية مشتّتة وغير ممنهجة وأعظم النقاد في نظري هو الدكتور صلاح فضل. أما الكتابات النقدية التي نشرتها عن أعمال لغيري أحببتها فتعتبر مجرد رؤية انطباعية لا دراسة نقدية أكاديمية.

التوقّف عن الكتابةِ يعني الموت
● دائمًا ما نواجَهُ بالسؤال الدائم: لماذا نكتب؟ وما الجدوى من الكتابة؟ نجيب محفوظ يقول: «أموتُ إذا ما مُنعتُ من الكتابة»، وماريا برجاس يوسا تجدها «المبرر الوحيد للحياة»، وكلاريس ليسبكتور تقول: «لا أعرف أنْ أفعلَ شيئًا غير الكتابة»... ماذا يقول سعيد سالم؟ أهي مجرد لحظة انتصار على الألم والكآبة والزمن والبلادة؟ أمْ ماذا؟
- لقد تبين لي بعد هذا العمر الطويل أن الكتابة الإبداعية هي حياتي الحقيقية التي أمارسها بحب وشغف، بل بشهوة في معظم الأحيان أشبه بالأفعال الغريزية الأخرى كالأكل والنوم وغيرهما، إن لم تتفوق عليها جميعًا في المتعة. إن التوقف عن الكتابة يعني لي الموت... تمامًا كما قال أستاذنا العظيم.

جنونُ الفنّ وحدهُ هو الحاكمُ
● هذه الروائية موريك سبارك تقول: «على الروائي أنْ يقولَ ما يحدث... إنَّ ما أعرفهُ إنَّ الأحداث تحدثُ في ذهني وأسجلها»... الحدثُ هو الواقع، هل كتبتهُ أمْ كتبك؟ وإذا كان الواقعُ خيالًا مركزًا... كيف توائم - وأنت تتقمصُ شخصياتك - بين الواقع والخيال في سردك؟
- تلك المواءمة بين الواقع والخيال هي سرّ الموهبة الكامنة عند المبدع، فضلًا عن أنه لا توجد قاعدة ثابتة لتلك المواءمة، فجنون الفن وحده هو الحاكم في هذه المسألة.

الحُبُّ كتبَ أعمالي
● أكثر من خمسِ وعشرين رواية ابتداء بـ«جلامبو» 1976 وليس انتهاء بـ«الصمت والكلام والمسخرة» 2022... لماذا الرواية؟ أهي سؤال العالم بكليتهِ - كما يراها هرمن بروخ أم صورة وكتاب الحياة - برؤى هنري جيمس؟ أم ماذا؟
- أنا كتبت معظم ما أردت كتابته قصة ورواية ومسرحًا وإذاعة وتلفزيونًا ونقدًا ومقالًا... المهم أنني لم أجبر نفسي على كتابة شيء من هذا لأن الحب هو الذي كتبها.

 وسائل التواصلُ كارثة كبرى 
● ظلّ «جونتر جراس» شهورًا طويلة يبحث عن جملةٍ يبداُ بها روايته الشهيرة «طبل الصفيح»... و«إمبرتو إيكو» كتب روايته «اسم الوردة» في ثماني سنوات، وهناك من الروائيين العالميين يكتب كل عبارة عشرات المرات... وفي أسبوع يكتبُ صفحتين أو ثلاثًا... وهذه الأيام تُكتبُ الرواية خلال أيام قليلة أو سويعات... كيف ترى استسهال الكتابة؟ الرواية اليوم كمٌّ وليست كيفًا... وقد سادت الركاكة والألفاظ المترهلة، واللغة تصرخ وتستجير... مَن وراء ذلك برأيك؟ أهم الناشرون؟ أم هو لقب الروائي الأكثر نفوذًا؟ أم هي الجوائز العربية المتعددة؟
- وسائل التواصل الحديثة هي الكارثة الكبرى التي فتحت باب الكتابة لكل من هب ودب، وبالطبع لا يمكن إنكار جشع الناشرين وانتهازية معظمهم، فضلًا عن تهافت أنصاف الموهوبين على الجوائز ذات السمعة السيئة.

كُلّ أعمالي غرفُ عقلي السريّة
● «لا يُمكن للكاتب إلا أن يكتبَ عن حياتهِ الخاصة» - باولو كويلهو!
«لا نكتبُ شيئًا خارجَ الذات» - مرجريت دوروس!
«أنا نفسي مادة كتابي» - مونتان!
وأنتَ في أعمالك أيضًا... أي عملٍ يمثّل غرفة عقلكَ السرية؟
- كل أعمالي على وجه التقريب تمثل غرفًا عديدة من غرف عقلي السرية والعلنية.
● حينَ قرأ ماريو برجاس يوسا «مائة عام من العزلة» قال: «هذا العملُ من الثراء ليكونَ في مأمنٍ... وهذا هو سرُّ روائع الأدب العظيمة»... أي عملٍ سرديّ عربي أو غربي قرأتهُ، ويُمكن أن تضع على غلافهِ الأخير هذه العبارة؟ ولماذا؟
- رواية ثنائية الكشر للكاتب النوبي حجاج أدول هي الأكثر ثراء فيما قرأت ■