دور أقمار الإنترنت في عسكرة الفضاء حول الأرض

دور أقمار الإنترنت  في عسكرة الفضاء حول الأرض

  في العقود الأخيرة فتحت الثورة التكنولوجية آفاقًا للتعاون والتنافس والاستخبار المتبادل بين الدول الكبرى بشكل غير مسبوق، حتى قيل إن كوكب الأرض في عصر العولمة الأخير بات قرية واحدة! وفي هذه القرية المترابطة بالتكنولوجيا والطرق المفتوحة والساحات المتشابكة بات أي خلل في المصالح وعلاقات التعاون يهدد المنظومة التكنولوجية والإيكولوجية والعلمية كلها!

 

أثمر تعاون الدول الأكثر تقدمًا خلال العقود الأخيرة عن تطورٍ كبير في مجال الأبحاث العلمية في مختلف الاختصاصات والميادين. وقد بات الفضاء المحيط بالأرض يزدحم بآلاف الأقمار الاصطناعية المترابطة دوليًا والتي تتعدد مهماتها من مسح جغرافيا الأرض ومراقبة أعاصيرها المناخية إلى استشراف الكوارث وتحديد المواقع، وتعميم إشارات الراديو والتلفزة في كل أصقاع الكوكب، ومراقبة الشمس وبراكينها ورصد الكون والأجسام الفلكية المقتربة. 
هذا الفضاء المحيط بالأرض لم يكن ليصل إلى هذا المستوى من التعقيد لولا التعاون بين مختلف وكالات الفضاء الدولية، خاصة بين وكالة «ناسا» الأميركية، و«إيسا» الأوربية، و«جاكسا» اليابانية، و«سي.إس.إي» الكندية، إضافة الى الوكالة الفضائية الروسية «روسكوزموس» ROSCOSMOS. أما الصين فبعد أن نسّقت سابقًا مع الاتحاد السوفييتي أخذت منحىً استقلاليًا في جهودها الحديثة لارتياد الفضاء. 
لكن التعاون الدولي في الفضاء بات اليوم مهدّدًا بفعل الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا واضطراب المواقف الدولية بسبب هذا الصراع. هذا التعاون كان قد أثمر رحلات فضائية استكشافية واعدة وبناء المحطة الفضائية الدولية «آي.إس.إس» ISS  التي يتناوب على الإقامة فيها رواد أمريكيون وأوربيون وروس ومن جنسيات أخرى، وباتت تؤهَّـل لاستقبال زوار مدنيين وسواح مقتدرين من شتى الجنسيات... في هذا الفضاء، تهدد حروب الجبارين بوقف التعاون بينهم وضياع المحطة ووقف مهماتها وقتل الأحلام المرسومة لمستقبلها.

ستارلنك... مهمات متعددة 
«ستارلنك» عبارة عن أسطول من أقمار الإنترنت تديرها شركة «سبايس إكس» التي يملكها الثري الأمريكي إلون ماسك. وهي توفر حاليًا تغطية بالإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية لـ 45 دولة حول العالم، وتطمح إلى تقديم خدمة الهاتف المحمول العالمية بعد عام 2023.  
بدأت «سبايس إكس» بإطلاق شبكة أقمار «ستارلنك» عام 2019؛ وفي أواخر عام 2022 باتت تضم أسطولًا من أكثر من 3300 قمرٍ اصطناعي صغير في مدارٍ أرضيّ منخفض (LEO)، تتصل بأجهزة إرسال واستقبال أرضية تابعة. ومن المقرر نشر ما يقرب من 12000 قمرٍ اصطناعي في المرحلة الأولى، لتصل لاحقًا الى 42000 ساتل بحسب تقديرات الشركة، خاصة وقد وصل عدد المشتركين بالإنترنت الفضائية للشركة إلى أكثر من مليون مشترك في أواخر العام 2022، بحسب موقع «سبايس دوت كوم».
قبل ستارلنك، وبدءًا من تسعينيات القرن الماضي، كان العديد من كوكبات الأقمار الاصطناعية الضخمة قد تأسست لأغراض تجارية، مثل سيليسترون وتيليديسك وإيريديوم وغلوبال ستار. لكن ثورة الإنترنت وأقمارها الصناعية الصغيرة والسهلة الإطلاق قادت تلك الشركات العملاقة إلى الخسارة الشديدة وتغيير نهجها في مجال الإتصالات، خاصة مع ظهور ستارلنك التي باتت توفر عبر أقمارها الاصطناعية تغطية اتصال بالإنترنت للمناطق المحرومة من الكوكب، بالإضافة إلى خدمة بأسعار تنافسية في المناطق الأكثر تحضرًا.
فضلًا عن ذلك، باتت شركة «سبايس إكس» تعلن عن  خطط طويلة الأجل لتطوير ونشر نسخة من نظام الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية لخدمة الأسفار المريخية المستقبلية. 

أقمار اصطناعية... مراكز فضائية عسكرية 
لكن وظيفة الأقمار الاصطناعية في المدارات المنخفضة حول الأرض كانت قد أخذت طابعًا عسكريًا قبل ذلك بعقود، وقبل انتشار ظاهرة الإنترنت وخدماتها الواسعة. فقد ظهرت هذه المشاريع لأول مرة منتصف الثمانينيات كجزء من مبادرة الدفاع الاستراتيجي في الولايات المتحدة الأمريكية، وبلغت ذروتها في مشروع نظام الدفاع الصاروخي الباليستي «بريليانت بابلز» Brilliant Pebbles، الذي يرمي إلى إطلاق الأسلحة من المدار لاعتراض الصواريخ الباليستية المنطلقة من الأرض والتي تعبر في الغلاف الجوي فوق منطقة الستراتوسفير. فعملية رصد انطلاق مثل هذه الصواريخ وتتبعها والتصدي لها تكون متاحة من الأقمار في المدار بشكل أسهل بكثير من عملية الرصد والاعتراض انطلاقًا من القواعد الأرضية.  
وفي عام 2018، وكجزء من حملة إدارة ترامب لإحياء مبادرة الدفاع الاستراتيجي السابقة، شكلت الولايات المتحدة الأمريكية وكالة تطوير الفضاء (Space Development Agency) (SDA)، باستخدام منصات أقمار اصطناعية منخفضة التكلفة في مدارات منخفضة، وظيفتها العمل على تطوير قدرات الدفاع الصاروخي.
وفي أكتوبر 2020 تعاونت وكالة تطوير الفضاء SDA مع شركة «سبايس إكس» وفق عقد مبدئي  لتطوير نسخة عسكرية أولى من حافلة الأقمار الاصطناعية ستارلنك، في برنامج أطلق عليه اسم «ستارشيلد» Starshield، وهو برنامج تم تصميمه للاستخدام الحكومي الأمريكي، مع التركيز الأولي على ثلاثة مجالات، وهي مراقبة الأرض والاتصالات واستضافة الحمولات العسكرية. 
وتحوي تلك الحافلة أقمارًا تقوم بوظائف محددة: نقل البيانات، وإدارة الاتصالات العسكرية المشفرة أثناء المعركة، وتتبع الصواريخ واستهدافها، والملاحة عبر الأقمار الاصطناعية، ودعم القواعد الأرضية. وقد تأجل إطلاق الدفعة الأولى من تلك الأقمار عدة مرات، والموعد المعلن حاليًا هو في مارس 2023.  

نيران الحرب الروسية - الأوكرانية تصل إلى الفضاء! 
سرعان ما وصلت تداعيات الحرب الروسية-الأطلسية إلى الفضاء. ومنذ الأيام الأولى بعد بدء الحرب في 24 فبراير 2022، وربما قبلها، عمدت روسيا، كضرورة عسكرية، إلى عملية تشويش مكثفة على أقمار الـ«جي.بي.إس» GPS الأمريكية فوق أوكرانيا. وقد صرح الجنرال ديفيد طومسون، نائب رئيس العمليات الفضائية الأمريكية بأن روسيا تستهدف نظام نافستار الأمريكي الصنع، والمتاح للعديد من البلدان حول العالم. والمعروف أن روسيا تمتلك نظام GPS خاصًا بها يسمى GLONASS، بينما تستخدم أوربا نظامًا خاصًا بها أيضًا يسمى Galileo، وتعتمد الصين أيضًا على نظام خاص للملاحة عبر الأقمار الاصناعية.
بعد قرار الاستخدام العسكري والحكومي الأوكراني لـ ستارلنك وفتح أوكرانيا لخدمات الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية المنخفضة المدار أوائل عام 2022، كان هذا الاستخدام هو المكوّن الرئيسي لنظام تنسيق جديد ناجح لنيران المدفعية في مايو 2022. كما استفاد المدنيون أيضًا بكثافة من هذه التكنولوجيا للبقاء على اتصال بالعالم الخارجي وإخبار أحبائهم بأنهم على قيد الحياة. وللدلالة على دور ستارلنك في الحرب الروسية ــ الأوكرانية، ذكرت شبكة «سي.إن.إن» الإعلامية أنه في 30 سبتمبر 2022 أبلغت القوات الأوكرانية عند خط المواجهة عن انقطاعات في الإتصالات عبر ستارلنك، مما أدى إلى خسائر «كارثية» على الأرض. وقد نصحت شبكة «سي.إن.إن» بأنه يجب على الجيش الأوكراني التأكد من عدم انقطاع خدمات ستارلنك أثناء تحرير مناطق جديدة.

روسيا أول من دفع ثمن عسكرة الفضاء!
لكن الحرب في فضاء الأقمار الاصطناعية أخذت منحىً جديدًا إثر استهداف الطرّاد الروسي «موسكفا» Moskva  في البحر الأسود بصواريخ أوكرانية وإغراقه، وإعلان القيادة الروسية عن دور أقمار إنترنت «ستارلنك» في توجيه الصواريخ والمسيّرات الأوكرانية. 
وكانت صحيفة «تايمز أوف لندن» Times of London في وقت سابق، قد أفادت بأن أقمار أسطول «ستارلنك» تساعد وحدة الطائرات المسيّرة بدون طيار الأوكرانية Aerorozvidka في تدمير الأسلحة والآليات الروسية.    
وكانت خسارة «موسكفا» بمنزلة ضربة خطيرة للجيش الروسي لأنها لم تكن سفينة عادية، بل كانت السفينة الرائدة في الأسطول الروسي في البحر الأسود. وكانت هذه السفينة مركزًا عائمًا للدفاع الجوي مع ثلاثة مستويات من أسلحة الدفاع الجوي القوية، بما في ذلك صواريخ بعيدة المدى من طراز S-300، وصواريخ متوسطة المدى، إضافةً الى أنظمة أسلحة قصيرة المدى. وقد ترك غرق هذه السفينة ثغرة كبيرة في الدفاع الجوي الروسي في البحر الأسود، مما كشف جميع السفن الروسية العاملة هناك. 
وإثر هذا التطور الخطير، أمر ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، بتدمير مجموعة ستارلنك الفضائية الواقعة فوق أراضي الاتحاد الروسي ومنطقة العمليات العسكرية الخاصة وحوض البحر الأسود من أجل ضمان أمن جميع الوحدات العسكرية الروسية المشاركة في الحرب الروسية الأوكرانية. وذكر ميدفيديف كذلك أن روسيا ليس لديها نية لعسكرة الفضاء الخارجي، لكنها لن تسمح أيضًا للآخرين بالقيام بذلك، مشيرًا إلى أنها ستتخذ إجراءات ضد كل من يحاول عسكرة الفضاء الخارجي. 
   
تداعيات وقف التعاون الفضائي 
على مدى عقود من الزمن، تعاونت الولايات المتحدة وروسيا في الفضاء. من مشروع اختبار أبولو-سويوز عام 1975، الذي حدث في منتصف الحرب الباردة، إلى الشراكة المستمرة في برنامج محطة الفضاء الدولية، عمل البلدان معًا في الفضاء وسط الاضطرابات السياسية على الأرض. ففي صيف عام 1975، التصقت مركبة أبولو الأمريكية وكبسولة سويوز السوفييتية معًا في المدار، وكانت أول مهمة دولية لرواد الفضاء في التاريخ واستعراضًا للانفراج بين القوى العظمى. استمر الرواد الأمريكيون والروس في الالتقاء بالفضاء في التسعينيات، وتناوبوا على قضاء الوقت في المكوكات الفضائية الأمريكية ومحطة الفضاء الروسية «مير». إلى أن ضمّت روسيا جهودها جنبًا إلى جنب مع وكالات الفضاء الأوربية واليابانية لبناء محطة الفضاء الدولية الحالية ISS قطعة قطعة في المدار عام 1998. والمعروف أن المحطة الفضائية الدولية تعتمد حاليًا على أنظمة الدفع الروسية للحفاظ على ارتفاعها في المدار، وهي تنقسم إلى قسمين أمريكي وروسي، وتعتمد على كلا الجانبين للعمل. فبينما توفر وكالة ناسا الأمريكية الكهرباء للمحطة بأكملها، توفر الوكالة الفضائية الروسية «روسكوزموس» محركات الدفع التي تحافظ على مسار المحطة في المدار الصحيح.
الجدير بالذكر، أنه في عام 2014، وإثر تقاعد المكوكات الفضائية الأمريكية، كانت سويوز الروسية هي مركبة النقل الوحيدة إلى محطة الفضاء الدولية، مما أعطى روسيا قدرًا كبيرًا من النفوذ في مجال النقل الفضائي. 
واليوم، بعد أن أعلنت روسيا وقف جميع رحلات سويوز الصاروخية في المهمات الفضائية الأوربية، تسعى وكالة الفضاء الأوربية جاهدة للعثور على رحلات صاروخية بديلة لما لا يقل عن خمس مهمات فضائية مقررة حتى عام 2023: اثنان من أقمار الملاحة الأوربية Galileo، والقمر الاصطناعي لرصد الأرض Earthcare، والقمر أوكليد Euclid لكشف الطاقة المظلمة، إضافة الى قمر اصطناعي وطني فرنسي آخر. 
لا يقتصر التهديد الروسي على وكالة الفضاء الدولية، بل هدد روغوزين، مدير «روسكوزموس»، بالتوقف عن العمل مع الشركاء الأوربيين في القاعدة الفضائية الأوربية في غويانا الفرنسية واستدعاء  الخبراء الروس المتمركزين هناك. 
وماذا عن مهمة أوربا القادمة إلى المريخ؟ فقد كان من المقرر إطلاق المسبار الفضائي الأوربي «إيكزومارس» ExoMars من قاعدة بايكونور الفضائية الروسية في كازاخستان، خلال شهر سبتمبر 2022، على متن الصاروخ الروسي «بروتون»، وبما أن المركبة لم تغادر في ذلك الموعد، بسبب الحرب الروسية الأطلسية، فسيتعين عليها الانتظار لمدة عامين قبل الحصول على فرصة أخرى مواتية فلكيًا للانطلاق نحو الكوكب الأحمر. هذه المهمة أيضًا باتت غير مطروحة على الطاولة بعد أن تبخرت خطط الإطلاق لعام 2022 مع انهيار التعاون الفضائي بين روسيا وأوربا. ويتم الآن تقييم المهمة لإطلاقها في عام 2024 في حال تأمين الصاروخ البديل، خاصة بعد تعثر إطلاق المهمة عام 2020 بسبب مشاكل تقنية، وربما يضطر الأمر إلى الانتظار حتى عام 2026.
واليوم، تتجه الأنظار إلى شركة «سبايس إكس»، لتأمين وسائل نقل بديلة لرواد الفضاء الأمريكيين وزملائهم الأوربيين. كما تبحث الشركة البريطانية «وَن وِيب» One Web عن بديل صاروخي جديد لحمل كوكبة أقمارها الاصطناعية الخاصة بالإنترنت بعد أن أعلنت روسيا عن نيتها تعليق إطلاق صاروخ سويوز Soyuz  لصالح هذه الشركة وتعليق شراكتها مع المشروع الأوربي الصاروخي Arianespace. وإذا سارت الأمور على ما يرام، فسوف تُستبدل صواريخ سويوز الروسية، بصواريخSpaceX Falcon 9  لمصلحة شركة «وَن وِيب» البريطانية هذه.
الجدير بالذكر أن شركة «سبايس إكس» تعمل على تطوير أسطولها من أقمار الاتصالات في إطار مشروعها Starlink megaconstellation (أسطول ستارلنك الأعظم) لتوفير نطاق عريض من التغطية عالي السرعة حول العالم، خاصة في المناطق النائية أو المستبعدة؛ كما تهدف أقمار كوكبة «وَنْ وِبْ» الإنجليزية إلى أن تفعل الشيء نفسه، فيما يبدو عملية سباق للسيطرة على فضاء الإنترنت المحيط بالأرض! 
واليوم، وإذا كان لروسيا أن تستقيل فجأة من مشروع المحطة الفضائية الدولية، فيمكن لوكالة ناسا وشركائها الآخرين، بحسب مديرة ناسا الحالية، باميلا ملروي، التوصل إلى حل طارئ قبل أن تصبح المحطة في خطر أو تصبح خطرًا بحد ذاتها. وقد بدأت ناسا بالفعل تستكشف خيارات دفعٍ أخرى كبديل عن الدور المنوط بالقسم الروسي في المحطة؛ ومن المقرر أن تقوم مركبة فضائية أمريكية رأسية حاليًا ضمن محطة الفضاء الدولية باختبار تحريك المحطة لتعزيز المدار في أبريل.
ولا تقتصر تداعيات الحرب الروسية الأطلسية على مصير المحطة الفضائية الدولية والرحلات الفضائية الأخرى، بل إن هناك مواضيع لا تقل أهمية تتطلب استمرار الدول المتقدمة في التعاون لإنجازها. فروسيا تشارك في مصادم الهادرونات الكبير في غرب جنيف في سويسرا Large Hadron Collider الذي يعول عليه العلماء في البحث العلمي المعمق عن أصل المادة وبالتالي أصل الكون؛ وروسيا تشارك أيضًا في المفاعل الدولي الاندماجي الحراري التجريبي ITER الذي يتم العمل على بنائه جنوب فرنسا بجهود دولية ومساهمات بعشرات مليارات الدولارات، كأكبر تجربة اندماج نووي في العالم، تعد بحل أزمة الطاقة على الأرض عبر تدجين الاندماج الهيدروجيني النووي، كما يحدث في الشمس! ■