أحمد بوكماخ المعلم الأول

أحمد بوكماخ  المعلم الأول

كثيرة هي الشخصيات التي تركت بصمات لا تنسى في أوطانها، يسجلها لها تاريخ بلدانها بكل فخر وتقدير وإعجاب بما قدموه من خدمات جليلة لمجتمعاتهم، ستظل شاهدة على منجزهم الإنساني والوطني والرمزي، خصوصًا متى ارتبط هذا المنجز في مجال التربية والتعليم، بما له من آثار بالغة على المجتمع ومستقبل أبنائه. 

 

يعتبر الكاتب المغربي الراحل أحمد بوكماخ (ولد بمدينة طنجة مطلع عشرينيات القرن الماضي، وتوفي بباريس سنة 1993)، في هذا الإطار إحدى الشخصيات الوطنية الفذة، التي كانت وستظل يشهد لها بأدوارها الطلائعية والتنويرية الكبيرة في التأسيس التربوي والبيداغوجي والمعرفي لمدرسة مغربية حديثة، إبان الاستقلال وبعده. وإذا كان الفيلسوف اليوناني أرسطو قد اشتهر بلقب «المعلم الأول»، لكونه أحد مؤسسي الفلسفة الغربية، كما برز بكتاباته العديدة في مجالات مختلفة، كالميتافيزيقا، والسياسة، واللغويات، والمنطق، والبلاغة، والموسيقى، وعلم الأحياء، والحيوان، والفيزياء، وغيرها، فإن الكاتب أحمد بوكماخ، بما عرف عنه هو أيضًا، من حضور متعدد، يستحق بدوره، في اعتقادي وبامتياز لقب «المعلم الأول»، وإن كان في سياق وظيفي مغاير، اعتبارًا لإسهاماته وعطاءاته وكتاباته في مجالات مختلفة، أدبية وفلسفية وفكرية ودينية وتاريخية واجتماعية وعلمية، ما يجعل منه المعلم الأول لأجيال عديدة من المتعلمين، ورجال التعليم، والمربين، فقد برز الراحل منذ وقت مبكر كاتبًا شموليا في شتى فروع المعرفة، على الأقل من خلال نصوصه التربوية الشاملة، فمن المعروف أنه على يديه تعلمت أجيال عديدة في المدرسة المغربية، وبمؤلفاته وسلاسله التربوية الرائدة، تعاقب معلمون آخرون على تربية أجيال أخرى، من خريجي مدرسة بوكماخ، كما يفضل الجميع تسميتها، ممن أصبح لمجموعة منهم شأن عظيم ببلدهم، وفي مختلف الميادين، الأكاديمية والسياسية والدبلوماسية والإدارية والعلمية وغيرها.
المعروف عن هذا المعلم الأول أحمد بوكماخ، أنه كان منخرطًا في بداية مسيره الحياتي والنضالي والعلمي،  في ميادين مختلفة، مساهمًا بعطائه الرائد فيها، ففضلًا عن حضوره الوطني والسياسي منذ وقت مبكر، منخرطًا في صفوف الحركة الوطنية، برز كذلك كاتبًا مسرحيًا محملًا برسالة تربوية وطنية، ثم انعطف نحو التأليف المدرسي، الذي برز فيه واشتهر به، وساهم بمؤلفاته المدرسية، وبكل وطنية، في أداء واحدة من أنبل الرسائل التي يمكن للإنسان أن يؤديها، إلى جانب رسالة التحرر الوطني، ألا وهي الرسالة التربوية، فكانت سلسلة «اقرأ»، من تأليفه وإخراجه، والتي وقعها باسمه وبصفة «معلم»، وذلك منذ الجزء الرابع، الذي عرف أيضًا وضع أول مقدمة له، تلاه الجزء الخامس، بما تضمنته المقدمتان معًا من توجيه لشريحة التلاميذ، وحثهم على القراءة بكثرة وحب الكتاب واللغة العربية، فظلت هذه السلسلة شاهدة على مدى المجهود التربوي والتعليمي الوطني الريادي الذي بذله معلم الأجيال، في التأسيس لمدرسة مغربية جديدة، والنهوض بأدوارها التربوية والتعليمية، في وقت كانت فيه المدرسة المغربية إبان الاستقلال وبعيده تجابه فراغًا مهولًا فيما يتعلق بالمنتج التربوي الوطني، إلا ما كان يصلنا وقتئذ من مؤلفات مدرسية أجنبية من المشرق العربي وأوربا، وهو مجهود شخصي مشرف يشهد به لهذا العلَم الكبير، الذي عمل على تطوير مشروعه التربوي الوطني، وإسناده بمؤلفات أخرى موازية للكبار واليافعين وأساتذة التعليم الأساسي، فضلًا عن ترجماته المضيئة والرائدة في وقتها، حيث نجح بذلك مربي الأجيال في تحقيق حلمه، وربح رهانه التربوي الوطني، مثل نجاحه الباهر في صياغة مفهوم رائد في زمانه للمدرسة المغربية، كما فكر فيها المعلم الأول وقتها وارتضاها لأبناء وطنه. 
لقد ظلت تلك السلسلة الشهيرة، التي ألفها أحمد بوكماخ، المسماة «اقرأ»، بأجزائها الخمسة، ترافق أجيالًا تلو أخرى، ممن تربوا في أحضان نصوصها، وتعلموا مقرراتها، فمن منا اليوم في المغرب لا يتذكر بكثير من الانتشاء والفرح والنوستالجيا الدفينة والوفاء المشتهى هذه السلسلة، أو على الأقل عنوانًا من عناوين قصصها المثيرة، أو مقطعًا من نصوصها الجذابة، بلغتها الرشيقة، وأسلوبها المبسط الجميل، ورسوماتها المثيرة لفضول المتعلمين، حيث تمكنت هذه السلسلة من أن تحفر لنفسها مكانًا راسخًا في ذاكرتنا المتجددة، وفي وعينا الجمعي ووجداننا.
 الجدير بالتنويه أن مؤلفات مربي الأجيال المدرسية لم تكن منغلقة على محليتها ومخيالها الوطني بقدر ما يشهد لسلسلة «اقرأ»، على سبيل المثال، بانفتاحها على نصوص ورسومات من ثقافات أخرى، وتحديدا في الجزأين الرابع والخامس من السلسلة، في تفاعل بعض نصوصهما مع الإنتاج الأدبي والثقافي والإنساني العالمي، من الشرق والغرب، وذلك في تناسق تام مع الأهداف البيداغوجية للسلسلة، بمثل انفتاح موضوعاتها ورسوماتها وصورها على كل ما هو حداثي وعصري، في انسجام تام مع المبادئ الوطنية، وفي تمثّل للقيم الإسلامية وإخلاص لها، وأيضًا في احترام تام للشعائر الدينية.
ووفاء لهذا المعلم الرائد، قامت الحكومة وبعض البلديات الترابية بتخليد اسم هذا الكاتب المؤسس، عبر إطلاق اسمه على بعض المؤسسات التعليمية والمراكز الثقافية، خصوصًا في مدينته طنجة، من قبيل مبادرة تسمية مركز ثقافي باسمه  بمدينة طنجة، وإعلان صالون أدبي مغربي عن تنظيم جائزة أدبية تحمل اسم «جائزة أحمد بوكماخ للتلاميذ»، لكنها، مع ذلك، تبقى مبادرات محدودة، لا ترقى إلى ما يستحقه هذا العلَم من اهتمام واعتبار وتقدير ووفاء وتخليد لاسمه، واعتراف بما أسداه لبلده ومجتمعه والأجيال المتلاحقة، من خدمات تربوية جليلة ستظل كافية لتخليد اسمه وجهوده على مدى الأزمنة المتعاقبة، وإن بدت الهوة اليوم كبيرة وتزداد اتساعًا بين مرحلة أحمد بوكماخ وما تلاها من فترات أخرى، ما فتئ تعليمنا يواجه فيها عديدًا من الصعوبات والتراجعات رغم توافر الإمكانيات. 
ختامًا، لنا أن نتساءل مع أجيال عديدة، ممن تعلموا من المعلم أحمد بوكماخ ومن مؤلفاته الرائدة في مجال التعليم والتربية، الشيء الكثير، فكانت تلك المؤلفات كلها نبراسًا لنا جميعًا للتعلم والتحصيل، قبل أن تزحف مؤلفات مدرسية أخرى جديدة فتلغي إرث بوكماخ، الذي ما زلنا نحتفظ به في مكتباتنا الخاصة، ألا يستحق هذا المعلم الأول التفاتة من وزارة التربية الوطنية، أو من غيرها من القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية، من قبيل المبادرة إلى إحداث جائزة تحمل اسم أحمد بوكماخ، تستهدف شرائح تلاميذ التعليم الأولي، وتحفزهم على المطالعة، وتحبب لهم القراءة، على الأقل وفاء لتلك المقدمات التي كان يحرض فيها كاتبنا الراحل التلاميذ على القراءة والتحصيل، فمن شأن هذه الجائزة، مثلًا أن ترد بعض الاعتبار لمربي الأجيال، الراحل بوكماخ، وأن تخفف قليلًا من الغبن الذي طاله في حياته، وحتى بعد رحيله، فضلًا عن أن هذه البادرة متى تحققت فإن من شأنها أيضًا أن تجعل هذا المعلم الأول مخلدا بين أمة «اقرأ» ■